ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر نعمه على خليله إبراهيم فقال - تعالى - { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } .
أى : وكما أرينا إبراهيم الحق فى خلاف ما عليه أبوه وقومه من الشرك ، نريه - أيضا - مظاهر ربوبيتنا ، ومالكيتنا للسموات والأرض ، ونطلعه على حقائقها . ليزداد إيمانا على إيمانه وليكون من العالمين علما كاملا لا يقبل الشك بأنه على الحق وأن مخالفيه على الباطل .
والرؤية هنا المقصود بها الانكشاف والمعرفة . فتشمل المبصرات والمعقولات التى يستدل بها على الحق .
وإنما قال { نري إِبْرَاهِيمَ } بصيغة المضارع ، مع أن الظاهر أن يقول " أريناه " لاستحضار صورة الحال الماضية التى كانت تتجدد وتتكرر بتجدد رؤية آياته - تعالى - فى ذلك الملكوت العظيم .
والملكوت : مصدر كالرغبوت والرحموت والجبروت ، وزيدت فيه الواو والتاء للمبالغة فى الصفة ، والمراد به الملك العظيم وهو مخص بملكه - تعالى - كما قال الراغب فى مفرداته .
وكذلك استحق إبراهيم - عليه السلام - بصفاء فطرته وخلوصها للحق أن يكشف الله لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون ، والدلائل الموحية بالهدى في الوجود :
( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، وليكون من الموقنين ) . .
بمثل هذه الفطرة السليمة ، وهذه البصيرة المفتوحة ؛ وعلى هذا النحو من الخلوص للحق ، ومن إنكار الباطل في قوة . . نري إبراهيم حقيقة هذا الملك . . ملك السماوات والأرض . . ونطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون ، ونكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود ، ونصل بين قلبه وفطرته وموحيات الإيمان ودلائل الهدى في هذا الكون العجيب . لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة ، إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق . .
وهذا هو طريق الفطرة البديهي العميق . . وعي لا يطمسه الركام . وبصر يلحظ ما في الكون من عجائب صنع الله . وتدبر يتبع المشاهد حتى تنطق له بسرها المكنون . . وهداية من الله جزاء على الجهاد فيه . .
وكذلك سار إبراهيم - عليه السلام - وفي هذا الطريق وجد الله . . وجده في إدراكه ووعيه ، بعد أن كان يجده فحسب في فطرته وضميره . . ووجد حقيقة الألوهية في الوعي والإدراك مطابقة لما استكن منها في الفطرة والضمير .
فلنتابع الرحلة الشائقة مع فطرة إبراهيم الصادقة . . إنها رحلة هائلة وإن كانت تبدو هينة ميسرة ! رحلة من نقطة الإيمان الفطري إلى نقطة الإيمان الوعي ! الإيمان الذي يقوم عليه التكليف بالفرائض والشرائع ؛ والذي لا يكل الله - سبحانه - جمهرة الناس فيه إلى عقولهم وحدها ، فيبينه لهم في رسالات الرسل ، ويجعل الرسالة - لا الفطرة ولا العقل البشري - هي حجته عليهم ، وهي مناط الحساب والجزاء ، عدلا منه ورحمة ، وخبرة بحقيقة الإنسان وعلما . .
فأما إبراهيم - عليه السلام - فهو إبراهيم ! خليل الرحمن وأبو المسلمين . .
وقوله تعالى : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } الآية المتقدمة تقضي بهداية إبراهيم عليه السلام ، والإشارة هنا بذلك هي إلى تلك الهداية ، أي وكما هديناه إلى الدعاء إلى الله وإنكار الكفر أريناه ملكوت . و { نُري } لفظها الاستقبال ومعناها المضي ، وحكى المهدوي : أن المعنى وكما هديناك يا محمد فكذلك نري إبراهيم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد إذ اللفظ لا يعطيه ، و { نُرِي } هنا متعدية إلى مفعولين لا غير فهي إما من رؤية البصر وإما من أرى التي هي بمعنى عرف ، ولو كانت من أرى بمعنى أعلم وجعلنا أعلم منقولة من علم التي تتعدى إلى مفعولين لوجب أن تتعدى أرى إلى ثلاثة مفاعيل ، وليس كذلك ولا يصح أن يقال : إن الثالث محذوف لأنه لا يجوز حذفه إذ هو الخبر في الجملة التي يدخل عليها علمت في هذا الموضع ، وإنما هي من علم بمعنى عرف ، ثم نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين ثم جعلت «أرى » بمنزلتها في هذه الحال ، وهذه الرؤية قيل رؤية البصر ، وروي في ذلك أن الله عز وجل فرج لإبراهيم السماوات والأرضين حتى رأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل{[4983]} فإن صح هذا المنقول ففيه تخصيص لإبراهيم عليه السلام بما لم يدركه غيره ، قبله ولا بعده ، وهذا هو قول مجاهد قال : تفرجت له السماوات والأرضون فرأى مكانه في الجنة ، وبه قال سعيد بن جبير وسلمان الفارسي ، وقيل : هي رؤية بصر في ظاهر الملكوت وقع له معها من الاعتبار ورؤية القلب ما لم يقع لأحد من أهل زمنه الذين بعث إليهم ، قاله ابن عباس وغيره ، ففي هذا تخصيص ما على جهة التقييد بأهل زمنه ، وقيل هي رؤية قلب رأى بها ملكوت السماوات والأرض بفكرته ونظره ، وذلك ولا بد متركب على ما تقدم من رؤيته ببصره وإدراكه في الجملة بحواسه .
قال القاضي أبو محمد : وهذان القولان الأخيران يناسبان الآية{[4984]} ، لأن الغاية التي نصبت له إنما هي أن يؤمن ويكون من جملة موقنين كثرة ، والإشارة لا محالة إلى من قبله من الأنبياء والمؤمنينن وبعده ، واليقين يقع له ولغيره وبالرؤية في ظاهر الملكوت والاستدلال به على الصانع والخالق لا إله إلا هو ، و { ملكوت } بناء مبالغة كجبروت ورهبوت ورحموت ، وقال عكرمة هو ملكوتي باليونانية أو بالنبطية ، وقرأ «ملكوث » بالثاء مثلثة وقرأ أبو السمال «مَلْكوت » بإسكان اللام وهي لغة ، و { ملكوت } بمعنى الملك ، والعرب تقول لفلان ملكوت اليمن أي ملكه ، واللام في { ليكون } متعلقة بفعل مؤخر تقديره وليكون من الموقنين أريناه ، والموقن : العالم بالشيء علماً لا يمكن أن يطرأ له فيه شك ، وقال الضحاك ومجاهد أيضاً إن الإشارة ها هنا { بملكوت السماوات } هي إلى الكواكب والقمر والشمس ، وهذا راجع وداخل فيما قدمناه من أنها رؤية بصر في ظاهر الملكوت ، وروي عن ابن عباس في تفسير { وليكون من الموقنين } قال جلى له الأمور سرها وعلانيتها فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق ، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله تعالى إنك لا تستطيع هذا ، فرده لا يرى أعمالهم{[4985]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.