التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَۖ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٖ} (83)

{ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ } أى : معلمة بعلامات من عند ربك لا يعلمها إلا هو ، ومعدة إعداداً خاصاً لإِهلاك هؤلاء القوم .

{ وَمَا هِيَ } أى تلك القرى المهلكة { مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ } وهم مشركو مكة { بِبَعِيدٍ } أى : ببعيدة عنهم ، بل هى قريبة منهم ، ويمرون عليها فى أسفارهم إلى الشام .

قال - تعالى - { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ . وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أى : وإنكم يا أهل مكة لتمرون على هؤلاء القوم المهلكين من قوم لوط فى وقت الصباح أى النهار ، وتمرون عليهم بالليل أفلا تعقلون ذلك فتعتبروا وتتعظوا ؟ ؟

ويجوز أن يكون الضمير فى قوله { وَمَا هِيَ } يعود إلى الحجارة التى أهلك الله بها هؤلاء القوم .

أى : وما هى تلك الحجارة الموصوفة بما ذكر من الظالمين ببعيد ، بل هى حاضرة مهيئة بقدرة الله - تعالى - لإِهلاك الظالمين بها .

والمراد بالظالمين ما يشمل قوم لوط ، ويشمل كل من عصى الله وتجاوز حدوده ، ولم يتبع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

وهكذا كانت نهاية قوم لوط ، فقد انطوت صفحتهم كما انطوت من قبلهم صفحات قوم نوح وهود وصالح - عليهم الصلاة والسلام - .

هذا ومن العبر والأحكام التى نأخذها من هذه الآيات الكريمة ، أنه لا بأس على المسلم من أن يستعين بغيره لنصرة الحق الذى يدعو إليه ، ولخذلان الباطل الذى ينهى عنه .

فلوط - عليه السلام - عندما رأى من قومه الإِصرار على غوايتهم ومفاسدهم تمنى لو كانت معه قوة تزجرهم وتردعهم وتمنعهم عن فسادهم .

وقد علق الإِمام ابن حزم على ما جاء فى الحديث الشريف بشأن لوط - عليه السلام - فقال ما ملخصه :

وظن بعض الفرق أن ما جاء فى الحديث الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم - " رحم الله لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد " إنما هو من باب الإِنكار على لوط - عليه السلام - فى قوله { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ } .

والحق أنه لا تخالف بين القولين ، بل كلاهما حق ، لأن لوطاً - عليه السلام - إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش . من قرابة أو عشيرة أو أتباع المؤمنين ، وما جهل قط لوط - عليه السلام - أنه يأوى من ربه - تعالى - إلى أمنع قوة ، وأشد ركن .

ولا جناح على لوط - عليه السلام - فى طلب قوة من الناس - فقد قال الله - تعالى - { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } وقد طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار نصرته حتى يبلغ كلام ربه ، فكيف ينكر على لوط أمراً هو فعله ؟ ! !

تالله ما أنكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما أخبر أن لوطا كان يأوى إلى ركن شديد ، يعنى من نصر الله له بالملائكة ، ولم يكن لوط علم بأنه ملائكة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَۖ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٖ} (83)

69

هذه الحجارة . . ( مسومة عند ربك ) . . كما تسوم الماشية أي تربى وتطلق بكثرة . فكأنما هذه الحجارة مرباة ! ومطلقة لتنمو وتتكاثر ! لوقت الحاجة . . وهو تصوير عجيب يلقي ظله في الحس ، ولا يفصح عنه التفسير ، كما يفصح عنه هذا الظل الذي يلقيه . .

( وما هي من الظالمين ببعيد ) . .

فهي قريبة وتحت الطلب ، وعند الحاجة تطلق فتصيب !

والصورة التي يرسمها السياق هنا لهذه النازلة التي أصابت قوم لوط هي أشبه شيء ببعض الظواهر البركانية التي تخسف فيها الأرض فتبتلع ما فوقها ويصاحب هذا حمم وحجارة ووحل وعند ربك للظالمين كثير ! ! !

ولا نقول هذا الكلام لنقول : إنه كان بركان من تلك البراكين ، ثار في ذلك الوقت ، فوقع ما وقع . إننا لا ننفي هذا . فقد يكون هو الذي وقع فعلا . ولكننا لا نجزم به كذلك ولا نقيد قدر الله بظاهرة واحدة مألوفة . .

وقوام القول في هذه القضية وأمثالها أنه جائز أن يكون في تقدير الله وقوع انفجار بركاني في موعده في هذا الموعد ليحقق قدر الله في قوم لوط كما قدر في علمه القديم . وهذا التوقيت والتوافق شأن من شؤون ألوهيته سبحانه وربوبيته للكون وتصريفه لكل ما يجري فيه متناسقا مع قدره بكل شيء وبكل حي فيه .

وجائز كذلك أن تكون هذه الظاهرة وقعت بقدر خاص تعلقت به مشيئة الله سبحانه لإهلاك قوم لوط على هذه الصورة التي تم بها في ذلك الحين . وفهم علاقة مشيئة الله بالكون على النحو الذي بيناه قريبا في التعليق على حادثة امرأة إبراهيم ، لا يبقى مجالا لمشكلة تقوم في التصوير الإنساني لمثل هذه الظواهر والأمور . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَۖ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٖ} (83)

{ مُسوّمةً } معلمة للعذاب . وقيل معلمة ببياض وحمرةً . أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض ، أو باسم من يرمى بها . { عند ربك } في خزائنه . { وما هي من الظالمين ببعيد } فإنهم بظلمهم حقيق بأن تمطر عليهم ، وفيه وعيد لكل ظالم . وعنه عليه الصلاة والسلام " أنه سأل جبريل عليه السلام فقال : يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة " . وقيل الضمير للقرى أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في أسفارهم إلى الشام ، وتذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَۖ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٖ} (83)

و { مسومة } معناه معلمة بعلامة ، فقال عكرمة وقتادة : إنه كان فيها بياض وحمرة : ويحكى أنه كان في كل حجر اسم صاحبه ، وهذه اللفظة هي من سوم إذا أعلم ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر : «سوموا فقد سومت الملائكة » ويحتمل أن تكون { مسومة } ها هنا بمعنى : مرسلة ، وسومها من الهبوط .

وقوله { وما هي } إشارة إلى الحجارة . و { الظالمين } قيل : يعني قريشاً . وقيل : يريد عموم كل من اتصف بالظلم ، وهذا هو الأصح لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «سيكون في أمتي خسف ومسخ وقذف بالحجارة »{[6464]} ، وقد ورد أيضاً حديث : «إن هذه الأمة بمنجاة من ذلك » وقيل يعني ب { هي } : المدن ، ويكون المعنى : الإعلام بأن هذه البلاد قريبة من مكة - والأول أبين - وروي أن هذه البلاد كانت بين المدينة والشام ، وحكى الطبري في تسمية هذه المدن : صيعة ، وصعدة وعمزة ، ودوما وسدوم{[6465]} ، وسدوم وهي القرية العظمى .


[6464]:- رواه الترمذي في الفتن، وأبو داود في الملاحم، وابن ماجه في الفتن، والإمام أحمد في مسنده (2- 163)، ولفظه في المسند عن عبد الله بن عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: أنت ظالم، فقد تودع منهم)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون في أمتي خسف ومسخ وقذف).
[6465]:- اختلفت الأصول في كتابة هذه الأسماء، وقد آثرنا اختيار ما يتفق مع ما في الطبري حيث أن ابن عطية نقل الخبر عن الطبري. وآثار هذه القرى معروفة الآن بالأغوار في الأردن.