التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا فَٱعۡبُدۡهُ وَٱصۡطَبِرۡ لِعِبَٰدَتِهِۦۚ هَلۡ تَعۡلَمُ لَهُۥ سَمِيّٗا} (65)

ثم قال - تعالى - : { رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } أى : هو رب السموات والأرض ورب ما بينهما ، وهو خالقهما وخالق كل شىء ، ومالكهما ومالك كل شىء .

وما دام الأمر كذلك : { فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ } أى : فأخلص له العبادة ووطن نفسك على أداء هذه العبادة بصبر وجلد وقوة احتمال ، فإن المداومة على طاعة الله تحتاج إلى عزيمة صادقة ، ومجاهدة للنفس الأمارة بالسوء .

والاستفهام فى قوله : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } للإنكار والنفى . والسمى بمعنى المسامى والمضاهى والنظير والشبيه .

أى : هل تعلم له نظيرا أو شبيهاً يستحق معه المشاركة فى العبادة أو الطاعة ؟ كلا ، إنك لا تعلم ذلك ، لأنه - سبحانه - هو وحده المستحق للعبادة والطاعة ، إذ هو الخالق لكل شىء والعليم بكل شىء ، والقادر على كل شىء ، وما سواء إنما هو مخلوق له ، وساجد له طوعاً أو كرهاً ، ولا شبهة فى صفة من صفاته ، فهو - سبحانه - { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا فَٱعۡبُدۡهُ وَٱصۡطَبِرۡ لِعِبَٰدَتِهِۦۚ هَلۡ تَعۡلَمُ لَهُۥ سَمِيّٗا} (65)

( رب السماوات والأرض وما بينهما ) . . فلا ربوبية لغيره ، ولا شرك معه في هذا الكون الكبير .

( فاعبده واصطبر لعبادته ) . . اعبده واصطبر على تكاليف العبادة . وهي تكاليف الارتقاء إلى أفق المثول بين يدي المعبود ، والثبات في هذا المرتقى العالي . اعبده واحشد نفسك وعبى ء طاقتك للقاء والتلقي في ذلك الأفق العلوي . . إنها مشقة . مشقة التجمع والاحتشاد والتجرد من كل شاغل ، ومن كل هاتف ومن كل التفات . . وإنها مع المشقة للذة لا يعرفها إلا من ذاق . ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة ، وإلا بالتجرد لها ، والاستغراق فيها ، والتحفز لها بكل جارحة وخالجة . فهي لا تفشي سرها ولا تمنح عطرها إلا لمن يتجرد لها ، ويفتح منافذ حسه وقلبه جميعا .

( فاعبده واصطبر لعبادته ) . . والعبادة في الإسلام ليست مجرد الشعائر . إنما هي كل نشاط : كل حركة . كل خالجة . كل نية . كل اتجاه . وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلى الله وحده دون سواه . مشقة تحتاج إلى الاصطبار . ليتوجه القلب في كل نشاط من نشاط الأرض إلى السماء . خالصا من أوشاب الأرض وأوهاق الضرورات ، وشهوات النفس ، ومواضعات الحياة .

إنه منهج حياة كامل ، يعيش الإنسان وفقه ، وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة أنه يتعبد الله ؛ فيرتفع في نشاطه كله إلى أفق العبادة الطاهر الوضيء . وإنه لمنهج يحتاج إلى الصبر والجهد والمعاناة .

فاعبده واصطبر لعبادته . . فهو الواحد الذي يعبد في هذا الوجود والذي تتجه إليه الفطر والقلوب . . ( هل تعلم له سميا ? ) . هل تعرف له نظيرا ? تعالى الله عن السمي والنظير . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا فَٱعۡبُدۡهُ وَٱصۡطَبِرۡ لِعِبَٰدَتِهِۦۚ هَلۡ تَعۡلَمُ لَهُۥ سَمِيّٗا} (65)

وقوله { رب } بدل من قوله { وما كان ربك } ، وقوله { فاعبده واصطبر لعبادته } أمر بحمل تكاليف الشرع وإشعار ما بصعوبتها كالجهاد والحج والصدقات فهي شريعة تحتاج الى اصطبار أعاننا الله عليها بمنه . وقرأ الجمهور «هل تعلم » بإظهار اللام ، وقرأ بن نصر عن أبي عمرو بإدغام اللام في التاء وهي قراءة عيسى والأعمش والحسن وابن محيصن قال أبو علي : سيبويه يجيز إدغام اللام في الطاء والتاء والدال والثاء والضاد والزاي والسين ، وقرأ أبو عمرو «وهل ثوب »{[7999]} بإدغامها في الثاء وإدغامها في التاء أحق لأنها أدخل معها في الفم ومن إدغامها في التاء ما روي من قول مزاحم العقيلي : [ الطويل ]

فذر ذا ولكن هل تعين متيماً . . . على ضوء برق آخر الليل ناصب{[8000]}

وقوله { سمياً } ، قال قوم : وهو ظاهر اللفظ معناه موافقاً في الاسم وهذا يحسن فيه أن يريد بالاسم ما تقدم من قوله { رب السماوات والأرض وما بينهما } أي هل تعلم من يسمى بهذا ويوصف بهذه الصفة ؟ وذلك أن الأمم{[8001]} والفرق لا يسمون بهذا الأسم وثناً ولا شيئاً سوى الله تعالى ، وأما الألوهية والقدرة وغير ذلك فقد يوجه السمي فيها وذلك باشتراك لا بمعنى واحد . وقال ابن عباس وغيره : قوله { سمياً } معناه مثيلاً أو شبيهاً أو نحو ذلك ، وهذا قول حسن ، وكأن السمي بمعنى المسامي والمضاهي فهو من السمو ، وهذا القول يحسن في هذه الآية ولا يحسن فيما تقدم في ذكر يحيى عليه السلام{[8002]} .


[7999]:من الآية (36) من سورة (المطففين)، وفي البحر المحيط أن الجمهور قرأ: {هل ثوب} بإظهار لا هل، والنحويان، وحمزة، وابن محيصن بإدغامها في الثاء. والنحويان هما أبو عمرو بن العلاء، وعلي بن حمزة الكسائي.
[8000]:مزاحم بن الحارث العقيلي شاعر إسلامي، كان بدويا فصيحا، وكان في زمن جرير والفرزدق، وكان جرير يقرظه ويقدمه، والبيت في الكتاب لسيبويه، والرواية فيه: "فدع ذا"، والمتيم: الذي تيمه الحب واسعبده، والناصب: المنصب المتعب، وهو غير جار على فعله ؛ لأن الفعل (أنصب) فهو منصب، وإنما هو على النسب كتامر ولابن. قد جعل البرق متعبا له لما يعانيه من مراعاته وتعرف المكان الذي ينزل فيه مطره، هل يكون في مكان المحبوب أم في غيره، ولهذا سأل أن يعان على مراعاته، أو طلب من يعينه على السهر معه لما يحدثه البرق من شجو وحنين. والشاهد فيه إدغام اللام في التاء، أي: لام (هل) في تاء (تعين) لأنهما متقاربان في المخرج، إذ هما من حروف طرف اللسان الصعبة في النطق، فهي أحوج إلى الإدغام من غيرها، ولهذا فإن بعض القراء أدغم اللام في التاء في قوله تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا} فقرأ: [بتؤثرون].
[8001]:في بعض النسخ: "وذلك أن الأمم والفرق".
[8002]:أي في قوله تعالى قبل ذلك: {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا}.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا فَٱعۡبُدۡهُ وَٱصۡطَبِرۡ لِعِبَٰدَتِهِۦۚ هَلۡ تَعۡلَمُ لَهُۥ سَمِيّٗا} (65)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: لم يكن ربك يا محمد ربّ السموات والأرض وما بينهما نسيا، لأنه لو كان نسيا لم يستقم ذلك، ولهلك لولا حفظه إياه...

وقوله:"فاعْبُدْه" يقول: فالزم طاعته، وذلّ لأمره ونهيه. "وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ "يقول: واصبر نفسك على النفوذ لأمره ونهيه، والعمل بطاعته، تفز برضاه عنك، فإنه الإله الذي لا مثل له ولا عدل ولا شبيه في جوده وكرمه وفضله.

"هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا" يقول: هل تعلم يا محمد لربك هذا الذي أمرناك بعبادته، والصبر على طاعته مثلاً في كرمه وجوده، فتعبده رجاء فضله وطوله دونه؟ كلا، ما ذلك بموجود... عن ابن عباس، في قوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا قال: شبيها...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{هل تعلم له سميا} أي ما تعلم له شريكا، تشتغل بعبادته عن عبادة الله. إنما هو إله واحد، لا راحة لك عن عبادته، ولا يشغلك عنه. وقال بعض أهل التأويل: هل تعلم أحدا، اسمه الله سواه. وقال بعضهم: هل تعلم له مثلا وشبيها...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

بحق الإظهار يجب أن يكون هو ربَّها، ويكون مالكها، ويكون قادراً عليها. وإذا وجدت فهو فاعلها، فمعنى كون فعل الشيء لفاعله أنه في مقدوره وجوده. ويقال إذا كان ربّ الأكابرِ من الأقوياء فهو أيضاً ربُّ الأصاغر من الضعفاء، وقيمةُ العَبْدِ بمالِكِه وقَدْرِه، لا بثمنه في نَفْسِه وَخَطَره.

قوله: {فَاعْبُدْهُ} أي قِفْ حيثما أمرك، ودَعْ ما يقع لك، وخَلِّ رأيك وتدبيرك. قوله {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ}: الاصطبار غاية الصبر. قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}: أي كفواً ونظيراً...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{رَبُّ السماوات والأرض} بدل من ربك، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو رب السموات والأرض {فاعبده}... وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] من كلام المتقين، وما بعده من كلام رب العزة. فإن قلت: هلا عدّي {وَاْصْطَبِر} بعلى التي هي صلته، كقوله تعالى: {واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132]؟ قلت: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك، أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته، أريد أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق، فاثبت لها ولا تهن، ولا يضق صدرك عن إلقاء عداتك من أهل الكتاب إليك الأغاليط، وعن احتباس الوحي عليك مدة وشماتة المشركين بك. [هل تعلم له سميا] أي: لم يسم شيء بالله قط، وكانوا يقولون لأصنامهم آلهة، والعزى إله، وأما الذي عوض فيه الألف واللام من الهمزة، فمخصوص به المعبود الحق غير مشارك فيه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يسمى أحد الرحمن غيره. ووجه آخر: هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل، لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتدّ بها كلا تسمية...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{رب} بدل من قوله {وما كان ربك}، وقوله {فاعبده واصطبر لعبادته} أمر بحمل تكاليف الشرع وإشعار ما بصعوبتها كالجهاد والحج والصدقات فهي شريعة تحتاج الى اصطبار...

[هل تعلم له سميا]... وكأن السمي بمعنى المسامي والمضاهي فهو من السمو...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما وصف سبحانه وتعالى بنفوذ الأمر واتساع العلم على وجه ثبت به ما أخبر به عن الجنة، فثبت أمر البعث، أتبع ذلك ما يقرره على وجه أصرح منه وأعم فقال مبدلاً من {ربك}: {رب السماوات والأرض} اللتين نحن من جملة ما فيهما من عباده {وما بينهما} منا ومن غيرنا من الأحياء وغيرها {فاعبده} بالمراقبة الدائمة على ما ينبغي له من مثلك {واصطبر} أي اصبر صبراً عظيماً بغاية جهدك على كل ما ينبغي الاصطبار عليه كذلك {لعبادته} أي لأجلها فإنها لا تكون إلا عن مجاهدة شديدة؛ ثم علل ذلك بقوله: {هل تعلم له سمياً} أي متصفاً بوصف من أوصافه اتصافاً حقيقياً، أو مسمى باسمه، العلمَ الواقع موقع لأنه لا مماثل له حتى ولا في مجرد الاسم، وإيراده بصورة الاستفهام كالدعوى بدليلها

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

ثم علل إحاطة علمه، وعدم نسيانه، بأنه {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فربوبيته للسماوات والأرض، وكونهما على أحسن نظام وأكمله، ليس فيه غفلة ولا إهمال، ولا سدى، ولا باطل، برهان قاطع على علمه الشامل، فلا تشغل نفسك بذلك، بل اشغلها بما ينفعك ويعود عليك طائله، وهو: عبادته وحده لا شريك له، {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} أي: اصبر نفسك عليها وجاهدها، وقم عليها أتم القيام وأكملها بحسب قدرتك، وفي الاشتغال بعبادة الله تسلية للعابد عن جميع التعلقات والمشتهيات، كما قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} إلى أن قال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} الآية. {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي: هل تعلم لله مساميا ومشابها ومماثلا من المخلوقين. وهذا استفهام بمعنى النفي، المعلوم بالعقل. أي: لا تعلم له مساميا ولا مشابها، لأنه الرب، وغيره مربوب، الخالق، وغيره مخلوق، الغني من جميع الوجوه، وغيره فقير بالذات من كل وجه، الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وغيره ناقص ليس فيه من الكمال إلا ما أعطاه الله تعالى، فهذا برهان قاطع على أن الله هو المستحق لإفراده بالعبودية، وأن عبادته حق، وعبادة ما سواه باطل، فلهذا أمر بعبادته وحده، والاصطبار لها، وعلل ذلك بكماله وانفراده بالعظمة والأسماء الحسنى.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(رب السماوات والأرض وما بينهما).. فلا ربوبية لغيره، ولا شرك معه في هذا الكون الكبير. (فاعبده واصطبر لعبادته).. اعبده واصطبر على تكاليف العبادة. وهي تكاليف الارتقاء إلى أفق المثول بين يدي المعبود، والثبات في هذا المرتقى العالي. اعبده واحشد نفسك وعبى ء طاقتك للقاء والتلقي في ذلك الأفق العلوي.. إنها مشقة. مشقة التجمع والاحتشاد والتجرد من كل شاغل، ومن كل هاتف ومن كل التفات.. وإنها مع المشقة للذة لا يعرفها إلا من ذاق. ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة، وإلا بالتجرد لها، والاستغراق فيها، والتحفز لها بكل جارحة وخالجة. فهي لا تفشي سرها ولا تمنح عطرها إلا لمن يتجرد لها، ويفتح منافذ حسه وقلبه جميعا. (فاعبده واصطبر لعبادته).. والعبادة في الإسلام ليست مجرد الشعائر. إنما هي كل نشاط: كل حركة. كل خالجة. كل نية. كل اتجاه. وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلى الله وحده دون سواه. مشقة تحتاج إلى الاصطبار. ليتوجه القلب في كل نشاط من نشاط الأرض إلى السماء. خالصا من أوشاب الأرض وأوهاق الضرورات، وشهوات النفس، ومواضعات الحياة. إنه منهج حياة كامل، يعيش الإنسان وفقه، وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة أنه يتعبد الله؛ فيرتفع في نشاطه كله إلى أفق العبادة الطاهر الوضيء. وإنه لمنهج يحتاج إلى الصبر والجهد والمعاناة. فاعبده واصطبر لعبادته.. فهو الواحد الذي يعبد في هذا الوجود والذي تتجه إليه الفطر والقلوب.. (هل تعلم له سميا؟). هل تعرف له نظيرا؟ تعالى الله عن السمي والنظير...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

جملة مستأنفة من كلام الله تعالى كما يقتضيه قوله {فاعْبُدْهُ} إلى آخره ذيل به الكلام الذي لقنه جبريل المتضمن: أن الملائكة لا يتصرفون إلاّ عن إذن ربّهم وأنّ أحوالهم كلّها في قبضته بما يفيد عموم تصرفه تعالى في سائر الكائنات، ثمّ فرع عليه أمر الرسول عليه السلام بعبادته، فقد انتقل الخطاب إليه. والسماوات: العوالم العلوية. والأرض: العالم السفلي، وما بينهما: الأجواء والآفاق. وتلك الثلاثة تعم سائر الكائنات...

والخطاب في {فَاعبُدهُ واصْطَبِر} و {هَلْ تَعْلَمُ} للنبيء صلى الله عليه وسلم وتفريع الأمر بعبادته على ذلك ظاهر المناسبة ويحصل منه التخلّص إلى التنويه بالتّوحيد وتفظيع الإشراك. والاصطبار: شدّة الصبر على الأمر الشاق، لأنّ صيغة الافتعال تَرِد لإفادة قوّة الفعل. وكان الشأن أن يعدى الاصطبار بحرف (على) كما قال تعالى: {وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [طه: 132] ولكنه عدي هنا باللاّم لتضمينه معنى الثّبات. أي اثبت للعبادة، لأنّ العبادة مراتب كثيرة من مجاهدة النفس، وقد يغلب بعضها بعض النّفوس فتستطيع الصبر على بعض العبادات دون بعض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء: « هي أثقل صلاة على المنافقين» فلذلك لما أمر الله رسوله بالصبر على العبادة كلها وفيها أصناف جمّة تحتاج إلى ثبات العزيمة، نزل القائم بالعبادة منزلة المغالب لنفسه، فعدي الفعل باللاّم كما يقال: اثبت لعُدَاتك...

وجملة {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} واقعة موقع التعليل للأمر بعبادته والاصطبار عليها. فانتفاء تسمية غيره من الموجودات المعظمة باسمه كناية عن اعتراف الناس بأن لا مماثل له في صفة الخالقية، لأنّ المشركين لم يجترئوا على أن يدعوا لآلهتهم الخالقية. قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25]. وبذلك يتمّ كون الجملة تعليلاً للأمر بإفراده بالعبادة على هذا الوجه أيضاً. وكنّي بانتفاء العلم بسميّه عن انتفاء وجود سميّ له، لأنّ العلم يستلزم وجود المعلوم، وإذا انتفى مماثله انتفى من يستحق العبادة غيره.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

فلا تظن أن الكون قائم على قانون يديره، بل على القيومية القائمة على كل أمر من أمور الكون، والحق تبارك وتعالى لا تأخذه سنة ولا نوم. فمادام الأمر كذلك، وأنه تعالى يعلم ما بين أيدينا وما خلفنا، وما بين ذلك، وأنه تعالى قيوم لا ينسى ولا يغفل وبه يقوم الكون. فهو إذن يستحق العبادة والطاعة فيما أمر وقد أعطاك قبل أن يكلفك عطاء لا تستطيع أنت أن تفعله لنفسك، ثم تركك تربع في هذا النعيم خمس عشرة سنة دون أن يكلفك بشيء من العبادات. لذلك هنا يقول تعالى: {رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته} ولابد أن نعلم أن الله تعالى له الكمال المطلق قبل أن يخلق الخلق وبصفات الكمال خلق، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية. فإن قلت: فلماذا إذن يكلف الخلق بالأمر والنهي؟ نقول: كلف الله الخلق لتستمر حركة الحياة وتتساند الجهود ولا تتصادم، فيحدث في حياتهم الارتقاء ويسعدوا بها، إنما لو تركهم وأهواءهم لفسدت الحياة، فأنت تبني وغيرك يهدم. والحق تبارك وتعالى يقول: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض.. "71 "} (سورة المؤمنون). إذن: التشريعات جعلت لصالحنا نحن: {فاعبده واصطبر لعبادته} لأن العبادة فيها مشقة، فلابد لها من صبر؛ لأنها تأمرك بأشياء يشق عليك أن تفعلها، وينهاك عن أشياء يشق عليك أن تتركها لأنك ألفتها. {هل تعلم له سمياً} أي: لم يسبق أن تسمى أحد بهذا الاسم. وكذلك الحق تبارك وتعالى لم يتسم أحد باسمه، لا قبل هذه الآية، ولا بعد أن أطلقها رسول الله تحدياً بين الكفار والملاحدة الذين يتجرؤون على الله. فلماذا لم يجرؤ أحد من هؤلاء أن يسمي ولده الله؟ الحقيقة أن هؤلاء وإن كانوا كفاراً وملاحدة إلا أنهم في قرارة أنفسهم يؤمنون بالله، ويعترفون بوجوده، ويخافون من عاقبة هذه التسمية، ولا يأمنون أن يصيبهم السوء بسببها.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{رَّبُّ السَّمَواَتِ وَالأرْضِ} الذي خلقها وخلق كل شيء فيها، فهو المهيمن عليها بعلمه وقدرته، {وَمَا بَيْنَهُمَا} من المخلوقات التي تتحرك بإرادته، لا شريك له في ذلك، وهو المستحق للعبادة، لأن كل من عداه فهو مخلوق له، فكيف يكون معبوداً من دونه، {فَاعْبُدْه} في كل ما أمرك به ونهاك عنه، واخشع له في نبضات قلبك، وهمسات روحك، واهتزازات مشاعرك، وابتهالات شفتيك، وانقياد أعضائك، وانسحاق إرادتك أمام إرادته، {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِه} في ما يفرضه عليك الإخلاص لها والاستمرار عليها من معاناة للحرمان، وتحمّلٍ للجهد، ومجابهةٍ للتحديات، فإن توحيد الله في العبادة يضع الإنسان في قلب المواجهة مع قوى الشرك في ما تمارسه عليه من ضغوط نفسية وجسدية، وحصار مادي معنوي، ما يجعل للصبر معنى يتصل بالثبات والاتزان والاستقامة على الخط أمام عوامل الاهتزاز والانحراف... وهذا ما يحقق للإنسان وجوده الروحي أمام الله رب السماوات والأرض الذي لا رب غيره، فابحث في كل زاوية من زوايا السماوات والأرض وفيما بينهن، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} في ما يعنيه الاسم المعبَّر عن القدرة المطلقة التي يرجع إليها الخلق، والأمر كله، فإنك مهما بحثت، فلن تجد إلا قدرةً محدودةً مستمدةً من قدرته، أو وجوداً مستمداً من وجوده، فكيف يعادله شيءٌ من خلقه.. إن السؤال لا يطرح المسألة من موقع الحاجة إلى المعرفة في حركة علامات الاستفهام، بل يطرحه من موقع الإنكار الحازم للفكرة في نطاق النفي المطلق لكل مواقعها.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ثمّ تضيف الآية: إن كل ذلك بأمر ربّك (ربّ السماوات والأرض وما بينهما) فإِذا كان الأمر كذلك، وكل الخطوط تنتهي إِليه (فاعبده) عبادة مقترنة بالتوحيد والإِخلاص. ولما كان هذا الطريق طريق العبودية والطاعة وعبادة الله الخالصة مليء بالمشاكل والمصاعب، فقد أضافت (واصطبر لعبادته)، وتقول في آخر جملة: (هل تعلم له سمياً). وهذه الجملة في الواقع، دليل على ما جاء في الجملة السابقة، يعني: هل لذاته المقدسة شريك ومثيل حتى تمد يدك إليه وتعبده؟