و { أَنِ } فى قوله : { أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ } مصدرية على حذف حرف الجر . وسابغات صفة لموصوف محذوف .
أى : ألنا له الحديد ، لكى يعمل منه دروعا سابغات .
والدرع السابغ ، هى الدرع الواسعة التامة . يقال : سبغ الشئ سبوغا ، إذا كان واسعا تاما كاملا . ومنه قولهم : نعمة سابغة ، إذا كانت تامة كاملة .
قال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } وقوله : { وَقَدِّرْ فِي السرد } والتقدير هنا بمعنى الإِحكام والإِجادة وحسن التفكير فى عمل الشئ . والسرد : نسج الدروع وتهيئاتها لوظيفتها .
أى : آتينا داود كل هذا الفضل الذى من جملته إلانة الحديد فى ديه ، وقلنا له يا داود : اصنع دروعا سابغات تامات ، وأحكم نسج هذه الدروع ، بحيث تكون فى أكمل صورة ، وأقوى هيئة .
روى ان الدروع قبل عهد داود كانت تعمل بطريقة تثقل الجسم ، ولا تؤدى وظيفتها لا تثقل الجسم ولا تتعبه ، وفى الوقت نفسه تكون محكمة إحكاما تاما بحيث لا تنفذ منها الرماح ، ولا تقطعها السيوف ، وكان الأمر كله من باب الإِلهام والتعليم من الله - تعالى - لعبده داود - عليه السلام - .
ثم أمر - سبحانه - داود وأهله بالعمل الصالح فقال : { واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
أى : واعملوا عملا صالحا يرضينى ، فإنى مطلع ومحيط ومبصر لكل ما تعملونه من عمل ، وسأجازيكم عليه يوم القيامة بالجزاء الذى تستحقونه .
قال القرطبى : وفى هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع ، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم . بل ذلك زيادة فى فضلهم وفضائلهم ، إذ يحصل لهم التواضع فى أنفسهم ، والاستغناء عن غيرهم ، وكسب الحلال الخالى عن الامتنان . وفى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إن خير ما أكل المرء من عمل يده ، وإن نبى الله داود كان يأكل من عمل يده " .
( أن اعمل سابغات وقدّر في السرد ) .
والسابغات الدروع . روي أنها كانت تعمل قبل داود - عليه السلام - صفائح . الدرع صفيحة واحدة فكانت تصلب الجسم وتثقله . فألهم الله داود أن يصنعها رقائق متداخلة متموجة لينة يسهل تشكيلها وتحريكها بحركة الجسم ؛ وأمر بتضييق تداخل هذه الرقائق لتكون محكمة لا تنفذ منها الرماح . وهو التقدير في السرد . وكان الأمر كله إلهاماً وتعليماً من الله .
( واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير ) . .
لا في الدروع وحدها بل في كل ما تعملون ؛ مراقبين الله الذي يبصر ما تعملون ويجازي عليه ، فلا يفلت منه شيء ، والله به بصير . .
وقوله تعالى : { أن اعمل } قيل إن { أن } مفسرة لا موضع لها من الإعراب{[9606]} ، قيل هي في موضع نصب بإسقاط حرف الجر ، و «السابغات » الدروع الكاسيات ذوات الفضول ، قال قتادة داود عليه السلام أول من صنعها ، ودرع الحديد مؤنث ودرع المرأة مذكر ، وقوله تعالى : { وقدر في السرد } اختلف المتأولون في أي شيء هو التقدير من أشياء السرد ، إذ السرد هو اتباع الشيء بالشيء من جنسه ، قال الشماخ :
«كما تابعت سرد العنان الخوارز »{[9607]}
ومنه سرد الحديث{[9608]} ، وقيل للدرع مسرودة لأنها توبعت فيها الحلق بالحلق ومنه قول الشاعر [ القرطبي ] : [ الكامل ]
وعليهما مسرودتان قضاهما . . . داود أو صَنَعُ السوابغ تبع{[9609]}
بالفارسي المسرد{[9610]} .
فقال ابن زيد : التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة أي لا تعملها صغيرة فتضعف ولا تقوى الدرع على الدفاع ولا تعملها كبيرة فينال لاسبها من خلالها ، وقال ابن عباس التقدير الذي أمر به هو المسمار يريد ثقبه حين يشد نتيرها ، وذكر البخاري في مصنفه ذلك فقال : المعنى لا تدق المسمار فيسلسل ، ويروى فيتسلسل ، ولا تغلظه فيقصم بالقاف ، وبالفاء أيضاً رواية ، وروى قتادة أن الدروع كانت قبله صفائح فكانت ثقالاً ، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع بين الخفة والحصانة ، أي قدر ما يأخذ هذين المعنيين بقسطه ، أي لا تقصد الحصانة فتثقل ولا الخفة وحدها فتزيل المنعة ، وقوله تعالى : { واعملوا صالحاً } لما كان الأمر لداود وآله حكى وإن كانوا لم يجر لهم ذكر لدلالة المعنى عليهم ، ثم توعدهم تعالى بقوله : { إني بما تعملون بصير } أي لا يخفى علي حسنه من قبيحة وبحسب ذلك يكون جزائي لكم .
و{ سابغات } صفة لموصوف محذوف لظهوره من المقام إذ شاع وصف الدروع بالسابغات والسوابغ حتى استغنوا عند ذكر هذا الوصف عن ذكر الموصوف .
ومعنى { قَدِّر } اجعله على تقدير ، والتقدير : جعل الشيء على مقدار مخصوص .
و { السَّرْد } صنع درع الحديد ، أي تركيب حلقها ومساميرها التي تَشُدّ شقق الدرع بعضها ببعض فهي للحديد كالخياطة للثوب ، والدِرع توصف بالمسرودة كما توصف بالسابغة . قال أبو ذؤيب الهذلي :
وعليهما مَسرودتان قضاهما *** داوُد أو صَنَعُ السوابغ تُبَّعُ
ويقال لناسج الدروع : سَرَّاد وزرّاد بالسين والزاي ، وقال المعري يصف درعاً :
وداوُد قين السابغات أذالها *** وتلك أضاة صانها المرء تبع
فلما سخر الله له ما استصعب على غيره أتبعه بأمره بالشكر بأن يعمل صالحاً لأن الشكر يكون بالعمل الذي يرضي المشك والمنعم .
وضمير { اعملوا } لداود وآله كقوله تعالى : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } [ طه : 132 ] أو له وحده على وجه التعظيم .
وقوله : { إني بما تعملون بصير } موقع « إن » فيه موقع فاء التسبب كقول بشار :
والبصير : المطلع العليم ، وهو هنا كناية عن الجزاء عن العمل الصالح .