وقوله - سبحانه - : { وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضَلالَتِهِمْ . . } أى : وما أنت - أيها الرسول الكريم - بقادر على أن تصرف العمى عن طريق الضلال الذى انغمسوا فيه ، لأن الهداية إلى طريق الحق ، مردها إلى الله - تعالى - وحده .
ثم بين - سبحانه - فى مقابل ذلك ، من هم أهل السماع والبصر فقال : { إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ } .
أى : أنت - أيها الرسول الكريم - ما تستطيع أن تسمع إسماعا مجديا نافعا ، إلا لمن يؤمن بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، لأن هؤلاء هم المطيعون لأمرنا ، المسلمون وجوههم لنا .
وبذلك ترى الآيات الكريمة قد ساقت الكثير من وسائل التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من المشركين ، كما ساقت ما يدل على أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - : وعلى أنه - سبحانه - هو الحكم العدل بين عباده .
ويخرجهم مرة في صورة العمي يمضون في عماهم ؛ لا يرون الهادي لأنهم لا يبصرون ! وتتراءى هذه الصور المجسمة المتحركة ، فتمثل المعنى وتعمقه في الشعور !
وفي مقابل الموتى والعمي والصم يقف المؤمنون . فهم الأحياء ، وهم السامعون ، وهم المبصرون .
( إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ) . .
إنما تسمع الذين تهيأت قلوبهم لتلقي آيات الله ، بالحياة والسمع والبصر . وآية الحياة الشعور . وآية السمع والبصر الانتفاع بالمسموع والمنظور . والمؤمنون ينتفعون بحياتهم وسمعهم وأبصارهم . وعمل الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] هو أن يسمعهم ، فيدلهم على آيات الله ، فيستسلمون لتوهم ولحظتهم ( فهم مسلمون ) .
إن الإسلام بسيط وواضح وقريب إلى الفطرة السليمة ؛ فما يكاد القلب السليم يعرفه ، حتى يستسلم له ، فلا يشاق فيه . وهكذا يصور القرآن تلك القلوب ، القابلة للهدى ، المستعدة للاستماع ، التي لا تجادل ولا تماري بمجرد أن يدعوها الرسول فيصلها بآيات الله ، فتؤمن لها وتستجيب .
أي : لا تسمعهم شيئًا ينفعهم ، فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة ، وفي آذانهم وَقْر الكفر ؛ ولهذا قال : { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } [ أي ]{[22152]} : إنما يستجيب لك مَنْ هو سميع بصير ، السمع والبصر النافعُ في القلب والبصيرة الخاضع لله ، ولما جاء عنه على ألسنة الرسل ، عليهم السلام .
وقرأ جمهور القراء «بهادي العمي » بالإضافة ، وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيوة «بهادٍ العميَ » بتنوين الدال ونصب «العميَ » ، وقرأ حمزة وحده «وما أنت تهدي العمي » بفعل مستقبل وهي قراءة طلحة وابن وثاب وابن يعمر ، وفي مصحف عبد الله «وما أن تهدي العمي »{[9070]} .
{ وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم }
كرر تشبيه المشركين في إعراضهم عن الحق بأن شبهوا في ذلك بالعمي بعد أن شبهوا بالموتى وبالصم على طريقة الاستعارة إطناباً في تشنيع حالهم الموصوفة على ما هو المعروف عند البلغاء في تكرير التشبيه كما تقدم عند قوله تعالى { أو كصيب من السماء } في سورة البقرة ( 19 ) .
وحسن هذا التكرير هنا ما بين التشبيهين من الفروق مع اتحاد الغاية ؛ فإنهم شبهوا بالموتى في انتفاء إدراك المعاني الذي يتمتع به العقلاء ، وبالصم في انتفاء إدراك بلاغة الكلام الذي يضطلع به بلغاء العرب . وشبهوا ثالثاً بالعمي في انتفاء التمييز بين طريق الهدى وطريق الضلال من حيث إنهم لم يتبعوا هدي دين الإسلام . والغاية واحدة وهي انتفاء اتباعهم الإسلام ففي تشبيههم بالعمي استعارة مصرحة ، ونفي إنقاذهم عن ضلالتهم ترشيح للاستعارة لأن الأعمى لا يبلغ إلى معرفة الطريق بوصف الواصف .
والهدى : الدلالة على طريق السائر بأن يصفه له فيقول مثلاً : إذا بلغت الوادي فخذ الطريق الأيمن .
والذي يسلك بالقوافل مسالك الطرق يسمى هادياً .
والتوصل إلى معرفة الطريق يسمى اهتداء . وهذا الترشيح هو أيضاً مستعار لبيان الحق والصواب للناس ، والأعمى غير قابل للهداية بالحالتين حالة الوصف وهي ظاهرة ، وحالة الاقتياد فإن العرب لم يكونوا يأخذون العمي معهم في أسفارهم لأنهم يعرقلون على القافلة سيرها .
وقوله { عن ضلالتهم } يتضمن استعارة مكنية قرينتها حالية . شبه الدين الحق بالطريق الواضحة ، وإسناد الضلالة إلى سالكيه ترشيح لها وتخييل ، والضلالة أيضاً مستعارة لعدم إدراك الحق تبعاً للاستعارة المكنية ، وأطلقت هنا على عدم الاهتداء للطريق ، وضمير { ضلالتهم } عائد إلى العمي ، ولتأتي هذه الاستعارة الرشيقة عدل عن تعليق ما حقه أن يعلق بالهدي فعلق به ما يقتضيه نفي الهدي من معنى الصرف والمباعدة . فقيل { عن ضلالتهم } بتضمين { هادي } معنى صارف . فصار : ما أنت بهاد ، بمعنى : ما أنت بصارفهم عن ضلالتهم كما يقال : سقاه عن العيمة ، أي سقاه صارفاً له عن العيمة ، وهي شهوة اللبن .
وعدل في هذه الجملة عن صيغتي النفيين السابقين في قوله { إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء } [ النمل : 80 ] الواقعين على مسندين فعليين ، إلى تسليط النفي هنا على جملة اسمية للدلالة على ثبات النفي . وأكد ذلك الثبات بالباء المزيدة لتأكيد النفي .
ووجه إيثار هذه الجملة بهاذين التحقيقين هو أنه لما أفضى الكلام إلى نفي اهتدائهم وكان اهتداؤهم غاية مطمح الرسول صلى الله عليه وسلم كان المقام مشعراً ببقية من طمعه في اهتدائهم حرصاً عليهم فأكد له ما يقلع طمعه ، وهذا كقوله تعالى { إنك لا تهدي من أحببت } [ القصص : 56 ] وقوله
{ وما أنت عليهم بجبار } [ ق : 45 ] . وسيجيء في تفسير نظير هذه الآية من سورة الروم توجيه لتعداد التشابيه الثلاثة زائداً على ما هنا فانظره .
وقرأ حمزة وحده { وما أنت تهدي } بمثناه فوقيه في موضع الموحدة وبدون ألف بعد الهاء .
{ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بآياتنا فَهُم مسلمون } .
استئناف بياني لترقب السامع معرفة من يهتدون بالقرآن .
والإسماع مستعمل في معناه المجازي كما تقدم .
وأوثر التعبير بالمضارع في قوله { من يؤمن } ليشمل من آمنوا من قبل فيفيد المضارع استمرار إيمانهم ومن سيؤمنون .
وقد ظهر من التقسيم الحاصل من قوله { إنك لا تسمع الموتى } [ النمل : 80 ] إلى هنا ، أن الناس قسمان منهم من طبع الله على قلبه وعلم أنه لا يؤمن حتى يعاجله الهلاك ، ومنهم من كتب الله له السعادة فيؤمن سريعاً أو بطيئاً قبل الوفاة .
وفرع عليه { فهم مسلمون } المفيد للدوام والثبات لأنهم إذا آمنوا فقد صار الإسلام راسخاً فيهم ومتمكناً منهم ، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.