ثم تعقب السورة على هذا الغريب الذي حكته عن مشركى مكة ، فتبين الموجب لإِمهالهم وعدم إجابة دعائهم فتقول : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
أى : وما كان الله مريداً لتعذيب هؤلاء الذين دعوا بهذا الدعاء الغريب تعذب استئصال وإهلاك ، وأنت مقيم فيهم - يا محمد - بمكة ، فقد جرت سنته - سبحانه - ألا يهلك قرية مكذبة وفيها نبيها والمؤمنون به حتى يخرجهم منها ثم يعذب الكافرين .
واللام في قوله { لِيُعَذِّبَهُمْ } لتأكيد النفى ، وللدلالة على أن تعذيبهم والرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة .
والمراد بالاستغفار في قوله : { وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } استغفار من بقى بينهم من المؤمنين المستضعفين الذين لم يستطيعوا مغادرة مكة بعد أن هاجر منها النبى - صلى الله عليه وسلم والمؤمنون .
أى : ما كان الله مريداً لتعذيبهم وأنت فيهم - يا محمد - ما كان - أيضا - مريداً تعذيبهم وبين أظهرهم بمكة من المؤمنين المستضعفين من يستغفر الله ، وهو الذين لم يستطيعوا مغادرتها واللحاق بك في المدينة .
قالوا : ويؤيد أن هذا هو المراد بالاستغفار قوله - تعالى - في آية أخرى : { لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أى : لو تميز المؤمنون عن الكافرين لعذبنا الذين كفروا عذابا أليما .
وأسند - سبحانه - الاستغفار إلى ضمير الجميع ، لوقوعه فيما بينهم ، ولتنزيل ما صدر عن البعض منزلة ما صدر عن الكل . كما يقال : قتل أهل بلدة كذا فلانا والمراد بعضهم . ويرى بعضهم أن المراد بالاستغفار المذكور : استغفار الكفرة أنفسهم كقولهم : غفرانك . في طوافهم بالبيت ، أو ما يشبه ذلك من معانى الاستغفار وكأن هذا البعض يرى أن مجرد طلب المغفرة منه - سبحانه - يكون مانعا من عذابه ولو كان هذا الطلب صادرا من الكفرة .
ويرجع ابن جرير أن المراد بقوله : { وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } نفى الاستغفار عنهم فقد قال بعد أن ذكر بضعة آراء : وأولى هذه الأقوال عندى بالصواب قول من قال : تأويله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يا محمد ، وبين أظهرهم مقيم ، حتى أخرجك من بين أظهرهم ، لأنى لا أهلك قرية وفيها نبيها ، وما كان الله معذبهم وهم يستغرون من ذنوبهم وكفرهم ، ولكنهم لا يستغفرون من ذلك بل هم مصرون عليه ، فهم للعذاب مستحقون . .
قال بعض المحققين : والقول الأول أبلغ لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة .
ثم قال : روى الترمذى عن أبى موسى الأشعرى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - " أنزل الله على أمَانَينِ لأمتى { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ } " الآية . فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة .
قال ابن كثير : ويشهد لهذا ما رواه الإِمام أحمد والحاكم وصححه عن أبى سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن إبليس قال لربه : بعزتك وجلالك لا أبرح أغوى بنى آدم ما دامت الأرواح فيهم . فقال الله - تعالى - فبغزتى وجلالى لا أبرح أغفر لهم ما استغفرونى " .
ويعقب السياق على هذا العناد ، وعلى هذا الادعاء ، بأنهم مع استحقاقهم لإمطار الحجارة عليهم من السماء وللعذاب الأليم الذي طلبوه - إن كان هذا هو الحق من عنده - وإنه للحق . . مع هذا فإن الله قد أمسك عنهم عذاب الاستئصال الذي أخذ به المكذبين قبلهم . لأن رسول الله [ ص ] بينهم ، ولا يزال يدعوهم إلى الهدى . والله لا يعذبهم عذاب الاستئصال والرسول فيهم . كما أنه لا يعذبهم هذا العذاب على معاصيهم إذا كانوا يستغفرون منها ؛ وليس تأخير العذاب عنهم لمجرد أنهم أهل هذا البيت . فهم ليسوا بأولياء هذا البيت إنما أولياؤه المتقون :
( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون . وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام ، وما كانوا أولياءه ، إن أولياؤه إلا المتقون ، ولكن أكثرهم لا يعلمون . وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية . فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) . .
إنها رحمة الله تمهلهم فلا يأخذهم الله بعنادهم ؛ ولا يأخذهم بصدهم عن المسجد الحرام - وقد كانوا يمنعون المسلمين أن يحجوا إليه ، وهم لا يمنعون أحداً ولا يهيجونه عنه !
إنها رحمة الله تمهلهم عسى أن يستجيب للهدى منهم من تخالط بشاشة الإيمان قلبه - ولو بعد حين - وما دام الرسول [ ص ] بينهم ، يدعوهم ، فهنالك توقع لاستجابة البعض منهم ؛ فهم إكراماً لوجود رسول الله بينهم يمهلون . والطريق أمامهم لاتقاء عذاب الاستئصال دائماً مفتوح إذا هم استجابوا واستغفروا عما فرط منهم وأنابوا :
( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) . .
قالت فرقة : نزلت هذه الآية كلها بمكة ، وقالت فرقة : نزلت كلها بعد وقعة بدر حكاية عما مضى ، وقال ابن أبزى{[5314]} : نزل قوله { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } بمكة إثر قولهم { أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] ونزل قوله { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة في طريقه إلى المدينة ، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ، ونزل قوله { وما لهم } إلى آخر الآية بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم .
قال القاضي أبو محمد : وأجمع المتأولون على أن معنى قوله { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } أن الله عز وجل لم يعذب قط أمة ونبيها بين أظهرها ، فما كان ليعذب هذه وأنت فيهم ، بل كرامتك لديه أعظم ، قال : أراه عن أبي زيد{[5315]} سمعت من العرب من يقول «ما كان ليعذبهم » بفتح اللام وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن ، واختلفوا في معنى قوله { وما كان الله معذبهم وهم مستغفرون } فقال ابن عباس وابن أبزى وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه : إن الضمير في قوله { معذبهم } يعود على كفار مكة والضمير في قوله { وهم } عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، أي وما كان الله ليعذب الكفار والمؤمنون بينهم يستغفرون .
قال القاضي أبو محمد : ويدفع في صدر هذا القول أن المؤمنين الذين رد الضمير عليهم لم يجر لهم ذكر ، وقال ابن عباس أيضاً ما مقتضاه : أن يقال الضميران عائدان على الكفار ، وذلك أنهم كانوا يقولون في دعائهم غفرانك ، ويقولون لبيك لا شريك لك ، ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار ، فجعله الله أمنة من عذاب الدنيا ، وعلى هذا تركب قول أبي موسى الأشعري وابن عباس إن الله جعل من عذاب الدنيا َأَمَنَتْين : كون الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس والاستغفار ، فارتفعت الواحدة وبقي الاستغفار إلى يوم القيامة{[5316]} ، وقال قتادة : الضمير للكفار ، وقوله { وهم يستغفرون } ، جملة في موضع الحال أن لو كانت ، فالمعنى وما كان الله معذبهم وهو بحال توبة واستغفار من كفرهم لو وقع ذلك منهم ، واختاره الطبري ، ثم حسن الزجر والتوقيف بعد هذا بقوله { وما لهم ألا يعذبهم الله } وقال الزجّاج ما معناه ، إن الضمير في قوله { وهم } عائد على الكفار .
والمراد به : سبق له في علم الله أن يسلم ويستغفر ، فالمعنى : وما كان الله ليعذب الكفار وفيهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال ، وحكاه الطبري عن ابن عباس .
وقال مجاهد في كتاب الزهراوي : المراد بقوله { وهم يستغفرون } ذرية المشركين يومئذ الذين سبق لهم في علم الله أن يكونوا مؤمنين ، فالمعنى : وما كان الله ليعذبهم وذريتهم يستغفرون ويؤمنون ، فنسب الاستغفار إليهم ، إذ ذريتهم منهم ، وذكره مكي ولم ينسبه ، وفي الطبري عن فرقة أن معنى { يستغفرون } يصلون ، وعن أخرى يسلمون ونحو هذا من الأقوال التي تتقارب مع قول قتادة .