ثم أخذت السورة الكريمة بعد ذلك تتحدث عن غزوة أحد وعن آثارها فى نفوس المؤمنين ، فبدأت بالإشارة إلى سنن الله فى المكذبين بآياته ؛ لتخفف عن المؤمنين مصابهم ، ثم أمرتهم بالصبر والثبات ونهتهم عن الوهن والجزع لأنهم هم الأعلون . وإن تكن قد أصابتهم جراح فقد أصيب المشركون بأمثالها ، والله - تعالى – ذكرأن ما حدث فى غزوة أحد حكم ، منها : تمييز الخبيث من الطيب ، وتمحيص القلوب واتخاذ الشهداء ، ومحق الكافرين . استمع إلى القرآن الكريم وهو يسوق تلك المعانى بأسلوبه الذى يبعث الأمل فى قلوب المؤمنين . ويرشدهم إلى ما يقويهم ويثبتهم ، ويمسح بتوجيهاته دموعهم ، ويخفف عنه آلامهم فيقول : { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ . . . } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : اعلم أن الله - تعالى - لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية ، الغفران والجنات ، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية . وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } .
وأصل الخلو فى اللغة : الانفراد . والمكان الخالى هو المنفرد عمن يسكن فيه . ويستعمل أيضا فى الزمان بمعنى المضى : لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه ، وكذا الأمم الخالية .
والسنن جمع سنة وهى الطريقة المستقيمة والمثال المتبع . وفى اشتقاق هذه اللفظة وجوه منها : أنها فعلة من سن الماء يسنه إذا والى صبه . والسن الصب للماء . والعرب شبهت الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب ، فإنه لتوالى أجزاء الماء فيه على نهج واحد يكون كالشىء الواحد " .
والمراد بالسنن هنا : وقائع فى الأمم المكذبة ، أجراها الله - تعالى - على حسب عادته ، وهى الإهلاك والدمار بسبب كفرهم وظلمهم وفسوقهم عن أمره .
والمعنى : إنه قد مضت وتقررت من قبلكم - أيها المؤمنون - سنن ثابتة ، ونظم محكمة فيما قدره - سبحانه - من نصر وهزيمة ، وعزة وذلة ، وعقاب فى الدنيا وثواب فيها ، فالحق يصارع الباطل ، وينتصر أحدهما على الآخر بما سنه - سبحانه - من سنة فى النصر والهزيمة .
وقد جرت سننه - سبحانه - فى خلقه أن يجعل العاقبة للمؤمنين الصادقين ، وأن يملى للكافرين ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
فإن كنتم فى شك من ذلك - أيها المؤمنون - { فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } .
أى : فسيروا فى الأرض متأملين متبصرين ، فسترون الحال السيئة التى انتهى إليها المكذبون من تخريب ديارهم ، وبقايا آثارهم .
قالوا : وليس المراد بقوله { فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا } الأمر بذلك لا محالة ، بل المقصود تعرف أحوالهم ، فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير فى الأرض كان المقصود حاصلا ، ولا يمتنع أن يقال أيضا : إن لمشاهدة آثار المتقدمين أثراً أقوى من أثر السماع كما قال الشاعر :
تلك آثارنا تدل علينا . . . فانظروا بعدنا إلى الآثار
والتعبير بلفظ كيف الدال على الاستفهام ، المقصود به تصوير حالة هؤلاء المكذبين التى تدعو إلى العجب ، وتثير الاستغراب ، وتغرس الاعتبار والاتعاظ فى قلوب المؤمنين ؛ لأن هؤلاء المكذبين . مكن الله لهم فى الأرض ، ومنحهم الكثير من نعمه . ولكنهم لم يشكروه عليها ، فأهلكهم بسبب طغيانهم .
فهذه الآية وأشباهها من الآيات ، تدعو الناس إلى الاعتبار بأحوال من سبقوهم . وإلى الاتعاظ بأيام الله ، وبالتاريخ وما فيه من أحداث ، وبالآثار التى تركها السابقون ، فإنها أصدق من رواية الرواة ومن أخبار المخبرين .
بعد ذلك يبدأ السياق في الفقرة الثالثة من الاستعراض فيلمس أحداث المعركة ذاتها ، ولكنه ما يزال يتوخى تقرير الحقائق الأساسية الأصيلة في التصور الإسلامي ، ويجعل الأحداث مجرد محور ترتكن إليه هذه الحقائق .
وفي هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين ، ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة ، إنما هو حادث عابر ، وراءه حكمة خاصة . . ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان . فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها . وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها : حكمة تمييز الصفوف ، وتمحيص القلوب ، واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم ؛ ووقف المسلمين أمام الموت وجها لوجه وقد كانوا يتمنونه ، ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي ! ثم في النهاية محق الكافرين ، بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين . . وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة .
( قد خلت من قبلكم سنن ، فسيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين . . ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون - إن كنتم مؤمنين - إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ، ويتخذ منكم شهداء ، والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ؟ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه ، فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) .
لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة ، وأصابهم القتل والهزيمة . أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير . قتل منهم سبعون صحابيا ، وكسرت رباعية الرسول [ ص ] وشج وجهه ، وأرهقه المشركون ، وأثخن أصحابه بالجراح . . وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس ، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر ، حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم : أنى هذا ؟ وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون ؟ !
والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض . يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور . فهم ليسوا بدعا في الحياة ؛ فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف ، والأمور لا تمضي جزافا ، إنما هي تتبع هذه النواميس ، فإذا هم درسوها ، وأدركوا مغازيها ، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث ، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع ، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث ، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام . واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق . ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين ، لينالوا النصر والتمكين ؛ بدون الأخذ بأسباب النصر ، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول .
والسنن التي يشير إليها السياق هنا ، ويوجه أبصارهم إليها هي :
عاقبة المكذبين على مدار التاريخ . ومداولة الأيام بين الناس . والابتلاء لتمحيص السرائر ، وامتحان قوة الصبر على الشدائد ، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين .
وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال ، والمواساة في الشدة ، والتأسية على القرح ، الذي لم يصبهم وحدهم ، إنما أصاب أعداءهم كذلك ، وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفا ، وأهدىمنهم طريقا ومنهجا ، والعاقبة بعد لهم ، والدائرة على الكافرين .
( قد خلت من قبلكم سنن ، فسيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) . .
إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها ، وحاضرها بماضيها ، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها . وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم ، ولم تكن معارفهم ، ولم تكن تجاربهم - قبل الإسلام - لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة . لولا هذا الإسلام - وكتابه القرآن - الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى ، وخلق به منهم أمة تقود الدنيا . .
إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله ، ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وماجريات حياتهم ؛ فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها ، فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا . . وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة ، ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان ! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة . بل حملتهم إليها ! وارتقت بهم إلى مستواها ، في ربع قرن من الزمان . على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ؛ ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية ، إلا بعد أجيال وأجيال . . فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية ، وأنه إلى الله تصير الأمور . . فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله ، واتسع له تصورها ، ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة ، فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان - بعد هذا - إلى مشيئته الطليقة !
وهي هي التي تحكم الحياة . وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة . فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله - بمشيئة الله - في زمانكم ، وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم .
فالأرض كلها وحدة . والأرض كلها مسرح للحياة البشرية . والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر .
( فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) . .
وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض ، وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك . . ولقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة . بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه . وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل . . وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة : إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا . ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة . وكي تحذر الإنزلاق مع المكذبين من جهة أخرى . وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير . وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير .
يقول تعالى مخاطبا عباده{[5772]} المؤمنين الذين أُصِيبوا يومَ أُحُد ، وقُتِل منهم سبعون : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } أي : قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء ، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين ؛ ولهذا قال : { فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } .
استئناف ابتدائي : تمهيد لإعادة الكلام على ما كان يوم أحُد ، وما بينهما استطراد ، كما علمت آنفاً ، وهذا مقدّمة التَّسلية والبشارة الآيتين . ابتدئت هاته المقدّمة بحقيقة تاريخية : وهي الاعتبار بأحوال الأمم الماضية .
وجيء ب ( قد ) ، الدّالة على تأكيد الخبر ، تنزيلاً لهم منزلة من ينكر ذلك لما ظهر عليهم من انكسار الخواطر من جراء الهزيمة الحاصلة لهم من المشركين ، مع أنّهم يقاتلون لنصر دين الله ، وبعد أن ذاقوا حلاوة النَّصر يوم بدر ، فبيّن الله لهم أنّ الله جعل سنّة هذا العامل أن تكون الأحوال فيه سجالاً ومداولة ، وذكّرهم بأحوال الأمم الماضية ، فقال : { قد خلت من قبلكم سنن } . والله قادر على نصرهم ، ولكن الحكمة اقتضت ذلك لئلاّ يغترّ من يأتي بعدهم من المسلمين ، فيحسب أنّ النَّصر حليفهم . ومعنى خلت مضت وانقرضت . كقوله تعالى : { قد خلت من قبله الرسل } [ آل عمران : 137 ] .
والسنن جمع سنة وهي السيرة من العمل أو الخلق الذي يلازم المرءُ صدور العمل على مثالها قال لبيد :
من معشر سنَّت لهم آباؤهم *** ولكُلّ قوم سُنَّة وإمَامُهَا
وقال خالد الهذلي يخاطب أبا ذؤيب الهذلي :
فَلاَ تَجْزَعَنْ من سُنّة أنتَ سرْتها *** فأوّلُ راضٍ سنّةً من يَسيرها
وقد تردّد اعتبار أيمّة اللّغة إيّاها جامداً غير مشتقّ ، أو اسم مصْدر سَنّ ، إذ لم يرد في كلام العرب السَّنُّ بمعنى وضْع السنّة ، وفي « الكشاف » في قوله : { سنة اللَّه في الذين خلوا من قبل } في سورة [ الأحزاب : 38 ] : سنة الله اسم موضوع موضع المصدر كقولهم تُرْباً وَجَنْدَلاً ، ولعلّ مراده أنَّه اسم جامد أقيم مقام المصدر كما أقيم تُربا وجندلاً مُقام تَبَّاً وسُحْقاً في النصب على المفعولية المطلقة ، الَّتي هي من شأن المصادر ، وأنّ المعنى تراب له وجندل له أي حُصِب بتراب ورُجم بجندل . ويظهر أنَّه مختار صاحب لأنَّه لم يذكر في مادّة سَنّ ما يقتضي أنّ السنّة اسم مصدر ، ولا أتى بها عقب فعل سَنّ ، ولا ذكر مصدراً لفعل سنّ . وعلى هذا يكون فعل سنّ هو المشتقّ من السنّة اشتقاق الأفعال من الأسماء الجامدة ، وهو اشتقاق نادر . والجاري بكثرة على ألسنة المفسّرين والمعربين : أنّ السنّة اسم مصدر سَنّ ولم يذكروا لِفعل سَنّ مصدراً قياسياً . وفي القرآن إطلاق السنّة على هذا المعنى كثيراً : { فلن تجد لسنة اللَّه تبديلاً } [ فاطر : 43 ] وفسّروا السنن هنا بسنن الله في الأمم الماضية .
والمعنى : قد مضت من قبلكم أحوال للأمم ، جارية على طريقة واحدة ، هى عادة الله في الخلق ، وهي أنّ قوّة الظالمين وعتّوهم على الضعفاء أمر زائل ، والعاقبة للمتّقين المحقّين ، ولذلك قال : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } أي المكذّبين بِرسل ربّهم وأريد النظر في آثارهم ليحصل منه تحقّق ما بلغ من أخبارهم ، أو السؤال عن أسباب هلاكهم ، وكيف كانوا أولي قوة ، وكيف طغوا على المستضعفين ، فاستأصلهم الله أو لتطمئنّ نفوس المؤمنين بمشاهدة المخبر عنهم مشاهدةَ عيان ، فإنّ للعيان بديع معنى لأنّ بَلَغتهم أخبار المكذّبين ، ومن المكذّبين عاد وثمود وأصحاب الأيكة وأصحاب الرسّ ، وكلّهم في بلاد العرب يستطيعون مشاهدة آثارهم ، وقد شهدها كثير منهم في أسفارهم .
وفي الآية دلالة على أهميِّة علم التَّاريخ لأنّ فيه فائدة السير في الأرض ، وهي معرفة أخبار الأوائل ، وأسباب صلاح الأمم وفسادها . قال ابن عرفة : « السير في الأرض حسّي ومعنوي ، والمعنوي هو النظر في كتب التَّاريخ بحيث يحصل للنَّاظر العلم بأحوال الأمم ، وما يقرب من العلم ، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض لِعجز الإنسان وقصوره » .
وإنَّما أمر الله بالسير في الأرض دون مطالعة الكتب لأنّ في المخاطبين مَن كانوا أمِّيين ، ولأنّ المشاهدة تفيد من لم يقرأ علماً وتقوّي عِلْم من قرأ التَّاريخ أو قصّ عليه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قد خلت من قبلكم سنن}، يعني عذاب الأمم الخالية، فخوف هذه الأمم بعذاب الأمم ليعتبروا فيوحدوه، قوله سبحانه: {فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} للرسل بالعذاب، كان عاقبتهم الهلاك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله تعالى ذكره: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم يا معشر أصحاب محمد وأهل الإيمان به، من نحو قوم عاد وثمود، وقوم هود، وقوم لوط وغيرهم من سُلاف الأمم قبلكم سنن، يعني ثلاث سير بها فيهم وفيمن كذبوا به من أنبيائهم الذين أرسلوا إليهم، بإمهالي أهل التكذيب بهم، واستدراجي إياهم، حتى بلغ الكتاب فيهم أجله الذي أجلته لإدالة أنبيائهم وأهل الإيمان بهم عليهم، ثم أحللت بهم عقوبتي، ونزلت بساحتهم نقمتي، فتركتهم لمن بعدهم أمثالاً وعبرا. {فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذّبِينَ} يقول: فسيروا أيها الظانون أن إدالتي من أدلت من أهل الشرك يوم أُحد على محمد وأصحابه لغير استدراج مني لمن أشرك بي، وكفر برسلي، وخالف أمري في ديار الأمم الذين كانوا قبلكم، ممن كان على مثل الذي عليه هؤلاء المكذّبون برسولي، والجاحدون وحدانيتي، فانظروا كيف كان عاقبة تكذيبهم أنبيائي، وما الذي آل إليه عن خلافهم أمري، وإنكارهم وحدانيتي، فتعلموا عند ذلك أن إدالتي من أدلت من المشركين على نبي محمد وأصحابه بأحد، إنما هي استدراج وإمهال، ليبلغ الكتاب أجله الذي أجلت لهم، ثم إما أن يؤول حالهم إلى مثل ما آل إليه حال الأمم الذين سلفوا قبلهم من تعجيل العقوبة عليهم، أو ينيبوا إلى طاعتي واتباع رسولي...
وأما السنن، فإنها جمع سُنّة، والسنّة، هي المثال المتبع، والإمام الموتمّ به، يقال منه: سنّ فلان فينا سنة خمسة، وسنّ سنة سيئة: إذا عمل عملاً اتبع عليه من خير وشرّ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن}، يحتمل أحكاما، والأحكام تكون على وجهين: حكم يجب لهم هو الثواب عند الطاعة واتباع الحق، وعذاب يحل بهم عند الخلاف والمعصية، وتحتمل السنن الأحكام المشروعة {فسيروا في الأرض} حتى تروا آثار من كذب الرسل، وما حل بهم حتى يخبركم، أو سيروا في الأرض أي سلوا من يعلم ما الذي حل بهم حتى يخبروكم وما مضى من الهلاك في الأمم الخالية. فهذا تنبيه من الله عز وجل إياهم: إنكم إن كذبتم الرسل فسيحل بكم ما قد حل بمن كان قبلكم وإن أطعتم الرسول صلى الله عليه وسلم فلكم من الثواب ما لهم فاعتبروا به كيف كان جزاؤهم بالتكذيب؟ وما في القرآن مثل هذا معناه: لو سألت لأخبروك. وقيل: سيروا في الأرض أي يتفكروا في القرآن يخبركم عن الأمم الماضية، فكأنكم سرتم في الأرض، وما في القرآن مثل هذا فمعناه: لو سألت لأخبروك، فإن فيه خبر من كان قبلكم من الأمم الماضية، وما لهم من الثواب بالتصديق والطاعة، وما عليهم من العقاب. والله أعلم.
وقوله تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن} يحتمل في المكذبين بالرسل والمصدقين.
وقوله: {فسيروا في الأرض} يحتمل لو سرتم فيها لرأيتم آثارهم ولعرفتم ما إليه ترجع عواقب الفريقين، ويحتمل الأمر بالتأمل في آثارهم والنظر في الأنباء عنهم ليكون لهم به العبر وعما هم مزجر. وتحتمل السنن الموضوع من الأحكام وبما به امتحن من قبلهم ليعلموا أن الذي بلوا به ليس ببديع بل على ذلك أمر من تقدمهم كقوله: {قل ما كنت بدعا من الرسل} (الأحقاف 9) وكقوله عز وجل: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} (آل عمران 144) والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فمعنى "خلت": انفردت بالهلاك دون من بقي.
وقوله: (فانظر كيف كان عاقبة) فالعاقبة هو ما يؤدي إليها السبب المتقدم، وليس كذلك الاخرة، لأنه قد كان يمكن أن تجعل هي الاولى في العدة للمكذبين يريد به الجاحدين البعث، والنشور، والثواب، والعقاب الدافعين لمن يخبر بذلك بالرد بالتكذيب، فجازاهم الله تعالى في الدنيا بعذاب الاستئصال، ولهم في الآخرة عظيم النكال.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يعني: اعتبروا بمن سلف، وانظروا كيف فعلنا بمن وَالَى، وكيف انتقمنا ممن عَادَى...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الخطاب بقوله تعالى: {قد خلت} للمؤمنين والمعنى: لا يذهب بكم ان ظهر الكفار المكذبون عليكم بأحد «فإن العاقبة للمتقين» وقديماً أدال الله المكذبين على المؤمنين، ولكن انظروا كيف هلك المكذبون بعد ذلك، فكذلك تكون عاقبة هؤلاء... وقال تعالى: {فسيروا} وهذا الأمر قد يدرك بالإخبار دون السير لأن الإخبار إنما يكون ممن سار وعاين، إذ هو مما يدرك بحاسة البصر وعن ذلك ينتقل خبره، فأحالهم الله تعالى على الوجه الأكمل، وقوله: {فانظروا}، هو عند الجمهور من نظر العين، وقال قوم: هو بالفكر.
اعلم أن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية الغفران والجنات، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال: {قد خلت من قبلكم سنن} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: أصل الخلو في اللغة الانفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل أيضا في الزمان بمعنى المضي لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه، وكذا الأمم الخالية...
المسألة الثانية: المراد من الآية: قد انقضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة، واختلفوا في ذلك، فالأكثرون من المفسرين على أن المراد سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى: {فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} وذلك لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها، ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة عليهم، فرغب الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم إلى الإيمان بالله ورسله والإعراض عن الرياسة في الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى، والكافر بقي عليه اللعنة في الدنيا والعقاب في العقبى ثم إنه تعالى قال: {فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر، وأيضا يقال الغرض منه زجر الكفار عن كفرهم وذلك إنما يعرف بتأمل أحوال المكذبين والمعاندين، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} وقوله: {والعاقبة للمتقين} وقوله: {أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}.
المسألة الثالثة: ليس المراد بقوله {فسيروا في الأرض فانظروا} الأمر بذلك لا محالة، بل المقصود تعرف أحوالهم، فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا، ولا يمتنع أن يقال أيضا: أن لمشاهدة آثار المتقدمين أثرا أقوى من أثر السماع...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
في هذه الآية دلالة على جواز السفر في فجاج الأرض للاعتبار، ونظر ما حوت من عجائب مخلوقات الله تعالى، وزيارة الصالحين وزيارة الأماكن المعظمة كما يفعله سيّاح هذه الملة، وجواز النظر في كتب المؤرخين لأنها سبيل إلى معرفة سير العالم وما جرى عليهم من المثلات.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما فرغ من بيان الزلل الذي وقع لهم به الخلل، والترهيب مما يوقع فيه، والترغيب فيما ينجى منه في تلك الأساليب التي هي أحلى من رائق الزلال ولذيذ الوصال بعد طول المطال أخذ يشجعهم على الجهاد لذوي الفساد، فبدأ بالسبب الأقوى، وهو الأمر بمشاهدة مصارع من مضى من المكذبين برؤية ديارهم وتتبع آثارهم مع أنهم كانوا أشد خلقاً وأقوى همماً وأكثر عدداً وأحكم عدداً، فقال تعالى معللاً للأمر بالمسارعة إلى المغفرة: {قد خلت} ولما كان العلم بالقريب في الزمان والمكان أتم، وكان الذين وقعت فيهم السنن جميع أهل الأرض، ولا في جميع الزمان، أثبت الجار فقال: {من قبلكم} أي فلا تظنوا بما أملى لهم بهذه الإدالة أن نعمته انقطعت عنهم {سنن} أي وقائع سنها الله في القرون الماضية والأمم الخالية في المؤمنين والمكذبين، وأحوال وطرائق كانت للفريقين، فتأسوا بالمؤمنين وتوقعوا لأعدائكم مثل ما للمكذبين، فانظروا وأنعموا التأمل في أحوال الفريقين وإن لم يحصل ذلك إلا بالسير في الكد والتعب الشديد {فسيروا في الأرض} أي للاتعاظ بأحوال تلك الأمم برؤية آثارهم لتضموا الخير إلى الخير، وتعتبروا من العين بالأثر، وتقرنوا بين النقل والنظر، ولما كان الرجوع عن الهفوة واجباً على الفور عقب بالفاء قوله: {فانظروا} أي نظر اعتبار، ونبه على عظمة المنظور فيه بأنه أهل لأن يستفهم عنه لأنه خرج عن العوائد فتعاظم إشكاله فقال: {كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {المكذبين}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآيات وما بعدها في قصة أُحد وما فيها من السنن الاجتماعية والحكم والأحكام فهي متصلة بقوله عز وجل: {وإذ غدوت من أهلك} الخ الآيات التي تقدمت. وذكرنا حكمة النهي عن الربا والأمر بالمسارعة إلى المغفرة ووصف المتقين في سياق الكلام على هذه القصة. وقال الإمام الرازي في بيان وجه الاتصال: " "إن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية بالغفران والجنات أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية، وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين "". وإنما هذا الذي قاله بيان لاتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها مباشرة مع صرف النظر عن السياق والاتصال بين مجموع الآيات السابقة واللاحقة." ذكر في الآيات السابقة خبر وقعة "أحد" وأهم ما وقع فيها مع التذكير بوقعة بدر وما بشروا به في ذلك.
وفي هذه الآيات وما بعدها يذكر السنن والحكم في ذلك ويعلم المؤمنين من علم الاجتماع ما لم يكونوا يعلمون، ولذلك افتتحها بقوله الحكيم: {قد خلت من قبلكم سنن}.
قال الأستاذ الإمام: إن بعض المفسرين يجعل الآيتين الأوليين من هذه الآيات تمهيدا لما بعدهما من النهي عن الوهن والحزن وما يتبع ذلك وعلى هذا جرى (الجلال) كأنه يقول: إن هذا الذي وقع لا يصح أن يضعف عزائمكم، فإن السنن التي قد خلت من قبلكم تبين لكم كيف كانت مصارعة الحق للباطل، وكيف ابتلي أهل الحق أحيانا بالخوف والجوع والانكسار في الحرب ثم كانت العاقبة لهم، فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين للرسل المقاومين لهم، فإنهم كانوا هم المخذولين المغلوبين، وكان جند الله هم المنصورين الغالبين، وإذا كان الأمر كذلك فلا تهنوا ولا تحزنوا لما أصابكم في أحد.
ثم قال ما مثاله مع إيضاح وزيادة: هذا رأي ضعيف فإن ذكر السنن بعد آيات متعددة، في موضوعات مختلفة تفيد معاني كثيرة. فإن الله تعالى نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين بدت لهم بغضاؤهم وبين هو لهم مجامع خبثهم وكيدهم –ثم ذكر النبي والمؤمنين بوقعة أحد وما كان فيها بالإجمال وذكرهم بنصره لهم ببدر، ثم ذكر المتقين وأوصافهم وما وعدوا به؛ ثم ذكر بعد ذلك كله مضي السنن في الأمم وأنه بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين، فذكر السنن بعد ذلك كله يفيد معاني كثيرة تحتاج إلى شرح طويل جدا لا معنى واحدا كما قيل. وإن في القرآن من إفادة المباني القليلة للمعاني الكثيرة بمعونة السياق والأسلوب ما لا يخطر في بال في أحد من كتاب البشر وعلمائهم ومثل هذا مما تجب العناية ببيانه.
يقول الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز: إن كون القرآن معجزا ببلاغته يوجب علينا أن نجعل أسلوبه الذي كان معجزا به فنا ليبقى دالا على وجه إعجازه. كذلك أقول: إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سننا يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علما من العلوم لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال وقد بينها العلماء بالتفصيل عملا بإرشاده، كالتوحيد والأصول والفقه.
والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها. ولا يحتج علينا بعدم تدوين الصحابة لها فإن الصحابة لم يدونوا غير هذا العلم من العلوم الشرعية التي وضعت لها الأصول والقواعد؛ وفرعت منها الفروع والمسائل، قال: وإنني لا أشك في كون الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن وعالمين بمراد الله من ذكرها. يعني أنهم بما لهم من معرفة أحوال القبائل العربية والشعوب القريبة منهم ومن التجارب والأخبار في الحرب وغيرها وبما منحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط كانوا يفهمون المراد من سنن الله تعالى ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسياستهم للأمم التي استولوا عليها...
ثم قال: ومعنى الجملة: انظروا إلى من تقدمكم من الصالحين والمكذبين فإذا أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم، وإن سلكتم سبل المكذبين فعاقبتكم كعاقبتهم. وفي هذا تذكير لمن خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، ففي الآية مجاري أمن ومجاري خوف، فهو على بشارته لهم فيها بالنصر وهلاك عدوهم ينذرهم عاقبة الميل عن سننه، ويبين لهم أنهم إذا ساروا في طريق الضالين من قبلهم فإنهم ينتهون إلى مثل ما انتهوا إليه. فالآية خبر وتشريع، وفي طيها وعد ووعيد...
وأقول:... جاء ذكر السنن الإلهية في مواضع من الكتاب العزيز، كقوله في سياق أحكام القتال وما كان في وقعة بدر: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين} [الأنفال: 38] وقوله في سياق أحوال الأمم مع أنبيائهم: {قد خلت سنة الأولين} [الحجر: 13] وقوله في سياق دعوة الإسلام: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذب قبلا} [الكهف: 55] وقوله في مثل هذا السياق: {فهل ينظرون إلا سنة الأولين؟ فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا} [فاطر: 43] وصرح في سور أخرى كما صرح هنا بأن سننه لا تتبدل ولا تتحول كسورة بني إسرائيل وسورة الأحزاب وسورة الفتح. هذا إرشاد إلهي، لم يعهد في كتاب سماوي، ولعله أرجئ إلى أن يبلغ الإنسان كمال استعداده الاجتماعي، فلم يرد إلا في القرآن، الذي ختم الله به الأديان. كان الملّيون من جميع الأجيال يعتقدون أن أفعال الله تعالى في خلقه تشبه أفعال الحاكم المستبد في حكومته؛ المطلق في سلطته؛ فهو يحابي بعض الناس فيتجاوز لهم عما يعاقب لأجله غيرهم، ويثيبهم على العمل الذي لا يقبله من سواهم، لمجرد دخولهم في عنوان معين، وانتمائهم إلى نبي مرسل، وينتقم من بعض الناس لأنهم لم يطلق عليهم ذلك العنوان، أو لم يتفق لهم الانتماء إلى ذلك الإنسان...
فجاء القرآن يبين للناس أن مشيئة الله تعالى في خلقه إنما تنفذ على سنن حكيمة وطرائق قويمة، فمن سار على سننه في الحرب- مثلا- ظفر بمشيئة الله وإن كان ملحدا أو وثنيا، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقا أو نبيا، وعلى هذا يتخرج انهزام المسلمين في وقعة أحد حتى وصل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشجوا رأسه، وكسروا سنه، وردّوه في تلك الحفرة، كما بينا ذلك في تفسير الآيات السابقة، وسيأتي بسطه في الآيات اللاحقة، ولكن المؤمنين الصادقين أجدر الناس بمعرفة سنن الله تعالى في الأمم، وأحق الناس بالسير على طريقها الأمم، لذلك لم يلبث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ثابوا يومئذ إلى رشدهم، وتراجعوا للدفاع عن نبيهم، وثبتوا حتى انجلى عنهم المشركون، ولم ينالوا منهم ما كانوا يقصدون. وكأن بعض المسلمين لم يكونوا قد حفظوا ما ورد في السور المكية من إثبات سنن الله في خلقه وكونها لا تتبدل ولا تتحول كسورة الحجر وبني إسرائيل والكهف والملائكة أو "فاطر" وهي التي ذكرنا بعضها آنفا وأشرنا إلى بعض-أو حفظوه ولم يفقهوه ولم يظهر لهم انطباقه على ما وقع لهم في أحد كما يعلم من قوله الآتي: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم} [آل عمران: 165] لذلك صرح لهم في بدء الآيات التي تبين لهم سننه أن له سننا عامة جرى عليها نظام الأمم من قبل، وأن ما قع لهم مما يقص حكمته عليهم هو مطابق لتلك السنن التي لا تتحول ولا تتبدل. ولما كان التعليم بالقول وحده من غير تطبيق على الواقع مما ينسى أو يقل الاعتبار به، نبههم على هذا التطبيق في أنفسهم وأرشدهم إلى تطبيقه على أحوال الأمم الأخرى فقال: {فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}.
قال الأستاذ الإمام: أي إن المصارعة بين الحق والباطل قد وقعت من الأمم الماضية وكان أهل الحق يغلبون أهل الباطل وينصرون عليهم بالصبر والتقوى: أي اتقاء ما يجب اتقاؤه في الحرب بحسب الزمان والمكان ودرجة استعداد الأعداء، وكان ذلك يجري بأسباب مطردة، وعلى طرائق مستقيمة، يعلم منها أن صاحب الحق إذا حافظ عليه ينصر ويرث الأرض، وأن من ينحرف عنه ويعيث في الأرض فسادا يخذل وتكون عاقبته الدمار، فسيروا في الأرض واستَقْرُوا ما حل بالأمم ليحصل لكم العلم الصحيح التفصيلي بذلك وهو الذي يحصل به اليقين ويترتب عليه العمل وقال بعض المفسرين: أي إن لم تصدقوا فسيروا. وهذا قول باطل. قال: والسير في الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم، هو الذي يوصل إلى معرفة تلك السنن والاعتبار بها كما ينبغي. نعم إن النظر في التاريخ الذي يشرح ما عرفه الذين ساروا في الأرض ورأوا آثار الذين خلوا يعطي الإنسان من المعرفة ما يهديه إلى تلك السنن ويفيده عظة واعتبارا، ولكن دون اعتبار الذي يسير في الأرض بنفسه ويرى الآثار بعينه. ولذلك أمر الناس بالسير والنظر ثم أتبع ذلك بقوله: {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يبدأ السياق في الفقرة الثالثة من الاستعراض فيلمس أحداث المعركة ذاتها، ولكنه ما يزال يتوخى تقرير الحقائق الأساسية الأصيلة في التصور الإسلامي، ويجعل الأحداث مجرد محور ترتكن إليه هذه الحقائق. وفي هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين، ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة، إنما هو حادث عابر، وراءه حكمة خاصة.. ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان. فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها. وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها: حكمة تمييز الصفوف، وتمحيص القلوب، واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم؛ ووقف المسلمين أمام الموت وجها لوجه وقد كانوا يتمنونه، ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي! ثم في النهاية محق الكافرين، بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين.. وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة...
لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة، وأصابهم القتل والهزيمة. أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير. قتل منهم سبعون صحابيا، وكسرت رباعية الرسول [ص] وشج وجهه، وأرهقه المشركون، وأثخن أصحابه بالجراح.. وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر، حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم: أنى هذا؟ وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون؟! والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض. يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور. فهم ليسوا بدعا في الحياة؛ فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافا، إنما هي تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام. واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق. ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين؛ بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول. والسنن التي يشير إليها السياق هنا، ويوجه أبصارهم إليها هي: عاقبة المكذبين على مدار التاريخ. ومداولة الأيام بين الناس. والابتلاء لتمحيص السرائر، وامتحان قوة الصبر على الشدائد، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين. وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال، والمواساة في الشدة، والتأسية على القرح، الذي لم يصبهم وحدهم، إنما أصاب أعداءهم كذلك، وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفا، وأهدىمنهم طريقا ومنهجا، والعاقبة بعد لهم، والدائرة على الكافرين. (قد خلت من قبلكم سنن، فسيروا في الأرض، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين. هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين).. إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها، وحاضرها بماضيها، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها. وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم، ولم تكن معارفهم، ولم تكن تجاربهم -قبل الإسلام- لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة. لولا هذا الإسلام -وكتابه القرآن- الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى، وخلق به منهم أمة تقود الدنيا.. إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله، ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وماجريات حياتهم؛ فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها، فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا.. وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة، ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة. بل حملتهم إليها! وارتقت بهم إلى مستواها، في ربع قرن من الزمان. على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون؛ ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية، إلا بعد أجيال وأجيال.. فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية، وأنه إلى الله تصير الأمور.. فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله، واتسع له تصورها، ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة، فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان -بعد هذا- إلى مشيئته الطليقة! (قد خلت من قبلكم سنن).. وهي هي التي تحكم الحياة. وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة. فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله -بمشيئة الله- في زمانكم، وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم. (فسيروا في الأرض).. فالأرض كلها وحدة. والأرض كلها مسرح للحياة البشرية. والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر. (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).. وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض، وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك.. ولقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة. بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه. وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل.. وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة: إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا. ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة. وكي تحذر الإنزلاق مع المكذبين من جهة أخرى. وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير. وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي: تمهيد لإعادة الكلام على ما كان يوم أحُد، وما بينهما استطراد، كما علمت آنفاً، وهذا مقدّمة التَّسلية والبشارة الآيتين. ابتدئت هاته المقدّمة بحقيقة تاريخية: وهي الاعتبار بأحوال الأمم الماضية. وجيء ب (قد)، الدّالة على تأكيد الخبر، تنزيلاً لهم منزلة من ينكر ذلك لما ظهر عليهم من انكسار الخواطر من جراء الهزيمة الحاصلة لهم من المشركين، مع أنّهم يقاتلون لنصر دين الله، وبعد أن ذاقوا حلاوة النَّصر يوم بدر، فبيّن الله لهم أنّ الله جعل سنّة هذا العامل أن تكون الأحوال فيه سجالاً ومداولة، وذكّرهم بأحوال الأمم الماضية، فقال: {قد خلت من قبلكم سنن}. والله قادر على نصرهم، ولكن الحكمة اقتضت ذلك لئلاّ يغترّ من يأتي بعدهم من المسلمين، فيحسب أنّ النَّصر حليفهم. ومعنى خلت مضت وانقرضت. كقوله تعالى: {قد خلت من قبله الرسل} [آل عمران: 137]...
وفي الآية دلالة على أهميِّة علم التَّاريخ لأنّ فيه فائدة السير في الأرض، وهي معرفة أخبار الأوائل، وأسباب صلاح الأمم وفسادها.
قال ابن عرفة: « السير في الأرض حسّي ومعنوي، والمعنوي هو النظر في كتب التَّاريخ بحيث يحصل للنَّاظر العلم بأحوال الأمم، وما يقرب من العلم، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض لِعجز الإنسان وقصوره». وإنَّما أمر الله بالسير في الأرض دون مطالعة الكتب لأنّ في المخاطبين مَن كانوا أمِّيين، ولأنّ المشاهدة تفيد من لم يقرأ علماً وتقوّي عِلْم من قرأ التَّاريخ أو قصّ عليه.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ومن هنا ينتقل كتاب الله إلى الحديث بالخصوص عن يوم أحد، وما جلبت فيه بعض المواقف من متاعب للمسلمين، خصوصا ما وقع فيه من أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبين بالأخص أسباب الهزيمة في هذا اليوم، كما يبين قبل ذلك أسباب النصر في غزوة بدر. ويبتدئ الحديث في هذا الموضوع الخطير بتقرير مبدأ أساسي لا يختلف، هو أن لله سننا ثابتة في المجتمع تسير الحياة على مقتضاها مهما اختلفت القرون والأجيال. وفي طليعة هذه السنن والقوانين الثابتة سنن النصر وسنن الهزيمة، أي مختلف العوامل والأسباب التي تؤدي إلى كل منهما، ثم تقرير مبدأ آخر هو أن النصر غير مضمون ولا محتوم في كل معركة، كما أن الهزيمة غير لازمة ولا منتظرة في كل مناسبة، بل إن معركة الحياة سلسلة من الانتصارات والهزائم، والعاقبة والغلبة في النهاية إنما هي لأهل الحق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في الآية الأولى لفتةٌ قرآنيةٌ للتاريخ في كلّ حوادثه القريبة والبعيدة، ودعوةٌ للنَّاس إلى دراسة سنن اللّه في الأرض وقوانينه الحتميّة التي تحكم الواقع الإنساني في خطوات التقدّم والتأخّر، والعمران والخراب، والرقيّ والهبوط؛ ليأخذوا من ذلك كلّه العبرة والدرس، ويعرفوا أنَّ عاقبة التكذيب للأنبياء، والبُعد عن خطّ الحقّ والشريعة، هي الدمار والموت والانهيار، وأنَّ الحاضر لن يكون أفضل من الماضي في هذا الاتجاه، لأنَّ سنن اللّه لا تتغيّر. وفي ضوء ذلك، نعرف أنَّ القرآن الكريم يضع التاريخ في موضعه التربوي الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يعرف الأسس التي كانت ترتكز عليها حركته، والقوانين الطبيعية التي تحكم أحداثه وظواهره في المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة والحربيّة... ويعرف في نهاية المطاف كيف يتحوّل الانسجام مع خطّ اللّه عبر الإيمان به إلى عنصر حضارةٍ وتقدّم وانطلاقٍ، وكيف يتحرّك البُعد عنه عبر الكفر والشرك والضلال إلى عنصر تخلّفٍ وتأخر وارتباك... وبذلك لا يعود التاريخ قصةً للمتعة واللهو وقتل أوقات الفراغ. [قد خلت من قبلكم سننٌ] مضت في الزمن الماضي الذي عاشت فيه أمم متنوّعة في خصائصها وأعرافها ولغاتها وألوانها ومواقعها، في أوضاعها الخاصّة والعامّة، وفي صراعاتها المعنوية والمادية، وفي مواقفها إزاء الرسالات التي جاء بها الأنبياء وحياً من اللّه، وتحرّك فيها المصلحون في خطّ الرسالات في تمرّدها الفكري والعملي عليها، واضطهادها للرسل ودعاة الصلاح والإصلاح، فكانت لها في حركة التاريخ في الواقع الإنساني أكثر من سنّةٍ إلهية تنفتح على أكثر من قانون عام تخضع له الحياة والإنسان في كلّ الأحداث التي تحدث في الواقع، وفي كلّ التطوّرات الإنسانية والمتغيرات الحياتية، وذلك في النظام الكوني والإنساني الذي أقام اللّه الحياة عليه، فلا يختلف فيه الحاضر عن الماضي، ولا ينفصل فيه المستقبل عن الحاضر، فهناك خطّ واحد ممتد في الزمان في الوجود الإنساني يتحرّك عليه الإنسان، فهو الذي يضع لنفسه خيرها بإرادته الخيّرة، وهو الذي يضع لها شرّها بإرادته الشريرة، وهو الذي يغيّر الواقع من خلال تغيير فكره في تصوّراته وتطلّعاته وخططه للحياة وللحركة وللعلاقة بالإنسان وبالوجود، لأنَّ اللّه جعل حركته مظهراً لفكره في مفرداته وأسلوبه وحركته في الواقع، وهكذا تنطلق الحضارات في عملية البناء والقوّة والامتداد والحيوية من خلال الانفتاح على القيم، وانحدار الإنسان إلى الدرك الأسفل في روحيته وحركته وبُعده عن الخطّ المستقيم، وقد أشار اللّه إلى بعض ذلك في قوله: [ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً سنَّة اللّه في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنَّة اللّه تبديلاً] (الأحزاب: 61-62)؛ وقوله تعالى: [سنَّة اللّه التي قد خلت من قبلُ] (الفتح: 23). [فسيروا في الأرض فانظروا] أيُّها المكذبون الضالون المتمرّدون على الرسالة والرَّسول، وانظروا يا أيُّها الذين تواجهون خياراتكم في السير مع خطّ الرسالة والالتزام بها وفي الانفصال عنه، [كيف كان عاقبةُ المكذِّبين] الذين كذّبوا الرسل، وأعرضوا عن الرسالات، فابتعدوا بذلك عن الحصول على مصالحهم الحيوية التي هي سرّ التشريعات الإيجابية، والوقوع في المفاسد التي هي سرّ التشريعات السلبيّة، ثُمَّ طواهم الزمن من خلال العقوبات التي أنزلها اللّه بهم، أو من خلال البلاء القاسي المتنوّع الذي حلّ بهم، لتعرفوا أنَّ مسألة التكذيب ليست مسألة سلبيةً في موقع صاحب الرسالة، بل هي كذلك في حياة المكذّب نفسه لما يخسره من الخير ويقع فيه من الشرّ...
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
{فسيروا في الأرض}: الأمر للإرشاد، للوقوف على ديار الهالكين الغابرين لتعتبروا...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
النظر في تاريخ الماضين وآثارهم: يعتبر القرآن الكريم ربط الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي أمراً ضرورياً لفهم الحقائق، لأن الارتباط بين هذين الزمانين (الماضي والحاضر) يكشف عن مسؤولية الأجيال القادمة، ويوقفها على واجبها، ولهذا قال سبحانه: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين). وهذا يعني أن لله في الأُمم سنناً لا تختص بهم، بل هي قوانين وسنن عامة في الحياة تجري على الحاضرين كما جرت على الماضين سواء بسواء، وهي سنن للتقدّم والبقاء وسنن للتدهور والاندحار، التقدّم للمؤمنين المجاهدين المتحدين الواعين، والتدهور والاندحار للأُمم المتفرقة المتشتتة الكافرة الغارقة في الذنوب والآثام.
أجل إن للتاريخ أهمية حيوية لكلّ أمة من الأُمم، لأن التاريخ يعكس الخصوصيات الأخلاقية والأعمال الصالحة وغير الصالحة، والأفكار التي كانت سائدة في الأجيال السابقة، كما يكشف عن علل سقوط المجتمعات أو سعادتها، ونجاحها وفشلها في العصور الغابرة المختلفة. وبكلمة واحدة: إن التاريخ مرآة الحياة الروحية والمعنوية للمجتمعات البشرية وهو لذلك خير مرشد محذر للأجيال القادمة...