ثم لفت - سبحانه - أنظار عباده إلى أنواع متعددة من الظواهر الكونية الدالة على قدرته ووحدانيته ، وبين أن هذه الظواهر قد تكون نعما ، وقد تكون نقما ، وأنها وغيرها تسبح بحمد الله ، وتخضع لسلطانه فقال - تعالى - :
{ هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً . . . } .
البرق : ما يراه الرائى من نور لامع يظهر من خلال السحاب ، وخوفا وطمعا : حالان من الكاف في يريكم ، أو هما في محل المفعول لأجله .
والمعنى : هو الله - تعالى - وحده الذي يريكم بقدرته البرق ، فيترتب على ذلك أن بعضكم يخاف ما ينجم عنه من صواعق ، أو سيل مدمر ، وبعضكم يطمع في الخير من ورائه ، فقد يعقبه المطر النافع ، والغيث المدرار .
فمن مظاهر حكمة الله - تعالى - في خلقه ، أنه جعل البرق علامة إنذار وتبشير معا ، لأنه بالإِنذار والتبشير تعود النفوس إلى الحق ، وتفئ إلى الرشد .
وجملة { وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - سبحانه - وإنشاء السحاب : تكونيه من العدم .
والسحاب : الغيم المنسحب في الهواء ، وهو اسم جنس واحد سحابة ، فلذلك وصف بالجمع وهو { الثقال } جمع ثقيلة .
أى : وهو - سبحانه - الذي ينشئ السحاب المثقل بالماء ، فيرسله من مكان إلى مكان على حسب حكمته ومشيئته .
قال - تعالى - { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المآء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
ثم يأخذ السياق في جولة جديدة في واد آخر ، موصول بذلك الوادي الذي كنا فيه . واد تجتمع فيه مناظر الطبيعة ومشاعر النفس ، متداخلة متناسقة في الصورة والظل والإيقاع . وتخيم عليه الرهبة والضراعة والجهد والإشفاق . وتظل النفس فيه في ترقب وحذر ، وفي تأثر وانفعال :
( هو الذي يريكم البرق . خوفا وطمعا . وينشيء السحاب الثقال . ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته . ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ، وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال . له دعوة الحق ، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ، وما هو ببالغه ، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال . ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها ، وظلالهم ، بالغدو والآصال . قل : من رب السماوات والأرض ? قل : الله . قل : أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ? قل : هل يستوي الأعمى والبصير . أم هل تستوي الظلمات والنور ? أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ? قل : الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ) . .
والبرق والرعد والسحاب مشاهد معروفة ، وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان . وهي بذاتها مشاهد ذات أثر في النفس - سواء عند الذين يعرفون الكثير عن طبيعتها والذين لا يعرفون عن الله شيئا ! والسياق يحشدها هنا ؛ ويضيف إليها الملائكة والظلال والتسبيح والسجود والخوف والطمع ، والدعاء الحق والدعاء الذي لا يستجاب . ويضم إليها هيئة أخرى : هيئة ملهوف يتطلب الماء ، باسطا كفيه ليبلغه ، فاتحا فاه يتلقف منه قطرة . .
هذه كلها لا تتجمع في النص اتفاقا أو جزافا . إنما تتجمع لتلقي كلها ظلالها على المشهد ، وتلفه في جو من الرهبة والترقب ، والخوف والطمع ، والضراعة والارتجاف ، في سياق تصوير سلطان الله المتفرد بالقهر والنفع والضر ، نفيا للشركاء المدعاة ، وإرهابا من عقبى الشرك بالله
( هو الذي يريكم البرق . خوفا وطمعا ) . .
هو الله الذي يريكم هذه الظاهرة الكونية ، فهي ناشئة من طبيعة الكون التي خلقها هو على هذا النحو الخاص ، وجعل لها خصائصها وظواهرها . ومنها البرق الذي يريكم إياه وفق ناموسه ، فتخافونه لأنه بذاته يهز الأعصاب ، ولأنه قد يتحول إلى صاعقة ، ولأنه قد يكون نذيرا بسيل مدمر كما علمتكم تجاربكم . وتطمعون في الخير من ورائه ، فقد يعقبه المطر المدرار المحيي للموات ، المجري للأنهار .
وهو كذلك الذي ينشيء السحاب - والسحاب اسم جنس واحدته سحابة - الثقال بالماء . فوفق ناموسه في خلقه هذا الكون وتركيبه تتكون السحب ، وتهطل الأمطار . ولو لم يجعل خلفة الكون على هذا النحو ما تكونت سحب ولا هطلت أمطار . ومعرفة كيف تتكون السحب ، وكيفية هطول الأمطار لا تفقد هذه الظاهرة الكونية شيئا من روعتها ، ولا شيئا من دلالتها . فهي تتكون وفق تركيب كوني خاص لم يصنعه أحد إلا الله . ووفق ناموس معين يحكم هذا التركيب لم يشترك في سنه أحد من عبيد الله ! كما أن هذا الكون لم يخلق نفسه ، ولا هو الذي ركب في ذاته ناموسه !
يخبر تعالى أنه هو الذي يسخر البرق ، وهو ما يرى{[15495]} من النور اللامع ساطعا من خلل السحاب .
وروى ابن جرير أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن البرق ، فقال : البرق : الماء .
وقوله : { خَوْفًا وَطَمَعًا } قال قتادة : خوفا للمسافر ، يخاف أذاه ومشقته ، وطمعا للمقيم يرجو بركته ومنفعته ، ويطمع في رزق الله .
{ وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ } أي : ويخلقها منشأة جديدة ، وهي لكثرة مائها ثقيلة قريبة إلى الأرض .
استئناف ابتدائي على أسلوب تعداد الحجج الواحدة تلوى الأخرى ، فلأجل أسلوب التعداد إذ كان كالتكرير لم يعطف على جملة { سواء منكم من أسر القول } [ الرعد : 10 ] .
وقد أعرب هذا عن مظهر من مظاهر قدرة الله وعجيب صنعه . وفيه من المناسبة للإنذار بقوله : { إن الله لا يغير ما بقوم } [ سورة الرعد : 11 ] الخ أنه مثال لتصرف الله بالإنعام والانتقام في تصرف واحد مع تذكيرهم بالنعمة التي هم فيها . وكل ذلك مناسب لمقاصد الآيات الماضية في قوله : { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } [ سورة الرعد : 8 ] وقوله : وكل شيء عنده بمقدار [ سورة الرعد : 8 ] ، فكانت هذه الجملة جديرة بالاستقلال وأن يجاء بها مستأنفة لتكون مستقلة في عداد الجمل المستقلة الواردة في غرض السورة .
وجاء هنا بطريق الخطاب على أسلوب قوله : { سواء منكم من أسر القول } [ سورة الرعد : 10 ] لأن الخوف والطمع يصدران من المؤمنين ويهدد بهما الكفرة .
وافتتحت الجملة بضمير الجلالة دون اسم الجلالة المفتتح به في الجمل السابقة ، فجاءت على أسلوب مختلف . وأحسب أن ذلك مراعاة لكون هاته الجملة مفرعة عن أغراض الجمل السابقة فإن جُمل فواتح الأغراض افتتحت بالاسم العلم كقوله : { الله الذي رفع السماوات بغير عَمد } [ سورة الرعد : 2 ] وقوله : { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } [ سورة الرعد : 8 ] وقوله : { إن الله لا يغير ما بقوم } [ سورة الرعد : 11 ] ، وجمل التفاريع افتتحت بالضمائر كقوله : { يدبر الأمر } [ سورة الرعد : 4 ] وقوله : { وهو الذي مد الأرض } [ سورة الرعد : 3 ] وقوله : جعل فيها زوجين .
و{ خوفاً وطمعاً } مصدران بمعنى التخويف والإطماع ، فهما في محل المفعول لأجله لظهور المراد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هو الذي يريكم البرق خوفا}، للمسافر من الصواعق، {وطمعا} للمزارع المقيم في رحمته، يعني: المطر. {وينشئ}، يعني: ويخلق، {السحاب الثقال} من الماء...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ" يعني أن الربّ هو الذي يري عباده البرق. وقوله: "هُوَ "كناية اسمه جلّ ثناؤه...
وقوله "خَوْفا" يقول: خوفا للمسافر من أذاه. وذلك أن البرق الماء في هذا الموضع... وقوله:"وَطَمَعا" يقول: وطمعا للمقيم أن يمطر فينتفع...
وقوله: "وَيُنْشِئ السّحابَ الثّقالَ": ويثير السحاب الثقال بالمطر، ويبدئه، يقال منه: أنشأ الله السحاب: إذا أبدأه، ونشأ السحاب: إذا بدأ...
وقوله: "وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ" قال أبو جعفر: وقد بيّنا معنى الرعد فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع...
حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا كثير بن هشام، قال: حدثنا جعفر، قال: بلغنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد الشديد، قال: «اللّهُمّ لا تَقْتُلْنا بِغَضَبكَ، وَلا تُهْلِكْنا بِعَذَابِكَ، وَعافِنا قَبْلَ ذلكَ».
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبيه، عن رجل، عن أبي هريرة رفع الحديث: أنه كان إذا سمع الرعد قال: «سُبْحانَ مَنْ يُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ»...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا) أي مخوفا ومطموعا، أو تخافون، وتطمعون.
وقال أهل التأويل: خوفا للمسافر وطمعا للمقيم. وقيل خوفا لأهل البنيان وطمعا لأهل الأنزال.
وعندنا: يطمعون ويخافون قوم واحد؛ يطمعون نفعه في وقت المنفعة، ويخافون ضرره في غير وقت النفع، أو يطمعون نفعه ويخافون ضرره، أو يطمعون مضيه ويخافون نزوله والضرر به في غير وقت النفع...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أخبر تعالى بأمر هو من أدلة ما قبله جامع للعلم والقدرة وهو ألطف من ذلك كله، معلم بجليل القدرة في أنه إذا أراد سوءاً فلا مرد له، ودقيق الحكمة لأنه مظهر واحد ترجى منه النعمة وتخشى منه النقمة فقال: {هو} أي وحده {الذي يريكم} أي على سبيل التجديد دائماً {البرق} وهو لمع كعمود النار {خوفاً} أي لأجل إرادة الخوف من قدرته على جعله صواعق مهلكة، والخوف: انزعاج النفس بتوهم وقوع الضر.
ولما لم يكن لهم تسبب في إنزال المطر، لم يعبر بالرجاء وقال: {وطمعاً} أي ولأجل إرادة طمعكم في رحمته بأن يكون غيثاً نافعاً، ولا بد من هذا التقدير ليكونا فعل فاعل الفعل المعلل، ويجوز أن يكون المعنى: يريكم ذلك إخافة وإطماعاً فتخافون خوفاً وتطمعون طمعاً، فتكون الآية من الاحتباك: فعل الإراءة دال على الإخافة والإطماع، والخوف والطمع دالان على "تخافون وتطمعون "ويجوز أن يكونا حالين من ضمير المخاطبين أي ذوي خوف وطمع {وينشئ} والإنشاء: فعل الشيء من غير سبب مولد {السحاب} وهو غيم ينسحب في السماء، وهو اسم جنس جمعي، واحده سحابه {الثقال} بأنهار الماء محمولة في الهواء على متن الريح؛ والثقل: الاعتماد على جهة الثقل بكثافة الأجزاء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي على أسلوب تعداد الحجج الواحدة تلوى الأخرى، فلأجل أسلوب التعداد إذ كان كالتكرير لم يعطف على جملة {سواء منكم من أسر القول} [الرعد: 10].
وقد أعرب هذا عن مظهر من مظاهر قدرة الله وعجيب صنعه. وفيه من المناسبة للإنذار بقوله: {إن الله لا يغير ما بقوم} [سورة الرعد: 11] الخ أنه مثال لتصرف الله بالإنعام والانتقام في تصرف واحد مع تذكيرهم بالنعمة التي هم فيها. وكل ذلك مناسب لمقاصد الآيات الماضية في قوله: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى} [سورة الرعد: 8] وقوله: وكل شيء عنده بمقدار [سورة الرعد: 8]، فكانت هذه الجملة جديرة بالاستقلال وأن يجاء بها مستأنفة لتكون مستقلة في عداد الجمل المستقلة الواردة في غرض السورة.
وجاء هنا بطريق الخطاب على أسلوب قوله: {سواء منكم من أسر القول} لأن الخوف والطمع يصدران من المؤمنين ويهدد بهما الكفرة.
وافتتحت الجملة بضمير الجلالة دون اسم الجلالة المفتتح به في الجمل السابقة، فجاءت على أسلوب مختلف. وأحسب أن ذلك مراعاة لكون هاته الجملة مفرعة عن أغراض الجمل السابقة فإن جُمل فواتح الأغراض افتتحت بالاسم العلم كقوله: {الله الذي رفع السماوات بغير عَمد} [سورة الرعد: 2] وقوله: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى} [سورة الرعد: 8] وقوله: {إن الله لا يغير ما بقوم} [سورة الرعد: 11]، وجمل التفاريع افتتحت بالضمائر كقوله: {يدبر الأمر} [سورة الرعد: 4] وقوله: {وهو الذي مد الأرض} [سورة الرعد: 3] وقوله: جعل فيها زوجين.
و {خوفاً وطمعاً} مصدران بمعنى التخويف والإطماع، فهما في محل المفعول لأجله لظهور المراد.
وبعد ذلك يتكلم الحق سبحانه عن ظاهرة في الكون لها وجهان وتستقبل استقبالين؛ أحدهما: سار، والآخر: مزعج؛ سواء في النفس الواحدة أو في الجماعة الواحدة.
وكلنا يعرف البرق، ونحن نستقبله بالخوف مما يزعج وبالطمع فيما يحب ويرغبن فساعة يأتي البرق فنحن نخاف من الصواعق؛ لأن الصواعق عادة تأتي بعد البرق؛ أو تأتي السحابات الممطرة.
وهكذا يأتي الخوف والطمع من الظاهرة الواحدة. أو: أن يكون الخوف لقوم؛ والرجاء والطمع لقوم آخرين.
والمثل الذي أضربه لذلك دائماً هو قول أحد المقاتلين العرب وصف سيفه بأنه "فتح لأحبابه، وحتف لأعدائه"...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وتتابع صفات الله، ليصل الحديث إلى الأفق الواسع الذي يحتوي الحياة كلها، فإذا بالظواهر الكونية لا تتحرك من مواقعها المحدّدة، بل تتحول إلى هاجسٍ داخلي ينتظر فيها الإنسان رحمة الله، أو يخاف عذابه. فيرتبط بخالقه ارتباط الحياة به، حيث يجد الأمن والملاذ والأمل والطمأنينة، وتلتقي العقيدة بالحياة من أقرب طريق، ويتصل الإيمان بحركة الكون على أفضل وجه...