التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71)

وبعد أن ساقت السورة الكريمة ما ساقت من الأدلة على وحدانية الله وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المكذبين . . بعد كل ذلك تحدثت عن بعض قصص الأنبياء مع أقوامهم ، فبدأت بجانب من قصة نوح - عليه السلام - مع قومه ، وكيف أن الله - تعالى - أغرقهم بعد أن تمادوا في ضلالهم ، فقال - سبحانه - :

{ واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ . . . } .

قال الإِمام الرازي : " اعلم أنه - سبحانه - لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات وفى الجواب عن الشبه والسؤالات ، شرع بعد ذلك في بيان بعض قصص الأنبياء - عليهم السلام - لوجوه :

أحدها : أن الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع العلوم ، فربما حصل نوع من أنواع الملالة ، فإذا انتقل الإِنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر ، انشرح صدره ، ووجد في نفسه رغبة جديدة .

وثانيها : ليكون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه ، أسوة بمن سلف من الأنبياء ، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع أن معاملة الكفار لأنبيائهم سيئة . . خف ذلك على قلبه ، لأن المصيبة إذا عمت خفت .

وثالثها : أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص ، وعلموا أن العاقبة للمتقين كان ذلك سببا في انكسار قلوبهم ، ووقوع الخوف والوجل في نفوسهم . وحينئذ يقلوعون عن أنواع الإِيذاء والسفاهة . . . " .

ونوح - عليه السلام - : واحد من أولى العزم من الرسل ، وينتهي نسبة إلى شيث بن آدم - عليه السلام - وقد ذكر في القرآن في ثلاثة وأربعين موضعا .

وكان قومه يعبدون الأصنام ، فأرسل الله إليهم نوحاً ليدلهم على طريق الرشاد .

وقد تكررت قصته مع قومه في سورة الأعراف ، وهود ، والمؤمنون ، ونوح . . بصورة أكثر تفضيلاً .

أما هنا في سورة يونس فقد جاءت بصورة مجملة ، لأن الغرض منها هنا ، إبراز جانب التحدي من نوع لقومه ، بعد أن مكث فيهم زمانا طويلاً ، يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، وترك عبادة غيره .

والمعنى : واتل - يا محمد - على مسامع هؤلاء المشركين الذين مردوا على افتراء الكذب ، نبأ نوح - عليه السلام - مع قومه المغترين بأموالهم وكثرتهم ليتدبروا ما في هذا النبأ من عظات وعبر . وليعلموا أن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أن يجعل العاقبة للمتقين .

والمقصود من هذه التلاوة ، دعوة مشركي مكة وأمثالهم ، إلى التدبر فيما جرى للظالمين من قبلهم ، لعلهم بسبب هذا التدبر والتأمل يثوبون إلى رشدهم ويتبعون الدين الحق الذي جاءهم به نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - .

وقوله : { ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ . . } بيان لما قاله لهم بعد أن مكث فيهم زمنا طويلا ، ، وسمع منهم ما سمع من استهزاء بدعوته ، ، وتطاول على أتباعه .

أى : قال نوح لقومه بعد أن دعاهم ليلا ونهارا : يا قوم إن كان { كَبُرَ عَلَيْكُمْ } .

أى : شق وعظم عليكم { مَّقَامِي } فيكم ووجودي بين أظهركم عمرا طويلا { وَتَذْكِيرِي } إياكم بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته ، ، والتي تستلزم منكم إخلاص العبادة له والشكر لنعمه .

إن كان كبر عليكم ذلك فعلى الله وحده توكلت ، وإليه وحده فوضت أمري ولن يصرفني عن الاستمرار في تبليغ ما أمرنى بتبليغه وعد أو وعيد منكم .

وخاطبهم - عليه السلام - بقوله : { ياقوم } استمالة لقلوبهم ، وإشعار لهم بأنهم أهله وأقرباؤه الذين يحب لهم الخير ، ويكره لهم الشر .

وجملة { فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ } جواب الشرط . وقيل جواب الشرط محذوف والتقدير : إن كان كبر عليكم ذلك فافعلوا ما شئتم فإني على الله وحده توكلت في تبليغ دعوته لكم .

وقوله : { فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } معطول على ما قبله .

والفعل { أجمعوا } بقطع الهمزة مأخذو من أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه عزما مؤكدا ووطنت نفسك على المضي فيه بدون تردد أو تقاعس .

والمراد بالأمر هنا : المكر والكيد والعداوة وما يشبه بذلك .

والمراد بشركائهم : أصنامهم التي عبدوها من دون الله وظنوا فيها النفع والضرر والتمسوا فيها العون والنصرة .

والمعنى : أن نوحا - عليه السلام - قد قال قولمه بصراحة ووضوح : يا قوم إن كان قد شق عليكم مقامي فيكم ، وتذكيري بآيات الله الدالة على وحدانيته فأجمعوا ما تريدون جمعه من مكر وكيد بي ، ثم ادعوا شركاءهم ليساعدوكم في ذلك فإنى ماض في طريقى الذي أمرنى الله به ، بدون مبالاة بمكركم وبدون اهتمام بكيدكم .

قال الآلوسى : " وقوله { وَشُرَكَآءَكُمْ } منصوب على أنه مفعول معه لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم . وقيل إنه منصوب بالعطف على قوله { أَمْرَكُمْ } بحذف المضاف أي فأجمعوا أمركم وأمر شركائكم .

وقرأ نافع : فاجمعوا بوصل الهمزة وفتح الميم من جع وعطف الشركاء على الأمر في هذه القراءة ظاهر بناء على أنه يقال : جمعت شركائي ، كما يقال جمعت أمرى . . . "

وقوله : { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } معطوف على ما قبله ، ومؤكد لمضمونه .

وكلمة { غُمَّةً } بمعنى الستر والخفاء . يقال : غم على فلان الأمر أى : خفى عليه واستتر .

ومنه الحديث الشريف : " صوموا لرؤيته - أى الهلال - وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما " أى فإن استتر وخفى عليكم الهلال وحال دون رؤيتكم له حائل من غيم أو ضباب فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما .

أى : أجمعوا ما تريدون جمعه لي من مكر وكيد واستعينوا على ذلك بشركائكم ثم لا يكن أمركم ، الذي أجمعتم على تنفيذه فيه شيء من الستر أو الخفاء أو الالتباس الذي يجعلكم مترددين في المضي فيه أو متقاعسين عن مجاهرتي بما تريدون فعله معى .

ومنهم من يرى أن كلمة { غُمَّةً } هنا بمعى الغم كالكربة بمعنى الكرب أى : ثم لا يكن حالكم غما كائنا عليكم بسبب مقامى فيكم وتذكيرى إياكم بآيات الله .

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذيبن الوجهين فقال : " فإن قلت : ما معنى الأمرين : أمرهم الذي يجمعونه وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة ؟

قلت : أما الأمر الأول فالقصد إلى إهلاكه يعني : فاجمعوا ما تريدون من إهلاكى واحتشدوا فيه ، وابذلوا وسعكم في كيدي .

وإنما قال ذلك إظهارا لقلة مبالاته بهم وثقته بما وعده به ربه من كلاءته وعصمته إياه ، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا .

وأما الثانى ففيه وجهان : أحدهما أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم ، المكروهة عندهم . يعني : ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة عليكم . وحالكم عليكم غمة . أى : غما وهما . والغم والغمة كالكرب والكربة .

وثانيهما : أن يراد به ما أريد بالأمر الأول . والغمة السترة من غمة إذا ستره ، وفى الحديث " لا غمة في فرائض الله " أى لا تستر ولكن يجاهر بها .

يعنى : ولا يكن قصدكم إلى إهلاكى مستورا عليكم . ولكن مكشوفا مشهورا تجاهرونني به " .

وقوله : { ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } زيادة في تحديهم وإثارتهم .

والقضاء هنا بمعنى الأداء ، من قولهم : قضى المدين للدائن دينه ، إذا أداه إليه ، وقضى فلان الصلاة . أى أداها بعد مضي وقتها .

أى : ثم أدوا إلى ذلك الامر الذي تريدون أداءه من إيذائى أو إهلاكى بدون إنظار أو إمهال .

ويصح أن يكون القضاء هنا بمعنى الحكم ، أى : ثم احكموا على بما تريدون من أحكام ، ولا تتركوا لي مهلة في تنفيذها ، بل نفذوها على في الحال .

فأنت ترى في هذه الآية الكريمة كيف أن نوحا - عليه السلام - كان في نهاية الشجاعة في مخاطبته لقومه ، بعد أن مكث فيهم مكث وهو يدعوهم إلى عبادة الله - تعالى - وحده .

فهو - أولا - يصارحهم بأنه ماض في طريقه الذي أمره الله بالمضي فيه ، وهو تذكيرهم بالدلائل الدالة على وحدانية الله ، وعلى وجوب إخلاص العبادة له سواء أشق عليهم هذا التذكير أم لم يشق ، وأنه لا اعتماد له على أحد إلا على الله وحده .

وهو - ثانيا - يتحداهم بأن يجمعوا أمرهم وأمر شركائهم وأن يأخذوا أهبتهم لكيده وحربه .

وهو - ثالثا - يطالبهم بأن يتخذوا قراراتهم بدون تستر أو خفاء ، فإن الأمر لا يحتاج إلى غموض أو تردد ، لأن حاله معهم قد أصبح واضحا وصريحا .

وهو - رابعا - يأمرهم بأن يبلغوه ما توصلوا إليه من قرارات وأحكام وأن ينفذوها عليه بدون تريث أو انتظار ، حتى لا يتركوا له فرصة للاستعداد للنجاة من مكرهم .

وهكذا نرى نوحا - عليه السلام - يتحدى قومه تحديا صريحا مثيرا . حتى إنه ليغريهم بنفسه ، ويفتح لهم الطريق لإِيذائه وإهلاكه - إن استطاعوا ذلك - .

وما لجأ - عليه السلام - إلى هذا التحدي الواضح المثير إلا لأنه كان معتمدا على الله - تعالى - الذي تتضاءل أمام قوته كل قوة وتتهاوا إزاء سطوته كل سطوة ويتصاغر كل تدبير وتقدير أمام تدبيره وتقديره .

وهكذا نرى القرآن الكريم يسوق للدعاة في كل زمان تلك المواقف المشرفة لرسل الله - عليهم الصلاة والسلام - لكي يقتدوا بهم في شجاعتهم ، وفى اعتمادهم على الله وحده ، وفى ثباتهم أمام الباطل مهما بلغت قوته ، واشتد جبروته .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71)

71

( واتل عليهم نبأ نوح ، إذ قال لقومه : يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات اللّه فعلى اللّه توكلت ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ، ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون . فإن توليتم فما سألتكم من أجر ، إن أجري إلا على اللّه ، وأمرت أن أكون من المسلمين . فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك ، وجعلناهم خلائف ، وأغرقنا الذين كذبوا بآيانتا ، فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ) . .

إن الحلقة التي تعرض هنا من قصة نوح ، هي الحلقة الأخيرة : حلقة التحدي الأخير ، بعد الإنذار الطويل والتذكير الطويل والتكذيب الطويل . ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة ولا من ركب فيها ولا الطوفان ، ولا التفصيلات في تلك الحلقة ، لأن الهدف هو إبراز التحدي والاستعانة باللّه وحده ، ونجاة الرسول ومن معه وهم قلة ، وهلاك المكذبين له وهم كثرة وقوة . لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة إلى حلقة واحدة . ويختصر تفصيلات الحلقة الواحدة إلى نتائجها الأخيرة ، لأن هذا هو مقتضى السياق في هذا الموضع

( واتل عليهم نبأ نوح ، إذ قال لقومه : يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات اللّه فعلى اللّه توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم . ثم لا يكن أمركم عليكم غمة . ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ) . .

إن كان الأمر قد بلغ منكم مبلغ الضيق ، فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم ودعوتي لكم ؛ وتذكيري لكم بآيات اللّه . فأنتم وما تريدون . وأنا ماض في طريقي لا أعتمد إلا على اللّه :

( فعلى اللّه توكلت ) . .

عليه وحده فهو حسبي دون النصراء والأولياء .

( فأجمعوا أمركم وشركاءكم ) . .

وتدبروا مصادر أمركم وموارده ، وخذوا أهبتكم متضامنين :

ثم ولا يكن أمركم عليكم غمة . .

بل ليكن الموقف واضحاً في نفوسكم ، وما تعتزمونه مقرراً لا لبس فيه ولا غموض ، ولا تردد فيه ولا رجعة

( ثم اقضوا إلي ) . .

فنفذوا ما اعتزمتم بشأني وما دبرتم ، بعد الروية ووزن الأمور كلها والتصميم الذي لا تردد فيه

( ولا تنظرون ) . .

ولا تمهلوني للأهبة والاستعداد ، فكل استعدادي ، هو اعتمادي على اللّه وحده دون سواه .

إنه التحدي الصريح المثير ، الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالئ يديه من قوته ، واثق كل الوثوق من عدته ، حتى ليغري خصومه بنفسه ، ويحرضهم بمثيرات القول على أن يهاجموه ! فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة ? وماذا كان معه من قوى الأرض جميعاً ?

كان معه الإيمان . . القوة التي تتصاغر أمامها القوى ، وتتضاءل أمامها الكثرة ، ويعجز أمامها التدبير . وكان وراءه اللّه الذي لا يدع أولياءه لأولياء الشيطان !

إنه الإيمان باللّه وحده ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه . فليس هذا التحدي غروراً ، وليس كذلك تهوراً ، وليس انتحاراً . إنما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوى الهزيلة الفانية التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الإيمان

وأصحاب الدعوة إلى اللّه لهم أسوة حسنة في رسل اللّه . . وإنه لينبغي لهم أن تمتلئ قلوبهم بالثقة حتى تفيض . وإن لهم أن يتوكلوا على اللّه وحده في وجه الطاغوت أياً كان !

ولن يضرهم الطاغوت إلاّ أذى - ابتلاء من اللّه لا عجزاً منه سبحانه عن نصرة أوليائه ، ولا تركاً لهم ليسلمهم إلى أعدائه . ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف . ثم تعود الكرة للمؤمنين . ويحق وعد اللّه لهم بالنصر والتمكين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71)

تقدم في الأعراف الكلام على لفظة { نوح } و «المقام » وقوف الرجل لكلام أو خطبة أو نحوه ، و «المُقام بضم الميم إقامته ساكناً في موضع أو بلد ، ولم يقرأ هنا بضم الميم{[6166]} و » تذكيره « : وعظه وزجره ، والمعنى : يا قوم إن كنتم تستضعفون حالي ودعائي لكم إلى الله فإني لا أبالي عنكم{[6167]} لتوكلي على الله تعالى فافعلوا ما قدرتم عليه ، وقرأ السبعة وجهور الناس وابن أبي إسحاق وعيسى : » فأجمعوا «من أجمع الرجل على الشيء إذا عزم عليه ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . *** هل أغدونْ يوماً وأمر مجمع{[6168]} ؟

ومنه قول الآخر : [ الخفيف ]

أجمعوا أمرهم بليلِ فلما*** أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء{[6169]}

ومنه الحديث ما لم يجمع مكثاً{[6170]} ومنه قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]

ذكر الورود بها فأجمع أمرَهُ*** شوقاً وأقبلَ حينه يتتبع{[6171]}

وقرأ نافع فيما روى عنه الأصمعي وهي قراءة الأعرج وأبي رجاء وعاصم الجحدري والزهري والأعمش » فاجمَعوا بفتح الميم من جمع إذا ضم شيئاً إلى شيء ، و { أمركم } يريد به قدرتكم وحياتكم ويؤيد هذه القراءة قوله تعالى : { فتولى فرعون فجمع كيده }{[6172]} وكل هؤلاء نصب «الشركاء » ، ونصب قوله : { شركاءكم } ، يحتمل أن يعطف على قوله { أمركم } ، وهذا على قراءة «فاجمعوا » بالوصل{[6173]} ، وأما من قرأ : «فأجمعوا » بقطع الألف فنصب «الشركاء » بفعل مضمر كأنه قال : وادعوا شركاءكم فهو من باب قول الشاعر : [ المتقارب ]

*شراب اللبان وتمر وأقط*{[6174]}

ومن قول الآخر : [ مجزوء الكامل مرفل ]

ورأيت زوجك في الوغى*** متقلداً سيفاً ورمحا{[6175]}

ومن قول الآخر : [ الرجز ]

علفتها تبناً وماء بارداً*** حتى شَأت همالة عيناها{[6176]}

وفي مصحف أبي بن كعب : «فأجمعوا وادعوا شركاءكم » ، قال أبو علي : وقد ينتصب «الشركاء » بواو «مع » ، كما قالوا : جاء البريد والطيالسة ، وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وسلام ويعقوب وأبو عمرو فيما روي عنه «وشركاؤكم » بالرفع عطفاً على الضمير في { أجمعوا } ، وعطف على الضمير قبل تأكيده لأن الكاف والميم في { أمركم } ناب مناب أنتم المؤكد للضمير ، ولطول الكلام أيضاً ، وهذه العبارة أحسن من أن يطول الكلام بغير ضمير{[6177]} ، ويصح أن يرتفع بالابتداء والخبر مقدر تقديره وشركاؤهم فليجمعوا ، وقرأت فرقة «وشركائكم » بالخفض على العطف على الضمير في قوله : { أمركم } ، التقدير وأمر شركائكم ، فهو كقول الشاعر [ العجّاج ] :

أكل امرىء تحسبين أمرأً*** ونار توقد بالليل نارا{[6178]}

أي وكل نار ، والمراد بالشركاء في هذه الآية الأنداد من دون الله ، فأضافهم إليهم إذ يجعلونهم شركاء بزعمهم ، وقوله { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } ، أي ملتبساً مشكلاً ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الهلال ، «فإن غم عليكم » ومنه قول الراجز :

ولو شهدت الناس إذا تكمّوا*** بغمة لو لم تفرجْ غمّوا{[6179]}

وقوله { ثم اقضوا إلي } ومعناه أنفذوا قضاءكم نحوي ، وقرأ السدي بن ينعم : «ثم أفضوا » بالفاء وقطع الألف ، ومعناه : أسرعوا وهو مأخوذ من الأرض الفضاء أي اسلكوا إلي بكيدكم واخرجوا معي وبي إلى سعة{[6180]} وجلية ، وقوله { ولا تنظرون } أي لا تؤخرون والنظرة التأخير .


[6166]:- قال أبو حيان: "وليس كما ذكر، بل قرأ [مُقامي] بضم الميم أبو مجلز، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء".
[6167]:-تتعدى (بالَى) بنفسها أو بالباء فيقال: ما أباليه، وما أبالي بالأمر، ولم يسمع أنها تتعدى بعن.
[6168]:- هذا عجز بيت أورده صاحب "اللسان" في (جمَعَ)، وهو من شواهد الفراء في "معاني القرآن"، وذكره القرطبي وأبو حيان في "البحر المحيط"، وهو كذلك في "الصحاح" و"التاج"، والبيت بتمامه: يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع؟ قال في "اللسان": "وجمع أمره، وأجمعه، وأجمع عليه: عزم عليه كأنه جمع نفسه له، والأمر مُجمع، ويقال أيضا: أجمع أمرك ولا تدعه منتشرا".
[6169]:- هذا البيت من شواهد النحويين، ولم يذكره من المفسرين غير ابن عطية والبحر المحيط، وأجمعوا أمرهم: عزموا عليه واتفقوا، والشاعر في البيت يصور اتفاقهم على أمرهم بالليل، فلما جاء الصباح كان لهم ضجيج وضوضاء، هذا ينادي، وذاك يجيب، وبين الإجابة والنداء يرتفع الرغاء والثغاء.
[6170]:- هذا جزء من حديث عن صلاة المسافر رواه في الموطأ ، ولفظه: (أصلي صلاة المسافر ما لم أجمع مكثا)، أي أعزم إقامة. هكذا في "النهاية"، وفي "الموطأ" وراجع أيضا "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي- مكث".
[6171]:-ورد المكان: أشرف عليه سواء دخل أو لم يدخل، والمعنى هنا: "تذكر الوصول إلى غايته"، وأجمع أمره: عزم وصمم من شدة شوقه، والحين: الهلاك. يصور شوقه ورغبته في ورود الماء وسعيه إليه ومن ورائه الهلاك.
[6172]:- من الآية (60) من سورة (طه).
[6173]:- ويحتمل أن يكون منصوبا على أنه مفعول معه، أو على حذف مضاف، أي: ذوي الأمر منكم، فجرى على المضاف إليه ما جرى على المضاف لو ثبت. قاله أبو حيان في البحر نقلا عن أبي علي الفارسي، وقد نقل المؤلف احتمال النصب على المعية عن الفارسي.
[6174]:- لأن التمر لا يشرب وكذلك الأقط فلا بد من فعل محذوف تقديره: "وأكّال"، لأن في المذكور من الكلام دليل على المحذوف، والأقط: لبن محمض يجمّد حتى يستحجر ويطبخ، أو يطبخ به.
[6175]:- والرمح لا يُتقلّد بل يحملن ولهذا يقدر الناصب: "وحاملا"، وقائل البيت هو عبد الله بن الزبعري كما في الكامل للمبرد، ويروى: "يا ليت زوجك قد غدا". وهذا قد سبق الاستشهاد به في الجزء الأول ص 157.
[6176]:-والماءُ لا يعلف، ولهذا يقدر الناصب: "وسقيتها"، ويروى: (بدت) و(غدت) بدلا من (شتت) والمعنى واحد، والبيت في ابن عقيل والعيني، وقد روي البيت بلفظ آخر سبق أن ذكرناه في الجزء الأول ص 157 وهو: لما حططت الرحل عنها واردا علفتها تبنا وماء باردا والبيت مجهول القائل، وقيل: إنه لذي الرمّة.
[6177]:- وقد جاز العطف على الضمير بدون تأكيد لطول الكلام بـ(لا) في قوله تعالى: {ما أشركنا ولا آباؤنا} [148-الأنعام] وذلك مع وقوعها بعد الواو، فمن باب أولى يجوز هنا للفصل بالكاف والميم الواقعين قبل الواو. ولكن ذلك ليس في قوة التأكيد نحو قوله تبارك وتعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنة}، وذلك لأن التوكيد فيه معنى لا يوجد في الفصل بغيره، إذ هو يثبت معنى الإسمية للمضمر المتصل الذي مازج الفعل وصار كجزء منه فضعف الفعل عن أن يعطف عليه، لكنه إذا أكد صار في حيّز الأسماء ولحق بما يحسن العطف عليه. قاله أبو الفتح في كتابه "المحتسب".
[6178]:- نسب هذا البيت لجارية بن الحجاج، ولحارثة بن حمران، ولعدي بن زيد، ولكن المشهور أنه لأبي داؤد، وهو في الكتاب لسيبويه، وفي الكامل للمبرد، وفي ابن عقيل.
[6179]:- الراجز هو العجاج، والبيت في ديوانه، ونسبه له ابن منظور في "اللسان" والقرطبي في تفسيره، ونسبه الطبري إلى رؤبة، وهذا غير صحيح، والبيت مطلع أرجوزة للعجاج يذكر كسعود بن عمرو العتكي من الأزد، وتُكمّوا بضم التاء والكاف: ألبسوا كمة فتغطوا بها، والأصل: تكمموا بميمين من كممت الشيء إذا سترته، ثم أبدلت الميم الأخيرة ياء فصار في التقدير: تكميوا، ثم حذفت الياء فصارت: تُكُمّوا، نقل ذلك "التاج" عن الفراء، والغمّ والغُمّة: الكرب، والمعنى: تغطّوا بالكرب والهم.
[6180]:- قال أبو الفتح: هو أفعلت من الفضاء، وذلك أنه إذا صار إلى الفضاء تمكن من الإسراع، ولام أفضيت والفضاء وما تصرف منهما واو لقولهم: فضا الشيء يفضوا فضوا إذا اتسع، وقولهم: أفضيت: صرت إلى الفضاء، مثل أنجدت: صرت إلى نجد.