التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمۖ بَلۡ كَانُواْ يَعۡبُدُونَ ٱلۡجِنَّۖ أَكۡثَرُهُم بِهِم مُّؤۡمِنُونَ} (41)

وقوله - تعالى - : { قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } حكاية لأقوال الملائكة .

أى : قال الملائكة فى الإِجابة على سؤال خالقهم . { سُبْحَانَكَ } أى : ننزهك ونقدسك عن أن يكون لك شريك فى عبادتك وطاعتك { أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } أى : أنت الذى نواليك ونتقرب إليك وحدك بالعبادة ، وليس بيننا وبين هؤلاء المشركين أى موالاة أو قرب ، ولا دخل لنا فى عبادتهم لغيرك .

ثم صرحوا بما كان المشركون يعبدونه فى الدنيا فقالوا : { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } .

أى : إن هؤلاء المشركين لا علم نا بأ ، هم كانوا يبعدوننا ، ونبرأ من ذلك إن كانوا قد عبدونا ، وهم إنما كانوا يعبدون فى الدنيا { الجن } أى الشياطين ، وكان أكثر هؤلاء المشركين يؤمنون بعبادة الشياطين . ويطيعونهم فيما يأمرونهم به ، أو ينهونهم عنه .

فقوله - تعالى - { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } إضراب انتقالى ، لبيان السبب فى شرك هؤلا المشركين ، وتصريح بمن كانوا يعبدونهم فى الدنيا .

قال الجمل : فإن قيل جميعهم كانوا متابعين للشيطان ، فما وجه قوله - تعالى - { أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } فإنه يدل على أن بعضهم لم يؤمن بالجن ولم يطعمهم ؟

فالجواب من وجهين : أحدهما : أن الملائكة احترزوا عن دعوة الإِحاطة بهم ، فقالوا أكثرهم ، لأن الذين رأوهم واطعلوا على أحولاهم كانوا يعبدون الجن ، ولعل فى الوجود من لم يطلع الله الملائكة على حاله من الكفار .

الثانى : هو أن العبادة عمر ظاهر ، والإِيمان عمل باطن ، فقالوا : بل كانوا يبعدون الجن لاطلاعهم على أعمالهم ، وقالوا : أكثرهم بهم مؤمنون عند عمل القلب ، لئلا يكونوا مدعين اطلاعهم على ما فى القلوب ، فإن القلب لا يطلع على ما فيه إلا الله .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمۖ بَلۡ كَانُواْ يَعۡبُدُونَ ٱلۡجِنَّۖ أَكۡثَرُهُم بِهِم مُّؤۡمِنُونَ} (41)

28

ويختم هذه الجولة بمشهدهم محشورين يوم القيامة ، حيث يواجههم الله سبحانه بالملائكة الذين كانوا يعبدونهم من دون الله ؛ ثم يذوقون عذاب النار الذي كانوا يستعجلون به ، ويقولون متى هذا الوعد ? كما جاء في أول هذا الشوط :

( ويوم يحشرهم جميعاً ، ثم يقول للملائكة : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ? قالوا : سبحانك أنت ولينا من دونهم . بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون . فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً ، ونقول للذين ظلموا : ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ) . .

فهؤلاء هم الملائكة الذين كانوا يعبدونهم من دون الله ، أو يتخذونهم عنده شفعاء . هؤلاء هم يواجهون بهم ، فيسبحون الله تنزيهاً له من هذا الادعاء ، ويتبرأون من عبادة القوم لهم . فكأنما هذه العبادة كانت باطلاً أصلاً ، وكأنما لم تقع ولم تكن لها حقيقة . إنما هم يتولون الشيطان . إما بعبادته والتوجه إليه ، وإما بطاعته في اتخاذ شركاء من دون الله . وهم حين عبدوا الملائكة إنما كانوا يعبدون الشيطان ! ذلك إلى أن عبادة الجن عرفت بين العرب ؛ وكان منهم فريق يتوجه إلى الجن بالعبادة أو الاستعانة : ( بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) . . ومن هنا تجيء علاقة قصة سليمان والجن بالقضايا والموضوعات التي تعالجها السورة ، على طريقة سياقة القصص في القرآن الكريم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمۖ بَلۡ كَانُواْ يَعۡبُدُونَ ٱلۡجِنَّۖ أَكۡثَرُهُم بِهِم مُّؤۡمِنُونَ} (41)

وهكذا تقول الملائكة : { سُبْحَانَكَ } أي : تعاليتَ وتقدست عن أن يكون معك إله { أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ } أي : نحن عبيدك ونبرأ إليك من هؤلاء ، { بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } يعنون : الشياطين ؛ لأنهم هم الذين{[24392]} يزينون لهم عبادة الأوثان ويضلونهم{[24393]} ، { أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } ، كما قال تعالى : { إِنْ يَدْعُونَ{[24394]} مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ{[24395]} إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا } [ النساء : 117 ] .


[24392]:- في هـ: "الشياطين ثم الذين" والمثبت من ت ، س.
[24393]:- في س: "ويضلوهم".
[24394]:- في س: "تدعون".
[24395]:- في س: "تدعون".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمۖ بَلۡ كَانُواْ يَعۡبُدُونَ ٱلۡجِنَّۖ أَكۡثَرُهُم بِهِم مُّؤۡمِنُونَ} (41)

وإذا قال الله تعالى للملائكة هذه المقالة قالت الملائكة { سبحانك } أي تنزيهاً لك عما فعل هؤلاء الكفرة ، ثم برؤوا أنفسهم بقولهم { أنت ولينا من دونهم } يريدون البراءة من أن يكون لهم رضى أو علم أو مشاركة في أن يعبدهم البشر ، ثم قرروا البشر إنما عبدت الجن برضى الجن وبإغوائها للبشر فلم تنف الملائكة عبادة البشر . إياها وإنما قررت أنها لم تكن لها في ذلك مشاركة ، ثم ذنبت الجن ، وعبادة البشر للجن هي فيما نعرفه نحن بطاعتهم إياهم وسماعهم من وسوستهم وإغوائهم ، فهذا نوع من العبادة ، وقد يجوز إن كان في الأمم الكافرة من عبد الجن ، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت في سورة الأنعام وغيرها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمۖ بَلۡ كَانُواْ يَعۡبُدُونَ ٱلۡجِنَّۖ أَكۡثَرُهُم بِهِم مُّؤۡمِنُونَ} (41)

مورد التنزيه في قول الملائكة { سبحانك } هو أن يكون غير الله مستحقاً أن يعبد ، مع لازم الفائدة وهو أنهم يعلمون ذلك فلا يضرون بأن يكونوا مَعبودين .

والولي : الناصر والحَليف والصديق ، مشتق من الوَلْي مصدر وَلِيَ بوزن عَلِم . وكلٌّ من فاعل الوَلْي ومفعوله وليّ لأن الوَلاية نسبة تستدعي طرفين ولذلك كان الولي فعيلاً صالحاً لمعنى فاعل ولمعنى مفعول .

فيقع اسم الولِيّ على المُوالِي بكسر اللام وعلى المُوالَى بفتحها وقد ورد بالمعنيين في القرآن وكلام العرب كثيراً .

فمعنى { أنت ولينا } لا نوالي غيرك ، أي لا نرضى به وليّاً ، والعبادةُ ولاية بين العابد والمعبود ، ورضَى المعبود بعبادة عابده إياه ولايةٌ بين المعبود وعابده ، فقول الملائكة { سبحانك } تبرؤ من الرضى بأن يعبدهم المشركون لأن الملائكة لما جعلوا أنفسهم موالين لله فقد كذبوا المشركين الذين زعموا لهم الإِلهية ، لأن العابد لا يكون معبوداً . وقد تقدم الكلام على لفظ ( ولي ) عند قوله تعالى : { قل أغير اللَّه أتخذ ولياً } في سورة الأنعام ( 14 ) وفي آخر سورة الرعد .

و{ مِن } زائدة للتوكيد و ( دون ) اسم لمعنى غير ، أي أنت ولينا وهم ليسوا أولياء لنا ولا نرضى بهم لكفرهم ف { من دونهم } تأكيد لما أفادته جملة { أنت ولينا } من الحَصر لتعريف الجزأين .

و { بل } للإِضراب الانتقالي انتقالاً من التبرؤ منهم إلى الشهادة عليهم وعلى الذين سَوّلوا لهم عبادة غير الله تعالى ، وليس إضراب إبطال لأن المشركين المتحدث عنهم كانوا يعبدون الملائكة ، والمعنى : بل كان أكثر هؤلاء يعبدون الجن وكان الجنّ راضين بعبادتهم إياهم . وحاصل المعنى : أنا منكرون عبادتهم إياناً ولم نأمرهم بها ولكن الجن سوّلت لهم عبادة غير الله فعبدوا الجن وعبدوا الملائكة .

وجملة { أكثرهم } للمشركين وضمير { بهم } للجن ، والمقام يردّ كل ضمير إلى معاده ولو تماثلت الضمائر كما في قول عباس بن مرداس يوم حنين :

عُدنا ولولا نحن أحدق جمعهم *** بالمسلمين وأحرزوا ما جَمَّعوا

أي أحرز جَمْع المشركين ما جَمَّعه المسلمون من مغانم .

وقرأ الجمهور { نحشرهم } و { نقول } بنون العظمة . وقرأ حفص عن عاصم بياء الغائب فيهما ، والضمير عائد إلى { ربي } من قوله : { قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له } [ سبأ : 39 ] .