ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة ظن هؤلاء الكافرين الجاهلين فقال : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } .
و { ذلكم } اسم إشارة يعود إلى ظنهم السابق ، وقوله { أَرْدَاكُمْ } خبره .
أى : وذلكم الظن الذى ظننتموه بربكم ، وهو أنه - سبحانه - لا يعلم كثيرا مما تعملونه سرا ، هذا الظن { أَرْدَاكُمْ } أى : أهلككم ، يقال ردى فلان - كصدى - إذا هلك { فَأَصْبَحْتُمْ } أيها الكافرون من الخاسرين لكل شئ فى دنياكم .
{ وذلكم ظَنُّكُمُ } الإِشارة إلى الظن المأخوذ من فعل { ظَنَنتُم أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ } ، ويستفاد من الإِشارة إليه تمييزه أكمل تمييز وتشهير شناعته للنداء على ضلالهم . وأتبع اسم الإِشارة بالبدل بقوله : { ظَنُّكُم } لزيادة بيانه ليتمكن ما يعقبه من الخبر ، والخبر هو فعل { أَردَاكُم } وما تفرع عليه .
و { الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُم } صفة ل { ظَنُّكُمُ } . والإِتيان بالموصول لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو { أَرْدَاكُم } وما تفرع عليه ، أي الذي ظننتم بربكم ظناً باطلاً . والعدول عن اسم الله العَلَم إلى { بِرَبِّكُم } للتنبيه على ضلاللِ ظنهم ، إذ ظنوا خفاء بعض أعمالهم عن علمه مع أنه ربهم وخالقهم فكيف يخلقهم وتخفى عنه أعمالهم ، وهو يشير إلى قوله : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [ الملك : 14 ] ، ففي وصف { بِرَبِّكُم } إيماء إلى هذا المعنى .
والإِرداء : الإِهلاك ، يقال : رَدِيَ كرضِي ، إذا هلَك ، أي مات ، والإِرداء مستعار للإِيقاع في سوء الحالة بحيث أصارهم مثل الأموات فإن ذلك أقصى ما هو متعارف بين الناس في سوء الحالة وفي الإِتيان بالمسند فعلاً إفادة قصرٍ ، أي ما أرداكم إلا ظنكم ذلك ، وهو قصر إضافي ، أي لم تُردِكم شهادة جوارحكم حتى تلوموها بل أرداكم ظنكم أن الله لا يعلم أعمالكم فلم تحذروا عقابه .
وقوله : { فَأَصبحتم مِنَ الخاسرين } تمثيل لحالهم إذ يحسبون أنهم وصلوا إلى معرفة ما يحق أن يعرفوه من شؤون الله ووثقوا من تحصيل سعادتهم ، وهم ما عرفوا الله حق معرفته فعاملوا الله بما لا يرضاه فاستحقوا العذاب من حيث ظنوا النجاة ، فشبه حالهم بحال التاجر الذي استعدّ للربح فوقع في الخسارة .
والمعنى : أنه نُعي عليهم سوء استدلالهم وفساد قياسهم في الأمور الإِلهية ، وقياسُهم الغائبَ على الشاهد ، تلك الأصولُ التي استدرجتهم في الضلالة فأحالوا رسالة البشر عن الله ونفوا البعث ، ثم أثبتوا شركاء لله في الإِلهية ، وتفرع لهم من ذلك كله قطع نظرهم عما وراء الحياة الدنيا وأمنهم من التبعات في الحياة الدنيا ، فذلك جماع قوله تعالى : { وذلكم ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بربِّكم أرداكم فأصْبَحْتُم مِنَ الخاسرين } .
واعلم أن أسباب الضلال في العقائد كلها إنما تأتي على الناس من فساد التأمل وسرعة الإِيقان وعدم التمييز بين الدلائل الصائبة والدلائل المشابهة وكل ذلك يفضي إلى الوهَم المعبر عنه بالظن السيِّىء ، أو الباطل . وقد ذكر الله مثله في المنافقين وأن ظنهم هو ظن أهل الجاهلية فقال : { يظنون باللَّه غير الحق ظن الجاهلية } [ آل عمران : 154 ] ، فليحذر المؤمنون من الوقوع في مثل هذه الأوهام فيبُوءُوا ببعض ما نُعي على عبدة الأصنام .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » يريد الظن الذين لا دليل عليه . و ( أصبحتم ) بمعنى : صرتم ، لأن أصبح يكثر أن تأتي بمعنى : صار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم}: يقينكم الذي أيقنتم بربكم وعلمكم بالله بأن الجوارح لا تشهد عليكم ولا تنطق، وأن الله لا يخزيكم بأعمالكم الخبيثة.
{أرداكم} يعني أهلككم سوء الظن.
{فأصبحتم من الخاسرين} بظنكم السيئ، كقوله لموسى: {فتردى} [طه:16] يقول فتهلك.
{فأصبحتم من الخاسرين} يعني من أهل النار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وهذا الذي كان منكم في الدنيا من ظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون من قبائح أعمالكم ومساويها، هو ظنكم الذي ظننتم بربكم في الدنيا "أرداكم"، يعني: أهلككم... عن معمر، قال: تلا الحسن: "وَذَلِكُمْ ظَنّكُمُ الّذِي ظَنَنْتُم بِرَبّكُمْ أرْدَاكُمْ "فقال: إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم؛ فأما المؤمن فأحسن بالله الظن، فأحسن العمل وأما الكافر والمنافق، فأساءا الظنّ فأساءا العمل، قال ربكم: "وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أبْصَارُكُمْ" حتى بلغ: "الخاسرين"... فمعنى الكلام: هذا الظنّ الذي ظننتم بربكم من أنه لا يعلم كثيرا مما تعملون هو الذي أهلككم، لأنكم من أجل هذا الظنّ اجترأتم على محارم الله فقدمتم عليها، وركبتم ما نهاكم الله عنه، فأهلككم ذلك وأرداكم "فأَصْبَحْتُمْ مِنْ الخاسِرِينَ" يقول: فأصبحتم اليوم من الهالكين، قد غبتم ببيعكم منازلكم من الجنة بمنازل أهل الجنة من النار.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ظنّكم ذلك أرداكم، أي أغواكم، وأضلّكم عن الهدى. وقال قتادة: يا ابن آدم إن عليك لشهودا غير مُبهمَة من يديك، فراقبهم، اتق الله في سرّ أمرك وعلانيتك فإنه لا تخفى عليه خافية: الظلمة عنده ضوء والسّر عنده علانية، ومن استطاع أن يموت، وهو بالله حسن الظن، فليفعل، ولا قوة إلا بالله. ثم قال: الظّن ظنّان: ظنٌّ مُنَجٍّ، وظنّ مُرْدٍ؛ فأما المُنجّي فقوله: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} [البقرة: 46] وما قال: {إني ظننت أني ملاقٍ حسابية} [الحاقة: 20] وأما الظن المُردي فقوله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}،وقوله: {إن نظن إلا ظنا} [الجاثية: 32] ونحوه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الظنُّ بالله إذا كان جميلاً فلعمري يُقَابَلُ بالتحقيق، أمَّا إذا كان نتيجةَ الغرورِ وغيرَ مأذونِ به في الشرع فإنه يُرْدِي صاحبه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وذلكم ظَنُّكُمُ} الإِشارة إلى الظن المأخوذ من فعل {ظَنَنتُم أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ}، ويستفاد من الإِشارة إليه تمييزه أكمل تمييز وتشهير شناعته للنداء على ضلالهم، وأتبع اسم الإِشارة بالبدل بقوله: {ظَنُّكُم} لزيادة بيانه ليتمكن ما يعقبه من الخبر، والخبر هو فعل {أَردَاكُم} وما تفرع عليه.
{الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُم} صفة ل {ظَنُّكُمُ}، والإِتيان بالموصول لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو {أَرْدَاكُم} وما تفرع عليه، أي الذي ظننتم بربكم ظناً باطلاً. والعدول عن اسم الله العَلَم إلى {بِرَبِّكُم} للتنبيه على ضلالِ ظنهم، إذ ظنوا خفاء بعض أعمالهم عن علمه مع أنه ربهم وخالقهم فكيف يخلقهم وتخفى عنه أعمالهم وهو يشير إلى قوله: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14]، ففي وصف {بِرَبِّكُم} إيماء إلى هذا المعنى.
والإِرداء: الإِهلاك، يقال: رَدِيَ كرضِي، إذا هلَك، أي مات، والإِرداء مستعار للإِيقاع في سوء الحالة بحيث أصارهم مثل الأموات؛ فإن ذلك أقصى ما هو متعارف بين الناس في سوء الحالة وفي الإِتيان بالمسند فعلاً إفادة قصرٍ، أي ما أرداكم إلا ظنكم ذلك، وهو قصر إضافي، أي لم تُردِكم شهادة جوارحكم حتى تلوموها بل أرداكم ظنكم أن الله لا يعلم أعمالكم فلم تحذروا عقابه.
{فَأَصبحتم مِنَ الخاسرين} تمثيل لحالهم إذ يحسبون أنهم وصلوا إلى معرفة ما يحق أن يعرفوه من شؤون الله، ووثقوا من تحصيل سعادتهم، وهم ما عرفوا الله حق معرفته فعاملوا الله بما لا يرضاه فاستحقوا العذاب من حيث ظنوا النجاة، فشبه حالهم بحال التاجر الذي استعدّ للربح فوقع في الخسارة.
والمعنى: أنه نُعي عليهم سوء استدلالهم وفساد قياسهم في الأمور الإِلهية، وقياسُهم الغائبَ على الشاهد، تلك الأصولُ التي استدرجتهم في الضلالة فأحالوا رسالة البشر عن الله ونفوا البعث، ثم أثبتوا شركاء لله في الإِلهية، وتفرع لهم من ذلك كله قطع نظرهم عما وراء الحياة الدنيا وأمنهم من التبعات في الحياة الدنيا، فذلك جماع قوله تعالى: {وذلكم ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بربِّكم أرداكم فأصْبَحْتُم مِنَ الخاسرين}.
واعلم أن أسباب الضلال في العقائد كلها إنما تأتي على الناس من فساد التأمل وسرعة الإِيقان وعدم التمييز بين الدلائل الصائبة والدلائل المشابهة وكل ذلك يفضي إلى الوهَم المعبر عنه بالظن السيِّئ أو الباطل. وقد ذكر الله مثله في المنافقين وأن ظنهم هو ظن أهل الجاهلية فقال: {يظنون باللَّه غير الحق ظن الجاهلية} [آل عمران: 154]، فليحذر المؤمنون من الوقوع في مثل هذه الأوهام فيبُوؤوا ببعض ما نُعي على عبدة الأصنام. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» يريد الظن الذين لا دليل عليه.