التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ} (2)

افتتح الله - تعالى - هذه السورة الكريمة بقوله - تعالى - : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } .

وللعلماء فى مثل هذا التركيب أقوال منها : أن حرف " لا " هنا جئ به ، لقصد المبالغة فى تأكيد القسم ، كما فى قولهم : لا والله .

قال الآلوسى : إدخال " لا " النافية صورة على فعل القسم ، مستفيض فى كلامهم وأشعارهم .

ومنه قول امرئ القيس : لا وأبيك يا بنة العامرى . . يعنى : وأبيك .

ثم قال : وملخص ما ذهب إليه جار الله فى ذلك ، أن " لا " هذه ، إذا وقعت فى خلال الكلام كقوله - تعالى - { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } فهى صلة تزاد لتأكيد القسم ، مثلها فى قوله - تعالى - : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } لتأكيد العلم . .

ومنها : أن " لا " هنا ، جئ بها لنفى ورد كلام المشركين المنكرين ليوم القيامة فكأنه - تعالى - يقول : لا ، ليس الأمر كما زعموا ، ثم قال : أقسم بيوم القيامة الذى يبعث فيه الخلق للجزاء .

قال القرطبى : وذلك كقولهم : لا والله لا أفعل . فلا هنا رد لكلام قد مضى ، وذلك كقولك : لا والله إن القيامة لحق ، كأنك أكذبت قوما أنكروها . .

ومنها : أن " لا " فى هذا التركيب وأمثاله على حقيقتها للنفى ، والمعنى لا أقسم بيوم القيامة ولا بغيره ، على أن البعث حق ، فإن المسألة أوضح من أن تحتاج إلى قسم .

وقد رجح بعض العلماء القول الأول فقال : وصيغة لا أقسم ، صيغة قسم ، أدخل حرف النفى على فعل " أقسم " لقصد المبالغة فى تحقيق حرمة المقسم به ، بحيث يوهم للسامع أن المتكلم يهم أن يقسم به ، ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول : لا أقسم به ، أى : ولا أقسم بأعز منه عندى . وذلك كنانية عن تأكيد القسم .

والمراد بالنفس اللوامة : النفس التقية المستقيمة التى تلوم ذاتها على ما فات منها ، فهى - مهما أكثرت من فعل الخير - تتمنى أن لو ازدادت من ذلك ، ومهما قللت من فعل الشر ، تمنت - أيضا - أن لو ازدادت من هذا التقليل .

قال ابن كثير : عن الحسن البصرى فى هذه الآية : إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه ، يقول : ما أردت بكلمتى ؟ ما أردت بأكلتى ؟ . . وإن الفاجر قدما ما يعاتب نفسه .

وفى رواية عن الحسن - أيضا - ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا يلوم نفسه يوم القيامة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ} (2)

فأما النفس اللوامة ففي التفسيرات المأثورة أقوال متنوعة عنها . . فعن الحسن البصري : إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ? ما أردت بأكلتي ? ما أردت بحديث نفسي ? وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاتب نفسه . . وعن الحسن : ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة . . وعن عكرمة : تلوم على الخير والشر : لو فعلت كذا وكذا ! كذلك عن سعيد بن جبير . . وعن ابن عباس : هي النفس اللؤوم . وعنه أيضا : اللوامة المذمومة . وعن مجاهد : تندم على ما فات وتلوم عليه . . وعن قتادة : الفاجرة . . وقال جرير : وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى ، والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر ، وتندم على ما فات .

ونحن نختار في معنى ( النفس اللوامة )قول الحسن البصري : " إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ? ما أردت بأكلتي ? ما أردت بحديث نفسي ? وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاتب نفسه " . .

فهذه النفس اللوامة المتيقظة التقية الخائفة المتوجسة التي تحاسب نفسها ، وتتلفت حولها ، وتتبين حقيقة هواها ، وتحذر خداع ذاتها هي النفس الكريمة على الله ، حتى ليذكرها مع القيامة . ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة . نفس الإنسان الذي يريد أن يفجر ويمضي قدما في الفجور ، والذي يكذب ويتولى ويذهب إلى أهله يتمطى دون حساب لنفسه ودون تلوم ولا تحرج ولا مبالاة !

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ} (2)

ولا أقسم بالنفس اللوامة بالنفس المتقية التي تلوم النفوس المقصرة في التقوى يوم القيامة على تقصيرها أو التي تلوم نفسها أبدا وإن اجتهدت في الطاعة أو النفس المطمئنة اللائمة للنفس الأمارة أو بالجنس لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وتلوم نفسها يوم القيامة إن عملت خيرا قالت كيف لم أزدد وإن عملت شرا قالت يا ليتني كنت قصرت أو نفس آدم فإنها لم تزل تتلوم على ما خرجت به من الجنة وضمها إلى يوم القيامة لأن المقصود من إقامتها مجازاتها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ} (2)

وقوله تعالى : «ولا أقسم بالنفس اللوامة » القول في «لا » على نحو ما تقدم ، وأما القراءة الثانية فتحتمل أمرين ، إما أن تكون اللام دخلت على فعل الحال ، التقدير لأنا أقسم فلا تلحق لأن النون نون التوكيد إنما تدخل في الأكثر لتفرق بين فعل الحال والفعل المستقبل فهي تلزم المستقبل في الأكثر ، وإما أن يكون الفعل خالصاً للاستقبال فكأن الوجه والأكثر أن تلحق النون إما الخفيفة وإما الثقيلة ، لكن قد ذكر سيبويه أن النون قد تسقط مع إرادة الاستقبال وتغني اللام عنها كما تسقط اللام وتغني النون عنها وذلك في قول الشاعر : [ الكامل ]

وقتيل مرة أثأرن فإنه*** فرغ وإن قتيلهم لم يثأر{[11463]}

المراد لأثارن ، وأما قوله «ولا أقسم بالنفس اللوامة » فقيل «لا » نافية ، وإن الله تعالى أقسم بيوم القيامة ، ونفى أن يقسم بالنفس اللوامة نص عليه الحسن ، وقد ذهب هذا المذهب قوم ممن قرأ «لا أقسم ولأقسم » ، وذلك قلق وهو في القراءة الثانية أمكن وجمهور المتأولين على أن الله تعالى أقسم بالأمرين ، واختلف الناس في { النفس اللوامة } ما معناه ، فقال الحسن هي { اللوامة } لصاحبها في ترك الطاعة ونحوه ، فهي على هذا ممدوحة ، ولذلك أقسم الله تعالى بها ، وقال ابن عباس : هي الفاجرة الجشعة { اللوامة } لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأعراضها فهي على هذا ذميمة وعلى هذا التأويل يحسن نفي القسم بها والنفس في الآية اسم جنس لنفوس البشر ، وقال ابن جبير ما معناه : إن القسم بها هي اسم الجنس لأنها تلوم على الخير وعلى الشر ، وقيل المراد نفس آدم لأنها لم تزل اللائمة له على فعله الذي أخرجه من الجنة .

قال القاضي أبو محمد : وكل نفس متوسطة ليست بالمطمئنة ولا بالأمارة بالسوء ، فإنها لوامة في الطرفين مرة تلوم على ترك الطاعة ، ومرة تلوم على فوت ما تشتهي ، فإذا اطمأنت خلصت وصفت .


[11463]:هذا البيت من قصيدة قالها عامر بن الطفيل بعد أن هزم قومه أمام غطفان في يوم يسمى يوم الرقم، وقد قتل أخوه حنظلة بن الطفيل في هذا اليوم، وهو الذي يسميه قتيل مرة، وعامر هذا فارس أدرك الإسلام ولم يسلم، والرواية الصحيحة للبيت كما في المفضليات 364 والأصمعيات 252 وخزانة الأدب 4/216 هي مع بيت قبله: ولأثأرن بمالك وبمالك وأخي المروراة الذي لم يسند وقتيل مرة أثأرن فإنه فرع وإن أخاهم لم يقصد فإن القصيدة دالية وليست رائية، أما أخو المروراة فهو أخوه الثاني "الحكم بن طفيل" الذي خنق نفسه لما شعر بالهزيمة ومات في مكان يسمى "المروراة"، وإليه نسب بهذه الصيغة. ومعنى "فرع" : رأس عال في الشرف، ولم يقصد: لم يقتل، يقال: "أقصدت الرجل" إذا قتلته. ويروى (فرغ) بمعنى هدر، والثأر هو قتل القاتل، والبيت شاهد على أن الفعل المضارع قد يخلو من اللام استغناء بالنون، والأكثر في اللغة أن يجتمعا فيقال: لأثأرن. وكلمة (قتيل) يجوز فيها الرفع والنصب والجر، وتعليل ذلك وارد في كتب النحو واللغة.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ} (2)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ" اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "اللّوّامَةِ"؛

فقال بعضهم: معناه: ولا أقسم بالنفس التي تلوم على الخير والشرّ.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها تلوم على ما فات وتندم.

وقال آخرون: بل اللوّامة: الفاجرة.

وقال آخرون: بل هي المذمومة.

وأشبه القول في ذلك بظاهر التنزيل أنها تلوم صاحبها على الخير والشرّ، وتندم على ما فات.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

أي: أقسم بالنفس اللَّوَّامة، وهي النَّفْسُ التي تلوم صاحبَها، وتعرِف نقصانَ حالِها. ويقال: غداً... كلُّ نَفْسِ تلوم نَفْسَها: إمَّا على كُفْرِها، وإمَّا على تقصيرها -وعلى هذا فالقَسَمُ يكون بإضمار "الرَّب " أي: أقسم بربِّ النفس اللوامة. وليس للوم النَّفْسِ في القيامةِ خطرٌ- وإنْ حُمِلَ على الكُلِّ، ولكنَّ الفائدة فيه بيان أنَّ كلِّ النفوس غداً -ستكون على هذه الجُملة. وجوابُ القسَم قولُه: {بَلَى}.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{بالنفس اللوامة} بالنفس المتقية التي تلوم النفوس فيه، أي في يوم القيامة على تقصيرهن في التقوى أو بالتي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الإحسان.

وقيل: هي التي تتلوّم يومئذ على ترك الازدياد إن كانت محسنة. وعلى التفريط إن كانت مسيئة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان من المقرر المعلوم الذي هو في أقصى غايات الظهور أن من طلبه الملك طلب عرض وحساب وثواب وعقاب، يلوم نفسه في كونه لم يبالغ في العمل بما يرضي الملك والإخلاص في موالاته، والتحيز إليه ومصافاته، وكان أكثر لوم النفس واقعاً في ذلك اليوم، وكان إدراكها للوم المرتب على إدراك الأمور الكلية والجزئية ومعرفة الخير والشر، والتمييز بينهما من أعظم الدلائل على تمام قدرة الخالق وكمال عظمته الموجب لإيجاد ذلك اليوم لإظهار عظمته وحكمه وحكمته قال {ولا أقسم بالنفس} على حد ما مضى في أن الباء صلة أو سبب {اللوامة} أي التي تلوم صاحبها وهي خيرة وشريرة، فالخيرة تكون سبباً للنجاة فيه والأخرى تكون سبباً للهلاك فيه، فإن لامت على الشر أو على التهاون بالخير أنجت، وإن لامت على ضد ذلك أهلكت، وكيفما كانت لا بد أن تلوم، وهي بين الأمارة والمطمئنة، فما غلب عليها منهما كانت في حيزه، قال الرازي في اللوامع: فالمطمئنة التي انقادت لأوامر الله، والأمارة المخالفة لها المتبعة للهوى، واللوامة هي المجاهدة، فتارة لها اليد وتارة عليها، وهي نفس الإنسان خاصة لأنها بين طوري الخير والشر والكمال والنقصان والصعود والهبوط والطاعة والعصيان.

ولهذا جمع بين القيامة وبين اللوامة، لأن الثواب والعقاب للآدمي دون الملائكة والحيوانات العجم، واللوامة يشتد لومها في ذلك اليوم على عدم الخير أو عدم الزيادة منه، لا أقسم على ذلك بهذا الذي هو من أدل الأمور على عظمته سبحانه فإن الأمر في ذلك غني عن القسم.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والمراد اللوامة في الدنيا لوماً تنشأ عنه التوبة والتقوى وليسَ المراد لوم الآخرة إذ {يقول يا ليتني قدمت لحياتي} [الفجر: 24].

ومناسبة القسم بها مع يوم القيامة أنها النفوس ذات الفوز في ذلك اليوم.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

وأمّا ما يراد ب «النفس اللوامة» فهناك أقوال كثيرة ومختلفة قد ذكرت للمفسّرين، وأحد تلك التّفاسير المشهورة هو أنّ أنّها «الوجدان الأخلاقي» الذي يلوم الإنسان في الدنيا على المعصية ويحفّزه على إصلاح ما بدا منه.

والتّفسير الآخر هو أنّ المراد بالنفس الإنسانية بصورة عامة التي تلوم صاحبها يوم القيامة، فإذا كان مؤمناً فإنّها تلومه على عدم الإكثار من الصالحات وعلى قلّة الطاعة، وإن كان كافراً فإنّها تلومه على كفره وشركه وفجوره.

وأمّا الآخر: فالمراد نفس الكافر التي تلومه يوم القيامة على ما قدمت من كفر ومعصية.

والوجه الأوّل يناسب الآية السابقة والتي تليها، أجل إنّ لمحكمة الضمير مقاماً ومنزلة عظيمة ولهذا يقسم اللّه بها، ويستعظم قدرها، وهي بحقّ عظيمة القدر، لأنّها أحد العوامل المهمّة لخلاص الإنسان بشرط أن تكون واعية ويقظة وغير عاجزة بسبب الذنوب والآثام.

وممّا تجدر الإشارة إليه هو أنّ جواب القسم محذوف، وهذا ما تدل عليه الآيات التالية والتقدير «لتبعثن يوم القيامة» أو «أنّكم تبعثون» فيكون المعنى: لا اُقسم بيوم القيامة ولا أُقسم بالنفس اللوامة أنّكم تبعثون يوم القيامة وتجزون ما كنتم تفعلون.

ومن الظريف أنّ القسم جاء بيوم القيامة على وجود يوم القيامة، وذلك لأنّه إلى درجة من الوضوح والبداهة أنّه يمكن القسم به حتى في مقابل المنكرين.