وبعد هذا الدعاء المخلص ، وجه الله - تعالى - نبيه موسى وأخاه هارون - عليهما السلام - إلى ما يوصل إلى نصرهما ونصر أتباعهما فقال - تعالى - { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً . . }
وقوله { تبوءا } من التبؤ وهو اتخاذ المباءة أى المنزل ، كالتوطن بمعنى اتخاذ الوطن .
يقال بوأته وبوأت له منزلا إذا أنزلته فيه ، وهيأته له .
والمعنى : وأوحينا إلى موسى وأخيه هارون بعد أن لج فرعون في طغيانه وفى إنزال العذاب بالمؤمنين - أن اتخذا لقومكما المؤمنين بيوتا خاصة بهم في مصر ، ينزلون بها ، ويستقرون فيها ، ويعتزلون فرعون وجنده ، إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا .
وقوله { واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أى : واجعلوا هذه البيوت التي حللتم بها مكانا لصلاتكم وعبادتكم ، بعد أن حال فرعون وجنده بينكم وبين أداء عباداتكم في الأماكن المخصصة لذلك .
قال القرطبي : " المراد صلوا في بيوتكم سرا لتأمنوا ، وذلك حين أخافوا فرعون ، فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت ، والإِقدام على الصلاة ، والدعاء ، إلى أن ينجز الله وعده ، وهو المراد بقوله { قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا } وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البيع والكنائس ما داموا على أمن ، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم . . . " .
وقوله : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } أى : داوموا عليها ، وأدوها في أوقاتها بخشوع وإخلاص ، فإن في أدائها بهذه الصورة . وسيلة إلى تفريج الكروب ، وفى الحديث الشريف : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حز به أمر صلى " .
وقوله { وَبَشِّرِ المؤمنين } تذييل قصد به بعث الأمل في نفوسهم متى أدوا ما كلفوا به .
أى : وبشر المؤمنين بالنصر والفلاح في الدنيا ، وبالثواب الجزيل في الآخرة .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : كيف نوع الخطاب فثنى أولا ، ثم جمع ، ثم وحد آخرا ؟
قلت : " خوطب موسى وهارون - عليه السلام - أن يتبوآ لقومهما بيوتا ويختاراها للعبادة ، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء . ثم سيق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ، لأن ذلك واجب على الجمهور . ثم خص موسى - عليه السلام - بالبشارة التي هي الغرض تعظيما لها ، وللمبشر بها " .
ولأن بشارة الأمة - كما يقول الآلوسى - وظيفة صاحب الشريعة ، وهى من الأعظم أَسَرُّ وأوقع في النفس .
هذا ، ومن التوجيهات الحكيمة التي نأخذها من هذه الآية الكريمة ، أن مما يعين المؤمنين على النصر والفلاح ، أن يعتزلوا أهل الكفر والفسوق والعصيان ، إذا لم تنفع معهم النصيحة ، وأن يستعينوا على بلوغ غايتهم بالصبر والصلاة ، وأن يقيموا حياتهم فيما بينهم على المحبة الصادقة ، وعلى الأخوة الخالصة ، وأن يجعلوا توكلهم على الله وحده { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }
وعقب هذا التميز ، وفي فترة الانتظار بعد الجولة الأولى ، وإيمان من آمن بموسى ، أوحى اللّه إليه وإلى هارون أن يتخذا لبني إسرائيل بيوتاً خاصة بهم ، وذلك لفرزهم وتنظيمهم استعداداً للرحيل من مصر في الوقت المختار ؛ وكلفهم تطهير بيوتهم ، وتزكية نفوسهم ، والاستبشار بنصر اللّه :
( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً ، واجعلوا بيوتكم قبلة ، وأقيموا الصلاة ، وبشر المؤمنين ) . .
وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية . وهما معاً ضروريتان للأفراد والجماعات ، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات . ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية ، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة ، تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة ، وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئاً كثيراً في ساعة الشدة .
وهذه التجربة التي يعرضها اللّه على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة ، ليست خاصة ببني إسرائيل ، فهي تجربة إيمانية خالصة . وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي ، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت ، وفسد الناس ، وأنتنت البيئة - وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة - وهنا يرشدهم اللّه إلى أمور :
اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها - ما أمكن في ذلك - وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها ، لتطهرها وتزكيها ، وتدربها وتنظمها ، حتى يأتي وعد اللّه لها .
اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد . تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي ؛ وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح ؛ وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور .
روي أن فرعون أخاف بني إسرائيل وهدم لهم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة ونحو هذا ، فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بيوتاً بمصر ، قال مجاهد : { مصر } في هذه الآية الإسكندرية ، ومصر ما بين البحر إلى أسوان ، والإسكندرية من أرض مصر ، و { تبوّآ } معناه كما قلنا تخيراً واتخذا ، وهي لفظة مستعملة في الأماكن وما يشبه بها ، ومن ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
لها أمرها حتى إذا ما تبوأت*** لأنحامها مرعى تبوأ مضجعا{[6203]}
وهذا البيت للراعي وبه سمى المراعي ومنه قول امرىء القيس : [ الكامل ]
يتبوأون مقاعداً لقتالكم*** كليوثِ غابٍ ليلهن زئير{[6204]}
وقرأ الناس «تبوّآ » بهمزة على تقدير تبوعا{[6205]} ، وقرأ حفص في رواية هبيرة «تبويا » وهذا تسهيل ليس بقياسي ، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف ، قوله { قبلة } ومعناه مساجد ، قاله ابن عباس والربيع والضحاك والنخعي وغيرهم ، قالوا : خافوا فأمروا بالصلاة في بيوتهم ، وقيل يقابل بعضها بعضاً ، قاله سعيد بن جبير والأول أصوب ، وقيل معناه متوجهة إلى القبلة ، قاله ابن عباس ، ومن هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «خير بيوتكم ما استقبل به القبلة » ، وقوله { وأقيموا الصلاة } خطاب لبني إسرائيل هذا قبل نزول التوراة لأنها لم تنزل إلا بعد إجازة البحر{[6206]} ، وقوله { وبشر المؤمنين } أمر لموسى عليه السلام ، وقال مكي والطبري هو أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا غير متمكن
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.