ثم بين - سبحانه - بعض ما دار بين إبراهيم وبين قومه من مجادلات ومخاصمات فقال : { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ . . . } .
المحاجة : المجادلة والمغالبة فى إقامة الحجة ، والحجة الدلالة المبينة للمحجة أى : المقصد المستقيم - كما قال الراغب - وتطلق الحجة على كل ما يدلى به أحد الخصمين فى إثبات دعواه أو رد دعوى خصمه .
فمعنى { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ } أى : جادلوه وخاصموه أو شرعوا فى مغالبته فى أمر التوحيد تارة بإيراد أدلة فاسدة واقعة فى حضيض التقليد ، وأخرى بالتهديد والتخويف ، فقد حكى القرآن أنهم قالوا له عندما نهاهم عن عبادة الأصنام { وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } وقد رد عليهم إبراهيم رداً قوياً جريئاً فقال لهم : { أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ } أى أتجادلوننى فى شأنه - تعالى - وفى أدلة وحدانيته ، والحال أنه - سبحانه - قد هدانى أى أتجادلوننى فى شأنه - تعالى - وفى أدلة وحدانيته ، والحال أنه - سبحانه - قد هدانى إلى الدين الحق وإلى إقامة الدليل عليكم بأنه هو المستحق للعبادة .
والاستفهام للانكار والتوبيخ وتيئيسهم من رجوعه إلى معتقداتهم .
وجملة { وَقَدْ هَدَانِ } حال مؤكدة للانكار أى لا جدوى من محاجتكم إياى بعد أن هدانى الله إلى الطريق المستقيم ، وجعلنى من المبغضين للأصنام المحتقرين لها .
ثم صارحهم بأنه لا يخشى أصنامهم ولا يقيم لها وزنا فقال : { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } أى لا أخاف معبوداتكم لأنها جمادات لا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، ولا تقرب ولا تشفع . ويبدو أن قومه كانوا قد خوفوه بطش أصنمهم وقالوا له كما قالت قبيلة عاد لنبيها هود { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء } فرد عليهم إبراهيم هذا الرد القوى الصريح .
وقوله { إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً } استثناء مما قبله أى : لا أخاف معبوداتكم فى جميع الأوقات إلا وقت مشيئة ربى شيئاً من المكروه يصيبنى من جهتها بأن يسقط على صنم يشجنى ، فإن ذلك يقع بقدرة ربى ومشيئته لا بقدرة أصنامكم أو مشيئتها ، وعلى هذا التفسير الذى ذهب إليه صاحب الكشاف يكون الاستثناء متصلا .
ويرى ابن عطية وغيره أن الاستثناء منقطع على معنى : لا أخاف معبوداتكم ولكن أخاف أن يشاء ربى خوفى مما أشركتم به .
وهذه الجملة الكريمة تدل على سمو أدب إبراهيم - عليه السلام - مع ربه ، وعلى نهاية استسلامه لمشيئته ، فمع أنه مؤمن بخالقه كل الإيمان وكافر بتلك الآلهة كل الكفران ، إلا أنه ترك الأمر كله لمشيئة الله ، وعلق مستقبله على ما يريد الله فيه .
وقوله { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أى : أن علم ربى وسع كل شىء وأحاط به ، فلا يبعد أن يكون فى علمه إنزال ما يخفينى من جهة تلك المعبودات الباطلة لسبب من الأسباب .
وهذه الجملة الكريمة مستأنفة بيانيا فكأن قومه قد قالوا : كيف يشاء ربك شيئا تخافه فكان جوابه عليهم : { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } فأنا وإن كنت عبده وناصره إلا أنه أعلم بإلحاق الضر أو النفع بمن يشاء من عباده .
و { عِلْماً } منصوب على التمييز المحول عن الفاعل ، إذ الأصل فى هذا التعبير " أن يقال : وسع علم ربى كل شىء ، ولكن عدل به عن هذا النسق ، وأسند الفعل فيه إلى الله لا إلى علمه ، وجعل لفظ العلم تمييزا لا فاعلا ليكون الوسع والإحاطة والشمول لله ، فيخلع التعبير ظلا أشمل وأفخم وأعمق وقعا فى النفس .
وقوله { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } أى تعرضون ايها الغافلون عن التأمل والتكذير بعد أن أوضحت لكم بما لا يقبل مجالا للشك أن الله وحده هو المستحق للعبادة وأن هذه المعبودات التى سواه لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا .
فالاستفهام للإنكار والتوبيخ لعدم تذكرهم مع وضوح الدلائل .
وفى إيراد التذكر دون التفكر ونحوه إشارة إلى أن أمر آلهتهم مركوز فى العقول ولا يتوقف إلى على التذكير .
ومرة أخرى نشهد ذلك المشهد الرائع الباهر . . مشهد العقيدة وقد استعلنت في النفس ، واستولت على القلب ، بعدما وضحت وضوحها الكامل وانجلى عنها الغبش . . نشهدها وقد ملأت الكيان الإنساني ، فلم يعد وراءها شيء . وقد سكبت فيه الطمأنينة الواثقة بربه الذي وجده في قلبه وعقله وفي الوجود من حوله . . وهو مشهد يتجلى بكل روعته وبهائه في الفقرة التالية في السياق .
لقد انتهى إبراهيم إلى رؤية الله - سبحانه - في ضميره وعقله وفي الوجود من حوله . وقد اطمأن قلبه واستراح باله . وقد احس بيد الله تأخذ بيده وتقود خطاه في الطريق . . والآن يجيء قومه ليجادلوه فيما انتهى إليه من يقين ؛ وفيما انشرح له صدره من توحيد ؛ وليخوفوه آلهتهم التي تنكر لها أن تنزل به سوءا . . وهو يواجههم في يقينه الجازم ؛ وفي إيمانه الراسخ ؛ وفي رؤيته الباطنة والظاهرة لربه الحق الذي هداه :
( وحاجه قومه ، قال : أتحاجوني في الله وقد هدان ؟ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا ، وسع ربي كل شيء علما . أفلا تتذكرون ؟ وكيف أخاف ما أشركتم ، ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ؟ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ؟ ) . .
إن الفطرة حين تنحرف تضل ؛ ثم تتمادى في ضلالها ، وتتسع الزاوية ويبعد الخط عن نقطة الابتداء ، حتى ليصعب عليها أن تثوب . . وهؤلاء قوم إبراهيم - عليه السلام - يعبدون أصناما وكواكب ونجوما . فلا يتفكرون ولا يتدبرون هذه الرحلة الهائلة التي تمت في نفس إبراهيم . ولم يكن هذا داعيا لهم لمجرد التفكر والتدبر .
بل جاءوا يجادلونه ويحاجونه . وهم على هذا الوهن الظاهر في تصوراتهم وفي ضلال مبين .
ولكن إبراهيم المؤمن الذي وجد الله في قلبه وعقله وفي الوجود كله من حوله ، يواجههم مستنكرا في طمأنينة ويقين :
( قال : أتحاجوني في الله وقد هدان ؟ ) . .
أتجادلونني في الله وقد وجدته يأخذ بيدي ، ويفتح بصيرتي ، ويهديني إليه ، ويعرفني به . . لقد أخذ بيدي وقادني فهو موجود - وهذا هو في نفسي دليل الوجود - لقد رأيته في ضميري وفي وعيي ، كما رأيته في الكون من حولي . فما جدالكم في أمر أنا أجده في نفسي ولا أطلب عليه الدليل . فهدايته لي إليه هي الدليل ؟ !
وكيف يخاف من وجد الله ؟ وماذا يخاف ومن ذا يخاف ؟ وكل قوة - غير قوة الله - هزيلة وكل سلطان - غير سلطان الله - لا يخاف ؟ !
ولكن إبراهيم في عمق إيمانه ، واستسلام وجدانه ، لا يريد أن يجزم بشيء إلا مرتكنا إلى مشيئة الله الطليقة ، وإلى علم الله الشامل :
و{ حاجه } فاعله من الحجة ، قال أتراجعوني في الحجة في توحيد الله ، وقرأت فرقة «أتحاجونني » بإظهار النونين وهو الأصل ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «أتحاجوني » بإدغام النون الأولى في الثانية ، وقرأ نافع وابن عامر «أتحاجوني » بحذف النون الواحدة فقيل : هي الثانية وقيل هي الأولى ويدل على ذلك أنها بقيت مكسورة قال أبو علي الفارسي : لا يجوز أن تحذف الأولى لأنها للإعراب وإنما حذفت الثانية التي هي توطئة لياء المتكلم كما حذفت في «ليتي » وفي قول الشاعر : [ الوافرُ ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يسوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْنِي{[4993]}
وكسرت بعد ذلك الأولى الباقية لمجاورتها للياء { وقد هداني } أي أرشدني إلى معرفته وتوحيده ، وأمال الكسائي «هدانِ » والإمالة في ذلك حسنة وإذا جازت الإمالة في غزا ودعا هما من ذوات الواو فهي في «هدانِ » التي هي من ذوات الياء أجوز وأحسن ، وحكي أن الكفار قالوا لإبراهيم عليه السلام :خف أن تصيبك آلهتنا ببرص أو داء لإذايتك لها وتنقصك ، فقال لهم لست أخاف الذي تشركون به ، لأنه لا قدرة له ولا غناء عنده ، و { ما } في هذا الموضع بمعنى الذي ، والضمير في { به } يحتمل أن يعود على الله عز وجل فيكون على هذا في قوله { تشركون } ضمير عائد على { ما } تقدير الكلام ولا أخاف الأصنام التي تشركونها بالله في الربوبية ، ويحتمل أن يعود الضمير على { ما } فلا يحتاج إلى غيره ، كأن التقدير ما تشركون بسببه ، وقوله تعالى : { إلا أن يشاء ربي شيئاً } استثناء ليس من الأول و { شيئاً } منصوب ب { يشاء } ، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضراً استثنى مشيئة ربه تعالى في أن يريده بضر ، و { علماً } نصب على التمييز وهو مصدر بمعنى الفاعل ، كما تقول العرب : تصبب زيد عرقاً ، المعنى تصبب عرق زيد فكذلك المعنى هنا وسع علم ربي كل شيء { أفلا تتذكرون } توقيف وتنبيه وإظهار لموضع التقصير منهم .