التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (26)

وبعد أن بين - سبحانه - فيما سبق من آيات كثيراً من الأوامر والنواهى والمحرمات والمباحات . . عقب ذلك ببيان جانب من مظهر فضله على عباده ورحمته بهم فقال - تعالى - : { يُرِيدُ الله . . . . ضَعِيفاً } .

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 26 ) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ( 27 ) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ( 28 )

قوله - تعالى - : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } استئناف مقرر لما سبق من الأحكام ، وقد ساقه - سبحانه - لإِيناس قلوب المؤمنين حتى يمتثلوا عن اقتناع وتسليم لما شرعه الله لهم من أحكام .

قال الآلوسى : ومثل هذا التركيب - قوله { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } . وقع فى كلام العرب قديما وخرجه النحاة على مذاهب :

فقيل مفعول { يُرِيدُ } محذوف أى : يريد الله تحليل ما أحل وتحريم ما حرم ونحوه . واللام للتعليل . . . نسب هذا إلى سيبويه وجمهور البصريين .

فتعلق الإِرادة غير التبيين ، وإنما فعلوه لئلا يتعدى الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام وهو ممتنع أو ضعيف .

وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك ، كما قيل به فى قولهم : " تسمع بالمعيدى خير من أن تراه " أى إرادتى كائنة للتبين . وفيه تكلف .

وذهب الكوفيون إلى أن اللام هى الناصبة للفعل من غير إضمار أن ، وهى وما بعدها مفعول للفعل المقدم أى : يريد الله البيان لكم .

والمعنى : يريد الله - تعالى - بما شرع لكم من أحكام ، وبما ذكر من محرمات ومباحات أن يبين لكم ما فيه خيركم وصلاحكم وسعادتكم ، وأن يميز لكم بين الحلال والحرام والحسن والقبيح .

وقوله : { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ } معطوف على ما قبله .

والسنن : جمع سنة وهى الطريقة وفى أكثر استعمالها تكون للطريقة المثلى الهادية إلى الحق .

أى : ويهديكم مناهد وطرائق من تقدمكم من الأنبياء والصالحين ، لتقتفوا آثارهم وتسلكوا سبيلهم .

وليس المراد أن جميع ما شرعه من حلال أو من حرام كان مشروعا بعينه للأمم السابقة . بل المراد أن الله كما قد شرع للأمم السابقة من الأحكام ما هم فى حاجة إليه وما اقتضته مصالحهم ، فكذلك قد شرع لنا ما نحن فى حاجة إليه وما يحقق مصالحنا ، فإن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة فى ذاتها إلا أنها متفقة فى باب المصالح .

وقوله : { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } معطوف على ما قبله .

والتوبة معناها : ترك الذنب مع الندم عليه والعزم على عدم العود ، وذلك مستحيل فى حقه - سبحانه - لذا قالوا : المراد بها هنا المغفرة لتسببها عنها . أو المراد بها قبول التوبة .

أى : ويقبل توبتكم متى رجعتم إليه بصدق وإخلاص ، فقد تكفل - سبحانه - لعباده أن يغفر لهم خطاياهم متى تابوا إليه توبة صادقة نصوحا وفى التعبير عن قبول التوبة بقوله { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } إشارة إلى ما يتضمنه معنى قبول التوبة من ستر للذنوب ، ومنع لكشفها ، فهى غطاء على المعاصى يمنعها من الظهور حتى يذهب تأثيرها فى النفس :

فالآية الكريمة تحريض على التوبة ، لأن الوعد بقبولها متى كانت صادقة يغرى الناس .

بطرق بابها وبالإِكثار منها . .

وقوله : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أى والله - تعالى - ذو علم شامل لجميع الأشياء ، فيعلم أن ما شرع لكم من أحكام مناسب لكم ، وما سلكه المهتدون من الأمم قبلكم ، ومتى تكون توبة أحدكم صادقة ومتى لا تكون كذلك { حَكِيمٌ } يضع الأمور فى مواضعها . فيبين لمن يشاء ، ويهدى من يشاء ، ويتوب على من يشاء .

فأنت ترى أن هذه الآية قد بينت جانبا من مظاهر فضل الله ورحمته بعباده ، حيث كشفت للناس أن الله - تعالى - يريد بإنزاله لهذا القرآن أن يبين لهم التكاليف التى كلفهم بها ليعرفوا الخير من الشر ، وأن يرشدهم إلى سبل من تقدمهم من أهل الحق ، وأن يغفر لهم ذنوبهم متى أخلصوا له التوبة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (26)

24

ثم يجيء التعقيب الشامل على تلك الأحكام ؛ وعلى تلك التنظيمات التي شرعها الله للأسرة في المنهج الإسلامي ، ليرفع بها المجتمع المسلم من وهدة الحياة الجاهلية ؛ وليرفع بها مستواه النفسي والخلقي والاجتماعي إلى القمة السامقة النظيفة الوضيئة التي رفعه إليها . يجيء التعقيب ليكشف للجماعة المسلمة عن حقيقة ما يريده الله لها بهذا المنهج وبتلك الأحكام والتشريعات والتنظيمات ؛ وعن حقيقة ما يريده بها الذين يتبعون الشهوات ويحيدون عن منهج الله :

( يريد الله ليبين لكم ، ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ويتوب عليكم ، والله عليم حكيم . والله يريد أن يتوب عليكم ، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما . يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الإنسان ضعيفا ) . .

إن الله - سبحانه - يتلطف مع عباده ؛ فيبين لهم حكمة تشريعاته لهم ، ويطلعهم على ما في المنهج الذي يريده لحياتهم من خير ويسر . إنه يكرمهم - سبحانه - وهو يرفعهم إلى هذا الأفق . الأفق الذي يحدثهم فيه ، ليبين لهم حكمة ما يشرعه لهم ؛ وليقول لهم : إنه يريد : أن يبين لهم . .

( يريد الله ليبين لكم ) . .

يريد الله ليكشف لكم عن حكمته ؛ ويريد لكم أن تروا هذه الحكمة ، وأن تتدبروها ، وأن تقبلوا عليها مفتوحي الأعين والعقول والقلوب ؛ فهي ليست معميات ولا ألغازا ؛ وهي ليست تحكما لا علة له ولا غاية ؛ وأنتم أهل لإدراك حكمتها ؛ وأهل لبيان هذه الحكمة لكم . . وهو تكريم للإنسان ، يدرك مداه من يحسون حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، فيدركون مدى هذا التلطف الكريم .

( ويهديكم سنن الذين من قبلكم ) . .

فهذا المنهج هو منهج الله الذي سنه للمؤمنين جميعا . وهو منهج ثابت في أصوله ، موحد في مبادئه ، مطرد في غاياته وأهدافه . . هو منهج العصبة المؤمنة من قبل ومن بعد . ومنهج الأمة الواحدة التي يجمعها موكب الإيمان على مدار القرون .

بذلك يجمع القرآن بين المهتدين إلى الله في كل زمان ومكان ؛ ويكشف عن وحدة منهج الله في كل زمان ومكان ؛ ويربط بين الجماعة المسلمة والموكب الإيماني الموصول ، في الطريق اللاحب الطويل . وهي لفتة تشعر المسلم بحقيقة أصله وأمته ومنهجه وطريقه . . إنه من هذه الأمة المؤمنة بالله ، تجمعها آصرة المنهج الإلهي ، على اختلاف الزمان والمكان ، واختلاف الأوطان ؛ والألوان وتربطها سنة الله المرسومة للمؤمنين في كل جيل ، ومن كل قبيل .

( ويتوب عليكم ) . .

فهو - سبحانه - يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ليرحمكم . . . ليأخذ بيدكم إلى التوبة من الزلل ، والتوبة من المعصية . ليمهد لكم الطريق ، ويعينكم على السير فيه . .

( والله عليم حكيم ) . .

فعن العلم والحكمة تصدر هذه التشريعات . ومن العلم والحكمة تجيء هذه التوجيهات . العلم بنفوسكم وأحوالكم . والعلم بما يصلح لكم وما يصلحكم . والحكمة في طبيعة المنهج وفي تطبيقاته على السواء . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (26)

اختلف النحاة في اللام من قوله : { ليبين } فمذهب سيبويه رحمه الله : أن التقدير «لأن يبين » والمفعول مضمر ، تقديره : يريد الله هذا ، فإن كانت لام الجر أو لام كي فلا بد فيهما من تقدير «أن » لأنهما لا يدخلان إلا على الأسماء وقال الفراء والكوفيون : اللام نفسها بمنزلة «أن » وهو ضعيف ، ونظير هذه اللام قول الشاعر : [ الطويل ]

أريدُ لأنسى ذكرَها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[3966]}

وقال بعض النحاة : التقدير إرادتي لأنسى . { ويهديكم } بمعنى : يرشدكم ، لا يتوجه غير ذلك ، بقرينة السنن ، وال { سنن } : الطرق ووجوه الأمور وأنحاؤها .

قال القاضي أبو محمد : ويظهر من قوة هذا الكلام أن شرعتنا في المشروعات كشرعة من قبلنا ، وليس ذلك كذلك ، وإنما هذه الهداية في أحد أمرين ، إما في أنّا خوطبنا في كل قصة نهياً وأمراً ، كما خوطبوا هم أيضاً في قصصهم ، وشرع لنا كما شرع لهم ، فهدينا سننهم في ذلك ، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم ، والأمر الثاني أن هدينا سننهم في أن أطعنا وسمعنا كما سمعوا وأطاعوا ، فوقع التماثل من هذه الجهة{[3967]} .

والذين من قبلنا : هم المؤمنون في كل شريعة ، وتوبة الله على عبده هي رجوعه به عن المعاصي إلى الطاعات وتوفيقه له ، وحسن { عليم } هنا بحسب ما تقدم من سنن الشرائع وموضع المصالح و { حكيم } أي مصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان .


[3966]:- الشاعر هو كثير عزة، وهذا جزء من أول البيت، وتمامه: أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل والفراء يرى أن العرب تعاقب بين لام (كي) و(أن)، فتأتي باللام التي على معنى (كي) في موضع (أن) في: أردت وأمرت، فيقولون: أردت أن تفعل، وأردت لتفعل، لأنهما يطلبان المستقبل، وفي التنزيل: [وأمرت لأعدل بينكم]. [يريدون ليطفئوا نور الله]، [يريدون أن يطفئوا نور الله]، وعلى ذلك يكون معنى بيت كثير عنده: أريد أن أنسى- قال النحاس: وخطأ الزجاج هذا القول، وقال: لو كانت اللام بمعنى [أن] لدخلت عليها لام أخرى، كما تقول: جئت كي تكرمني، ثم تقول: جئت لكي تكرمني، وأنشدنا. أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود وابن عطية على رأي الزجاج، وهو مذهب سيبويه، ولهذا علّق على رأي الفراء والكوفيين بقوله: "وهو ضعيف". هذا والبيت الذي أنشده الزجاج لقيس بن عبادة، وكان قد طاول روميا بين يدي معاوية فتجرد قيس من سراويله وألقاها إلى الرومي ففضلت عنه، وقال هذا البيت ومعه بيت آخر يعتذر من إلقاء سراويله في المشهد المجموع. راجع اللسان- مادة (سرل)
[3967]:- اختلف العلماء في قوله تعالى: [سنن الذين من قبلكم]- هل ذلك على ظاهره من الهداية لسننهم أو على التشبيه، أي: سننا مثل سنن الذين من قبلنا؟ فمن قال إنه على ظاهره أراد أن السنن هي ما حرم علينا وعليهم بالنسب والرضاع والمصاهرة، وقيل: المراد بها ما ذكره سبحانه في قوله: [شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا]. وقيل: مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين. وعلى هذه الأقوال فالمراد بـ [الذين من قبلكم]: الأنبياء وأهل الخير- ومن قال إن ذلك على التشبيه أراد أن المعنى أن طرق الأمم السابقة في هدايتها كان بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وكذلك جعل طريقنا إلى شرائع الدين بالبيان والتفصيل-وقيل: الهداية في أحد أمرين... وهو الذي وضحه ابن عطية.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (26)

تذييل يقصد منه استئناس المؤمنين واستنزال نفوسهم إلى امتثال الأحكام المتقدّمة من أوّل السورة إلى هنا ، فإنّها أحكام جمّة وأوامر ونواه تفضي إلى خلع عوائدَ ألفوها ، وصرفِهم عن شهوات استباحوها ، كما أشار إليه قوله بعد هذا { ويريد الذين يتبعون الشهوات } [ النساء : 27 ] ، أي الاسترسال على ما كانوا عليه في الجاهلية ، فأعقب ذلك ببيان أنّ في ذلك بيانا وهُدى . حتّى لا تكون شريعة هذه الأمّة دون شرائع الأمم التي قبلها ، بل تفوقُها في انتظام أحوالها ، فكان هذا كالاعتذار على ما ذكر من المحرّمات . فقوله : { يريد الله ليبين لكم } تعليل لتفصيل الأحكام في مواقع الشبهات كي لا يضلّوا كما ضلّ من قبلهم ، ففيه أنّ هذه الشريعة أهدى ممّا قبلها .

وقوله : { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } بَيان لقصدِ إلحاق هذه الأمّة بمزايا الأمم التي قبلها .

والإرادة : القصد والعزم على العمل ، وتطلق على الصفة الإلهيّة التي تخصّص الممكن ببعض ما يجوز عليه . والامتنانُ بما شرعه الله للمسلمين من توضيح الأحكام قد حصلت إرادته فيما مضى ، وإنّا عُبّر بصيغة المضارع هنا للدلالة على تجدّد البيان واستمراره ، فإنّ هذه التشريعات دائمة مستمرّة تكون بيانا للمخاطبين ولمن جاء بعدهم ، وللدلالة على أنّ الله يُبقي بعدها بياناً متعاقباً .

وقوله : { يريد الله ليبين لكم } انتصب فعل ( يبيّنَ ) بأنْ المصدرية محذوفة ، والمصدر المنسبك مفعول ( يريد ) ، أي يريد الله البيانَ لكم والهُدى والتوبةَ ، فكانَ أصل الاستعمال ذكر ( أنْ ) المصدرية ، ولذلك فاللام هنا لتوكيد معنى الفعل الذي قبلها ، وقد شاعت زيادة هذه اللاّم بعد مادّة الإرادة وبعد مادّة الأمر معاقِبة لأن المصدرية . تقول ، أريد أن تفعل وأريد لِتَفْعَل ، وقال تعالى : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } [ التوبة : 32 ] وقال : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } [ الصف : 8 ] وقال : { وأمرت أن أسلم لرب العالمين } [ غافر : 66 ] وقال : { وأمرت لأعدل بينكم } [ الشورى : 15 ] فإذا جاؤوا باللاّم أشبهت لام التعليل فقدّروا ( أنْ ) بعد اللام المؤكّدة كما قد روها بعد لاَم كي لأنّها أشبهتها في الصورة ، ولذلك قال الفرّاء : اللام نائبة عن أن المصدرية . وإلى هذه الطريقة مال صاحب « الكشاف » .

وقال سيبويه : هي لام التعليل أي لام كي ، وأنّ ما بعدها علّة ، ومفعولَ الفعل الذي قبلها محذوف يقدّر بالقرينة ، أي يريد الله التحليل والتحريم ليبيّن . ومنهم من قرّر قول سيبويه بأنّ المفعول المحذوف دلّ عليه التعليل المذكور فيقدّر : يريد الله البيانَ ليبيّن ، فيكون الكلام مبالغة بجعل العلّة نفس المعلّل .

وقال الخليل ، وسيبويه في رواية عنه : اللاّم ظَرف مستقرّ هو خبر عن الفعل السابق ، وذلك الفعلُ مقدّر بالمصدر دون سابك على حدّ « تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه » أي إرادة الله كائنة للبيان ، ولعلّ الكلام عندهم محمول على المبالغة كأنّ إرادة الله انحصرت في ذلك .

وقالت طائفة قليلة : هذه اللاّم للتقوية على خلاف الأصل ، لأنّ لام التقوية إنّما يجاء بها إذا ضعف العامل بالفرعية أو بالتأخّر . وأحسن الوجوه قول سيبويه ، بدليل دخول اللام على كَي في قول قيس بن سعد بن عَبادة الخزرجي .

أردتُ لكيمَا يَعْلَمَ الناسُ أنّها *** سَراويلُ قَيس والوفود شهود

وعن النحّاس أنّ بعض القرّاء سمّى هذه اللاّم لام ( أنْ ) .

ومعنى { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } الهداية إلى أصول ما صلح به حال الأمم التي سبقتنا ، من كليات الشرائع ، ومقاصدها . قال الفخر : « فإن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها ، إلاّ أنّها متّفقة في باب المصالح » . قلت : فهو كقوله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } الآية .

وقوله : { ويتوب عليكم } أي يتقبّل توبتكم ، إذْ آمنتم ونبذتم ما كان عليه أهل الشرك من نكاح أزواج الآباء ، ونكاح أمّهات نسائكم ، ونكاح الربائب ، والجمع بين الأختين .

ومعنى : { ويتوب عليكم } يقبل توبتكم الكاملة باتّباع الإسلام ، فلا تنقضوا ذلك بارتكاب الحرام . وليس معنى { ويتوب عليكم } يوفّقكم للتوبة ، فيشكل بأنّ مراد الله لا يتخلّف ، إذ ليس التوفيق للتوبة بمطّرد في جميع الناس . فالآية تحريض على التوبة بطريق الكناية لأنّ الوعد بقبولها يستلزم التحريض عليها مثل ما في الحديث : " فيقول هل من مستغفر فأغفر له ، هل من داع فأستجيب له " هذا هو الوجه في تفسيرها ، وللفخر وغيره هنا تكلّفات لا داعي إليها .

وقوله : { والله عليم حكيم } مناسب للبيان والهداية والترغيب في التوبة بطريق الوعد بقبولها ، فإنّ كلّ ذلك أثر العلم والحكمة في إرشاد الأمّة وتقريبها إلى الرشد .