ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا تبين أن الرجلين اللذين دفع إليهما الموصى ما له لم يكونا أمينين فقال : { فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الأوليان } .
وقوله : { عثر } أي : اطلع . يقال عثر الرجل على الشيء عثورا إذا اطلع عليه . ويقال : عثرت منه على خيانة أي : اطلعت .
وقوله : { الأوليان } تثنية أولى بمعنى أقرب . فالمراد بقوله { الأوليان } أي : الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما بأحوال الميت .
والمعنى : فإن اطلع بعد تحليف الشاهدين الوصيين من جهة الميت على أنهما { استحقآ إِثْماً } أي : فعلا ما يوجب الإِثم من خيانة أو كتمان أو ما يشبههما { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } أي : فرجلان آخران يقومان مقام الذين اطلع على خيانتهما : أي يقفان موقفهما في الحبس بعد الصلاة والحلف ويكون هذان الرجلان الآخران { مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الأوليان } .
قال القرطبي : قال ابن السدي : أي من الذين استحق عليهم الإِيصاء واختاره ابن العربي ؛ وأيضاً فإن التفسير عليه ، لأن المعنى عند أهل التفسير : من الذين استحقت عليهم الوصية .
وقال بعض العلماء : قوله { مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الأوليان } أي : من ورثة الميت الذين استحق من بينهم الأوليان أي : الأقربان إلى الميت ؛ الوارثان له . الأحقان بالشهادة ، أي : اليمين . فقوله { الأوليان } فاعل { استحق } .
ومفعول { استحق } محذوف ، قدره بعضهم " وصيتهما " وقدره ابن عطية " ما لهم وتركتهم " وقدره الزمخشري ، أن يجردوهما للقيام بالشهادة لأنها حقهما ويظهر بهما كذب الكاذبين .
وقرئ { استحق } على البناء للمفعول . أي من الذين استحق عليهم الإِثم أي " جنى عليهم " ، وهم أهل الميت وعشيرته . وعليه فقوله : { الأوليان } هو بدل من الضمير في { يقومان } أو من { آخران } .
وقوله : { فَيُقْسِمَانِ بالله لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعتدينآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظالمين } بيان لكيفية اليمين التي يحلفها هذان الأوليان .
أي : فيحلف بالله هذان الأوليان - أي الأقربان إلى الميت - قائلان { لشهاداتنا } أي : ليميننا { أحق } بالقبول { مِن شَهَادَتِهِمَا } أي : من يمينهما { وَمَا اعتدينآ } أي : وما تجاوزنا الحق في يميننا وفيما نسبناه إليهما من خيانة { إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظالمين } أي إنا إذا اعتدينا وقلنا فيهما خلاف الحق لنكونن في زمرة الظالمين لأنفسهم المستحقين لسخط الله وعقابه .
قال الآلوسي : وقوله { فَيُقْسِمَانِ بالله } معطوف على { يقومان } في قوله : { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } والسببية ظاهرة وقوله : { لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا } جواب القسم .
والمراد بالشهادة هنا - عند الكثيرين - اليمين كما في قوله - تعالى - { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله } وصيغة التفضيل { أحق } إنما هي لإِمكان قبول يمينهما في الجملة باعتبار صدقهما في إدعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما .
فإذا ظهر بعد ذلك أنهما ارتكبا إثم الشهادة الكاذبة واليمين الكاذبة والخيانة للأمانة . قام أولى اثنين من أهل الميت بوراثته ، من الذين وقع عليهم هذا الإثم ، بالحلف بالله أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين . وأنهما لم يعتديا بتقريرهما هذه الحقيقة . وبذلك تبطل شهادة الأولين ، وتنفذ الشهادة الثانية .
{ فإن عثر } فإن اطلع . { على أنهما استحقا إثما } أي فعلا ما أوجب إثما كتحريف . { فآخران } فشاهدان آخران . { يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم } من الذين جنى عليهم وهم الورثة . وقرأ حفص " استحق " على البناء للفاعل وهو الأوليان . { الأوليان } الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وهو خبر محذوف أي هما الأوليان أو خبر { آخران } أو مبتدأ خبره آخران ، أو بدل منهما أو من الضمير في يقومان . وقرأ حمزة ويعقوب وأبو بكر عن عاصم " الأولين " على أنه صفة للذين ، أو بدل منه أي من الأولين الذين استحق عليهم . وقرئ " الأولين " على التثنية وانتصابه على المدح والأولان وإعرابه إعراب الأوليان . { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما } أصدق منها وأولى بأن تقبل . { وما اعتدينا } وما تجاوزنا فيها الحق . { إنا إذا لمن الظالمين } الواضعين الباطل موضع الحق ، أو الظالمين أنفسهم إن اعتدينا . ومعنى الآيتين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته ، أو يوصي إليهما احتياطا فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخرين من غيرهم ، ثم إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت ، فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة أو مظنة حلف آخران من أولياء الميت ، والحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإنه لا يخلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث وثابت إن كانا وصيين ورد اليمين إلى الورثة إما لظهور خيانة الوصيين فإن تصديق الوصي باليمين لأمانته أو لتغيير الدعوى . إذ روي أن تميما الداري وعدي بن يزيد خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما ، فلما قدموا الشام مرض بديل فدون ما معه في صحيفة وطرحها في متاعه ولم يخبرهما به ، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ، ففتشاه وأخذا منه إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشا بالذهب فغيباه ، فأصاب أهله الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا } الآية ، فحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر عند المنبر وخلى سبيلهما ، ثم وجد الإناء في أيديهما فأتاهما بنو سهم في ذلك فقالا : قد اشتريناه منه ولكن لم يكن لنا عليه بينة فكرهنا أن نقربه فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت { فإن عثر } فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا واستحقاه . ولعل تخصيص العدد فيهما لخصوص الواقعة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.