وبعد أن بين - سبحانه - حال الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها ، أتبع ذلك بيان حال الذين يريدون الحق والصواب فيما يفعلون ويتركون فقال - تعالى - :
{ أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ . . . } .
قال صاحب المنار ما ملخصه : البينة ما تبين به الحق من كل شئ بحسبه كالبرهان فى العقليات والنصوص فى النقليات ، والخوارق فى الإِلهيات ، والتجارب فى الحسيات ، والشهادات فى القضائيات ، والاستقراء فى إثبات الكليات ، وقد نطق القرآن بأن الرسل قد جاءوا أقوامهم بالبينات وأن كل نبى منهم كان يحتج على قومه بأنه على بينة من ربه وأنه جاءهم ببينة من ربهم ، كما ترى فى قصصهم فى هذه السورة وفى غيرها . .
وقوله : { وَيَتْلُوهُ . . . } من التلو بمعنى الاقتفاء والاتباع . يقال : تلا فلان فلانا إذا كان تابعا له ومقتفيا أثره . والمراد به هنا : التأييد والتقوية .
وللمفسرين أقوال متعددة فى المقصود بقوله - تعالى - { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } وبقوله - سبحانه - { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } .
وفى مرجع الضمائر فى قوله " ربه - ويتلوه - ومنه " . . .
وأقرب هذه الأقوال إلى الصواب أن يكون المقصود بقوله - تعالى - { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المؤمنون .
وبقوله تعالى - { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } القرآن الكريم الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليكون معجزة له شاهدة بصدقه .
والضمير فى قوله من ربه يعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وفى قوله { وَيَتْلُوهُ } يعود إلى القرآن الكريم ، وفى قوله { منه } يعود إلى الله - تعالى - .
وعلى هذا القول يكون المعنى : أفمن كان على حجة واضحة من عند ربه تهديه إلى الحق والصواب فى كل أقواله وأفعاله ، وهو هذا الرسول الكريم وأتباعه ويؤيده ويقويه فى دعوته شاهد من ربه هو هذا القرآن الكريم المعجز لسائر البشر . .
أفمن كان هذا شأنه كمن ليس كذلك ؟
أو أفمن كان هذا شأنه كمن استحوذ عليه الشيطان فجعله لا يريد إلا الحياة الدنيا وزينتها ؟ كلا إنهما لا يستويان .
وشهادة القرآن الكريم بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته ، تتجلى فى إعجازه ، فقد تحدى النبى - صلى الله عليه وسلم - أعداءه أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا مع فصاحتهم وبلاغتهم ، فثبت بذلك أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - .
وإنما جعلنا هذا القول أقرب الأقوال إلى الصواب ، لأنه هو الذى يتسق مع ما يفيده ظاهر الآية الكريمة ، ولأننا عندما نقرأ هذه السورة الكريمة وغيرها ، نجد الرسل الكرام كثيرا ما يؤكدون لأقوامهم - أنهم - أى الرسل على بينة من ربهم .
فهذا نوح - عليه السلام - يقول لقومه : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ }
وهذا صالح - عليه السلام - يقول لقومه : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ . . . } وهذا شعيب - عليه السلام - يقول لقومه : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً . . . } وهكذا نجد كل نبى يؤكد لقومه أنه جاءهم على بينة من ربه وما دام الأمر كذلك فسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل من جاء قومه على بينة من ربه ، والمؤمنون به - صلى الله عليه وسلم - يقتدرون به فى ذلك .
ويرى بعضهم أن المراد بالبينة القرآن الكريم ، وبالشاهد إعجازه ، وبالموصول مؤمنوا أهل الكتاب ، وأن الضمير فى قوله " ويتلوه - ومنه " يعودان إلى القرآن الكريم وإعجازه .
وعلى هذا الرأى يكون المعنى : أفمن كان على برهان جلى من ربه يدل على حقية الإِسلام وهو القرآن ، ويؤيده ويقويه - أى القرآن - شاهد منه على كونه من عند الله وهذا الشاهد هو إعجازه للبشر عن أن يأتوا بسورة من مثله .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } : أصل البينة الدالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة ، وتطلق على الدليل مطلقا . . والتنوين فيها للتعظيم ، أى : بيئة عظيمة الشأن والمراد بها القرآن ، وباعتبار ذلك أو البرهان جاء الضمير الراجع إليها فى قوله { وَيَتْلُوهُ } أى يتبعه { شَاهِدٌ } عظيم يشهد بكونه من عند الله وهو إعجازه . .
ومعنى كون ذلك الشاهد تابعا له : أنه وصف له لا ينفك عنه . . وكذا الضمير فى " منه " - يعود إلى القرآن - وهو متعلق بمحذوف وقع صفته لشاهد ومعنى كونه منه أنه غير خارج عنه . .
ومن المفسرين من يرى أن المراد بالبيئة القرآن الكريم - أيضا - ويرى أن المراد بالشاهد جبريل - عليه السلام - وأن قوله - سبحانه - { وَيَتْلُوهُ } من التلاوة بمعى القراءة لا من التَّلْوِ بمعنى الاتباع .
وعلى هذا الرأى يكون المعنى : أفمن كان على برهان جلى من ربه يدل على حقية الإِسلام وهو القرآن ويتلوا هذا القرآن على الرسول - صلى الله عليه وسلم - شاهد من الله - تعالى - هو جبريل - عليه السلام - .
فالضمير فى { وَيَتْلُوهُ } على هذا الرأى يعود إلى جبريل - عليه السلام - وفى " منه " يعود على الله تعالى - .
وهناك أقوال أخرى فى تفسير الآية الكريمة رأينا من الخير أن نضرب عنها صفحا لضعفها .
وقوله { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً } دليل آخر على صدق النبى - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته . وهو معطوف على شاهد والضمير فى قوله { وَمِن قَبْلِهِ .
. . } يعود على شاهد - أيضا - .
وقوله { إِمَاماً وَرَحْمَةً } منصوبان على الحالية من قوله { كِتَابُ } .
والمعنى ومن قبل هذا الشاهد على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو القرآن الكريم أنزل الله - تعالى - على موسى كتابه التوراة مشتملا على صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - و { إِمَاماً } يؤتم به فى أمور الدين والدنيا ورحمة لبنى إسرائيل من العذاب إذا ما آمنوا به واتبعوا تعاليمه .
قال الشوكانى : وإنما قدم الشاهد على كتاب موسى مع كونه متأخرا فى الوجود لكونه - أى الشاهد بمعنى المعجز - وصفا لازما غير مفارق ، فكان أغرق فى الوصفية من كتاب موسى .
وهى شهادة كتاب موسى وهو التوراة أنه بشر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأخبر بأنه رسول من الله - تعالى - .
واسم الإِشارة فى قوله { أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعود إلى الموصوفين بأنهم على بينة من ربهم وهم النبى - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المؤمنون الصادقون .
أى : أولئك الموصوفون بأنهم على بينة من ربهم يؤمنون بأن الإسلام هو الدين الحق ، وبأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول صدق وبأن القرآن من عند الله - تعالى - وحده .
فالضمير فى قوله { به } يعود على كل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه ويدخل فى ذلك دخولا أوليا القرآن الكريم .
وقوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ } بيان لسوء عاقبة الكافرين بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد بيان حسن عاقبة المؤمنين به .
والأحزاب جمع حزب وهم الذين تخربوا وتجمعو من أهل مكة وغيرهم لمحاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوته .
أى : ومن يكفر بهذا القرآن وبما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هدايات فإن نار جهنم هى المكان الذى ينتظره وينتظر كل متحزب ضد دعوته - صلى الله عليه وسلم - .
وفى جعل النار موعدا لهذا الكافر بالقرآن إشعار بأن فيها ما لا يحيط به الوصف من ألوان العذاب الذى يجعله لا يموت فيها ولا يحيا .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالحض على النظر الصحيح الذى يؤدى إلى اليقين بن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق الذى لا يشو به باطل فقال - تعالى - : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } .
أى : فلا تك - أيها العاقل - فى شك من أن هذا القرآن من عند الله ومن أن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الصدق ، بل عليك أن تعتقد اعتقادا جازما فى صحة ذلك ، لأن ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - هو الحق الثابت من عند ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بذلك لا نطماس بصائرهم ، ولتقليدهم لآبائهم ، ولإِيثارهم الغى على الرشد .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد ميزت بين من كان على الحق ومن كان على الباطل وساقت حشودا من الأدلة الدالة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته ، وعلى صحة ما عليه أتباعه ، وأمرتهم بالثبات على الحق الذى آمنوا به ، وتوعدت المتحزبين ضد دعوة الإِسلام بنار جهنم التى هى بئس القرار .
هذا ، وهذه الآية الكريمة هى من الآيات التى قيل بأنها مدنية ، وبمراجعتنا لتفسيرها لم نجد ما يؤيد بذلك ، بل الذى نراه أن السورة كلها مكية كما سبق أن أشرنا إلى ذلك فى المقدمة .
بعد ذلك يلتفت السياق إلى موقف المشركين من رسول الله [ ص ] وما جاءه من الحق ؛ وإلى هذا القرآن الذي يشهد له بأنه على بينة من ربه ، وأنه مرسل من عنده ؛ كما يشهد له كتاب موسى من قبله . يلتفت السياق إلى هذا الحشد من الأدلة المحيطة بالنبي [ ص ] وبدعوته ورسالته . ذلك ليثبت بهذه الالتفاتة قلب رسول الله [ ص ] والقلة المؤمنة معه . ثم ليوعد الذين يكفرون به من أحزاب المشركين بالنار ؛ وليعرضهم في مشهد من مشاهد العذاب يوم القيامة يجلله الخزي والعار جزاء العتو والاستكبار ؛ وليقرر أن هؤلاء المتبجحين بالباطل ، المعاندين في الحق أعجز من أن يفلتوا من عذاب الله ؛ وأعجز من أن يجدوا لهم من دون الله أولياء ( لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) . . وليعقد بينهم وبين المؤمنين موازنة في صورة حسية مشهودة ؛ تصور الفارق البعيد بين الفريقين في طبيعتهما ، وفي موقفهما وحالهما في الدنيا وفي الآخرة سواء :
( أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) .
( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ؛ أولئك يعرضون على ربهم ؛ ويقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين . الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، وهم بالآخرة هم كافرون . أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ، وما كان لهم من دون الله من أولياء ، يضاعف لهم العذاب . ما كانوا يستطيعون السمع ، وما كانوا يبصرون . أولئك الذين خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) .
( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون )
( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ، هل يستويان مثلا ؟ أفلا تذكرون ؟ ) . .
إن طول هذه الجملة ، وتنوع الإشارات والإيحاءات فيها ، وتنوع اللفتات والإيقاعات أيضا . . إن هذا كله يشي بما كانت تواجهه القلة المؤمنة ، في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الدعوة ؛ ويصور لنا حاجة الموقف إلى هذه المعركة التقريرية الإيحائية ؛ كما يصور لنا طبيعة هذا القرآن الحركية ؛ وهو يواجه ذلك الواقع ويجاهده جهادا كبيرا .
إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة ؛ ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها . والذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون . يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ؛ بعيدا عن المعركة وبعيدا عن الحركة . . إن حقيقة هذا القرآن لا تتكشف للقاعدين أبدا ، وإن سره لا يتجلى لمن يؤثرون السلامة والراحة مع العبودية لغير الله ، والدينونة للطاغوت من دون الله !
( أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .
وردت روايات شتى فيما هو المقصود بقوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ) . . وفي قوله تعالى : ( ويتلوه شاهد منه ) . وفي عائد هذه الضمائر في : ( ربه )وفي ( يتلوه ) وفي ( منه ) . . وأرجحها - كما يبدو لي - هو أن المقصود بقوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ) هو رسول الله [ ص ] وبالتبعية له كل من يؤمن بما جاء به - وأن المقصود بقوله تعالى : ( ويتلوه شاهد منه )أي ويتبعه شاهد من ربه على نبوته ورسالته . وهو هذا القرآن الذي يشهد بذاته أنه وحي من الله لا يقدر عليه بشر . ( ومن قبله )- أي من قبل هذا الشاهد وهو القرآن ؛ " كتاب موسى " يشهد كذلك بصدق النبي [ ص ] سواء بما تضمنه من البشارة به ؛ أو بموافقة أصله لما جاء به محمد من بعده .
والذي يرجح هذا عندي هو وحدة التعبير القرآني في السورة - في تصوير ما بين الرسل الكرام وربهم ، من بينة يجدونها في أنفسهم ، يستيقنون معها أن الله هو الذي يوحي إليهم ، ويجدون بها ربهم في قلوبهم وجودا مستيقنا واضحا لا يخالجهم معه شك ولا ريبة . فنوح - عليه السلام - يقول لقومه : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ . . وصالح عليه السلام يقول الكلمة ذاتها : ال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير . . وشعيب عليه السلام يقولها كذلك : ( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، ورزقني منه رزقا ) . . فهو تعبير موحد عن حال واحدة للرسل الكرام مع ربهم ، تصور حقيقة ما يجدونه في أنفسهم من رؤية قلبية مستيقنة لحقيقة الألوهية في نفوسهم ؛ ولصدق اتصال ربهم بهم عن طريق الوحي أيضا . . وهذا التوحيد في التعبير عن الحال الواحدة مقصود قصدا في سياق السورة - كما أسلفنا في التعريف بها - لإثبات أن شأن النبي [ ص ] مع ربه ومع الوحي الذي تنزل عليه شأن سائر الرسل الكرام قبله ؛ مما يبطل دعاوى المشركين المفتراة عليه [ ص ] وكذلك لتثبيته هو والقلة المؤمنة معه على الحق الذي معهم ؛ فهو الحق الواحد الذي جاء به الرسل جميعا ، والذي أسلم عليه المسلمون من أتباع الرسل جميعا .
ويكون المعنى الكلي للآية : أفهذا النبي الذي تتضافر الأدلة والشواهد على صدقه وصحة إيمانه ويقينه . . حيث يجد في نفسه بينة واضحة مستيقنة من ربه . وحيث يتبعه - أو يتبع يقينه هذا - شاهد من ربه هو هذا القرآن الدال بخصائصه على مصدره الرباني . وحيث يقوم على تصديقه شاهد آخر قبله ، هو كتاب موسى الذي جاء إماما لقيادة بني إسرائيل ورحمة من الله تنزلت عليهم . وهو يصدق رسول الله [ ص ] بما تضمنه من التبشير به ، كما يصدقه بما فيه من مطابقة للأصول الاعتقادية التي يقوم عليها دين الله كله .
يقول : أفمن كان هذا شأنه يكون موضعا للتكذيب والكفر والعناد كما تفعل الأحزاب التي تناوئه من شتى فئات المشركين ؟ إنه لأمر مستنكر إذن في مواجهة هذه الشواهد المتضافرة من شتى الجهات . .
ثم يعرض مواقف الذين يؤمنون بهذا القرآن والذين يكفرون به من الأحزاب ، وما ينتظر هؤلاء من جزاء في الآخرة . ويعرج على تثبيت الرسول - [ ص ] - والذين يؤمنون بما معه من الحق ؛ فلا يقلقهم شأن المكذبين الكافرين ، وهم كثرة الناس في ذلك الحين :
( أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .
وقد وجد بعض المفسرين إشكالا في قوله تعالى : ( أولئك يؤمنون به )إذا كان المقصود بقوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه )هو شخص رسول الله [ ص ] كما أسلفنا . . فإن أولئك " تعني جماعة يؤمنون بهذا الوحي وبتلك البينة . . ولا إشكال هناك . فالضمير في قوله تعالى ( أولئك يؤمنون به )يعود على " شاهد " وهو القرآن . وكذلك الضمير في قوله تعالى ( ومن قبله )فإنه يعود على القرآن كما أسلفنا . . فلا إشكال في أن يقول : ( أولئك يؤمنون به )- أي بهذا الشاهد أي بهذا القرآن - والرسول [ ص ] هو أول من آمن بما أنزل إليه ، ثم تبعه المؤمنون : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون . كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . . . )كما جاء في آية البقرة . . والآية هنا تشير إلى رسول الله [ ص ] وتدمج معه المؤمنين الذين آمنوا بما آمن به هو وبلغهم إياه . . وهو أمر مألوف في التعبير القرآني ، ولا إشكال فيه .
( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) . .
وهو موعد لا يخلف ، والله سبحانه هو الذي قدره ودبره !
( فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .
وما شك رسول الله [ ص ] فيما أوحي إليه ، ولا امترى - وهو على بينة من ربه - ولكن هذا التوجيه الرباني عقب حشد هذه الدلائل والشواهد يشي بما كان يخالج نفس رسول الله [ ص ] من ضيق وتعب ووحشة من جراء تجمد الدعوة وكثرة المعاندين ، تحتاج كلها إلى التسرية عنه بهذا التوجيه والتثبيت . وكذلك ما كان يخالج قلوب القلة المسلمة من ضيق وكرب يحتاج إلى برد اليقين يتنزل عليهم من ربهم الرحيم .
وما أحوج طلائع البعث الإسلامي ؛ وهي تواجه مثل تلك الحال في كل مكان ؛ ويتآزر عليها الصد والإعراض ، والسخرية والاستهزاء ، والتعذيب والإيذاء ؛ والمطاردة بكل صورها المادية والمعنوية ؛ وتتضافر عليها كل قوى الجاهلية في الأرض من محلية وعالمية ؛ وتسلط عليها أبشع ألوان الحرب وأنكدها ؛ ثم تدق الطبول وتنصب الرايات لمن يحاربونها هذه الحرب ومن يطاردونها هذه المطاردة . . .
ما أحوج هذه الطلائع إلى تدبر هذه الآية بكل فقرة فيها ، وبكل إشارة ، وبكل لمحة فيها وكل إيماءة ! ما أحوجها إلى اليقين الذي يحمله التوكيد الرباني الحكيم :
( فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .
وما أحوجها إلى أن تجد في نفوسها ظلالا لما كان يجده الرسل الكرام صلوات الله عليهم وسلامه من بينة من ربهم ، ومن رحمة لا يخطئونها ولا يشكون فيها لحظة ؛ ومن التزام بالمضي في الطريق مهما تكن عقبات الطريق :
( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير . . )
إن هذه الطلائع تتصدى لمثل ما كان يتصدى له ذلك الرهط الكريم من الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم جميعا - وتجد من الجاهلية مثلما كانوا يجدون . . لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء رسول الله [ ص ] إلى البشرية كلها بهذا الدين ؛ فواجهته بجاهليتها التي صارت إليها بعد الإسلام الذي جاءها به من قبل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان ويحيى وعيسى ، وسائر النبيين !
إنها الجاهلية التي تعترف بوجود الله - سبحانه - أولا تعترف . ولكنها تقيم الناس أربابا في الأرض يحكمونهم بغير ما أنزل الله ؛ ويشرعون لهم من القيم والتقاليد والأوضاع ما يجعل دينونتهم لهذه الأرباب لا لله . . ثم هي الدعوة الإسلامية للناس كافة أن ينحوا هذه الأرباب الأرضية عن حياتهم وأوضاعهم ومجتمعاتهم وقيمهم وشرائعهم ، وأن يعودوا إلى الله وحده يتخذونه ربا لا أرباب معه ؛ ويدينون له وحده . فلا يتبعون إلا شرعه ونهجه ، ولا يطيعون إلا أمره ونهيه . . ثم هي بعد هذه وتلك المعركة القاسية بين الشرك والتوحيد ، وبين الجاهلية والإسلام . وبين طلائع البعث الإسلامي وهذه الطواغيت في أرجاء الأرض والأصنام !
ومن ثم لا بد لهذه الطلائع من أن تجد نفسها وموقفها كله في هذا القرآن في مثل هذا الأوان . . وهذا بعض ما نعنيه حين نقول : ( إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة . ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها ، وإن الذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ، بعيدا عن المعركة ، وبعيدا عن الحركة . . . ) .
اختلف المتأولون في المراد بقوله { أفمن } فقالت فرقة : المراد بذلك المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقالت فرقة المراد محمد صلى الله عليه وسلم خاصة . وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وابن عباس : المراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون جميعاً .
وكذلك اختلف في المراد ب «البيّنة » فقالت فرقة : المراد بذلك القرآن ، أي على جلية بسبب القرآن ، وقالت فرقة : المراد محمد صلى الله عليه وسلم والهاء في «البيّنة » للمبالغة كهاء علامة ونسابة .
وكذلك اختلف في المراد ب «الشاهد » فقال ابن عباس وإبراهيم النخعي ومجاهد والضحاك وأبو صالح وعكرمة : هو جبريل .
وقال الحسين بن علي : هو محمد صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد أيضاً : هو ملك وكّله الله بحفظ القرآن .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل عليه السلام{[6281]} .
وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة : هو لسان النبي صلى الله عليه وسلم . وقالت فرقة : هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وروي ذلك عنه ، وقالت فرقة : هو الإنجيل ، وقالت فرقة : هو القرآن ، وقالت فرقة : هو إعجاز القرآن .
قال القاضي أبو محمد : ويتصرف قوله { يتلوه } على معنيين : بمعنى يقرأ ، وبمعنى يتبعه ، وتصرفه بسبب الخلاف المذكور في «الشاهد » ولنرتب الآن اطراد كل قول وما يحتمل .
فإذا قلنا إن قوله : «أفمن » يراد به المؤمنون : فإن جعلت بعد ذلك «البيّنة » محمد صلى الله عليه وسلم صح أن يترتب «الشاهد » الإنجيل ويكون { يتلوه } بمعنى يقرأه ، لأن الإنجيل يقرأ شأن محمد صلى الله عليه وسلم وأن يترتب جبريل عليه السلام ويكون { يتلوه } بمعنى يتبعه أي في تبليغ الشرع والمعونة فيه وأن يترتب الملك ويكون الضمير في { منه } عائداً على البيّنة التي قدرناها محمداً صلى الله عليه وسلم وأن يترتب القرآن ويكون { يتلوه } بمعنى يتبعه ، ويعود الضمير في { منه } على الرب .
وإن جعلنا «البيّنة » القرآن على أن { أفمن } هم المؤمنون - صح أن يترتب «الشاهد » محمد صلى الله عليه وسلم ، وصح أن يترتب الإنجيل وصح أن يترتب جبريل والملك ، ويكون { يتلوه } بمعنى يقرأه : وصح أن يترتب «الشاهد » الإعجاز ، ويكون { يتلوه } بمعنى يتبعه ، ويعود الضمير في { منه } على القرآن .
وإذا جعلنا { أفمن } للنبي صلى الله عليه وسلم ، كانت «البيّنة » القرآن ، وترتب «الشاهد » لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، وترتب الإنجيل ، وترتب جبريل والملك ، وترتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وترتب الإعجاز . ويتأول { يتلوه } بحسب «الشاهد » كما قلنا ولكن هذا القول يضعفه قوله { أولئك } فإنا إذا جعلنا قوله : { أفمن } للنبي صلى الله عليه وسلم وحده لم نجد في الآية مذكورين يشار إليهم بذلك ونحتاج في الآية إلى تجوز وتشبيه بقوله تعالى :
{ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء }{[6282]} وهو شبه ليس بالقوي .
والصح في الآية أن يكون قوله : { أفمن } للمؤمنين ، أو للمؤمنين والنبي معهم بأن لا يترتب «الشاهد »{[6283]} بعد ذلك يراد به النبي إذا قدرناه داخلاً في قوله : { أفمن } . وما تركناه من بسط هذا الترتيب يخرجه التدبر بسرعة فتأمله .
وقرأ جمهور الناس «كتابُ » بالرفع ؛ وقرأ الكلبي وغيره «كتاباً » بالنصب فمن رفع قدر «الشاهد » الإنجيل{[6284]} معناه يقرأ القرآن أو محمد صلى الله عليه وسلم - بحسب الخلاف - و «الإنجيل » و «من قبل » كتاب موسى إذ في الكتابين ذكر القرآن وذكر محمد صلى الله عليه وسلم .
ويصح أن يقدر الرافع «الشاهد » القرآن ، وتطرد الألفاظ بعد ذلك ، ومن نصب «كتاباً » قدر «الشاهد » جبريل عليه السلام ، أي يتلو القرآن جبريل ومن قبل القرآن كتاب موسى{[6285]} .
قال القاضي أبو محمد : وهنا اعتراض يقال : إذ قال { من قبله كتاب موسى } أو «كتابَ » بالنصب على القراءتين : والضمير في { قبله } عائد على القرآن - فلم لم يذكر الإنجيل - وهو قبله - بينه وبين كتاب موسى ؟ فالانفصال : أنه خص التوراة بالذكر لأن الملّتين مجمعتان أنهما من عند الله ، والإنجيل ليس كذلك : فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الطائفتين أولى : وهذا يجري مع قول الجن : { إنا سمعنا كتاب أنزل من بعد موسى }{[6286]} ومع قول النجاشي : إن هذا ، والذي جاء به موسى ، لخرج من مشكاة واحدة ؛ فإنما اختصر الإنجيل من جهة أن مذهبهم فيه مخالف لحال القرآن والتوراة ، ونصب { إماماً } على الحال من { كتاب موسى } ، { والأحزاب } ها هنا يراد به جميع الأمم ، وروى سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ، ولا من اليهود والنصارى ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار »{[6287]} فقلت{[6288]} : أين مصداق هذا من كتاب الله ؟ حتى وجدته في هذه الآية ، وكنت إذا سمعت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم طلبت مصداقه في كتاب الله .
قال القاضي أبو محمد : والراجح عندي من الأقوال في هذه الآية أن يكون { أفمن } للمؤمنين أو لهم وللنبي معهم ، إذ قد تقدم ذكر { الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار } [ هود : 16 ] ، فعقب ذكرهم بذكر غيرهم ، و «البيّنة » القرآن وما تضمن . و «الشاهد » محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل إذا دخل النبي في قوله : { أفمن } أو الإنجيل والضمير في { يتلوه } للبيّنة ، وفي { منه } للرب تعالى ، والضمير في { قبله } للبيّنة وغير هذا مما ذكرته آنفاً محتمل .
وقرأ الجمهور «في مِرية » بكسر الميم ، وقرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي «في مُرية » بضم الميم ، وهما لغتان في الشك ، والضمير في { منه } عائد على كون الكفرة موعدهم النار ، وسائر الآية بيّن .
وفي هذه الآية معادلة محذوفة يقتضيها ظاهر اللفظ تقديره : أفمن كان على بيّنة من ربه كمن كفر بالله وكذب أنبياءه ، ونحو هذا ، في معنى الحذف ، قوله عز وجل : { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى }{[6289]} ، لكان هذا القرآن ، ومن ذلك قول الشاعر : [ الطويل ] .
فأقسم لو شيء أتانا رسوله*** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا{[6290]}