التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا} (5)

وقوله - تعالى - { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } تعليل للأمر بقيام الليل ، وهو كلام معترض بين قوله - سبحانه - { قُمِ الليل . . } وبين قوله - تعالى - بعد ذلك : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل . . . } .

والمراد بالقول الثقيل : القرآن الكريم الذى أنزله - سبحانه - على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم .

ويشهد لثقل القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة ، منها : ما رواه الإِمام البخارى من أن السيدة عائشة قالت : ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحى ، فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا .

ومنها قوله صلى الله عليه وسلم " ما من مرة يوحَى إلى ، إلا ظننت أن نفسى تفيض " - أى : تخرج . .

ونمها قول زيد بن ثابت : أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ من القرآن - وفخذه على فخذى فكادت تُرَض فخذى - أى : تتكسر . .

ومنها ما رواه هشام بن عروة عن أبيه ، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى عليه وهو على ناقته ، وضعت جرانها - أى باطن عنقها - فما تستطيع أن تتحرك ، حتى يُسَرَّى عنه .

أى : قم - أيها الرسول الكريم - الليل إلا قليلا منه متعبدا لربك ، متقربا إليه بألوان الطاعات ، فإنا سنلقى عليك قولا ثقيلا ، وهذا القول هو القرآن الكريم ، الثقيل فى وزنه وفى ميزان الحق ، وفى أثره فى القلوب ، وفيما اشتمل عليه من تكاليف ، وصدق الله إذا يقول : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله . . . } قال الجمل : قوله : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } أى : كلاما عظيما جليلا ذا خطر وعظمة ، لأنه كلام رب العالمين ، وكل شئ له خطر ومقدار فهو ثقيل .

أو هو ثقيل لما فيه من التكاليف ، والوعد والوعيد ، والحلال والحرام ، والحدود والأحكام .

قال قتادة : ثقيل والله فى فرائضه وحدوده . . وقال محمد بن كعب : ثقيل على المنافقين ، لأنه يهتك أسرارهم . . وقال السدى : ثقيلا بمعنى كريم ، مأخوذ من قولهم : فلان ثقل علىَّ ، أى كرم على . . وقال ابن المبارك : هو والله ثقيل مبارك ، كما ثقل فى الدنيا ، ثقل فى الميزان يوم القيامة .

وقيل : ثقيلا بمعنى أن العقل الواحد لا يفى بإدراك فوائده ومعانيه ، فالمتكلمون غاصوا فى بحار معقولانه ، والفقهاء بحثوا فى أحكامه . . والأولى أن جميع هذه المعانى فيه .

وقيل : المراد بالقول الوحى ، كما فى الخبر ، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى إليه ، وهو على ناقته وضعت جرانها - أى : وضعت صدرها على الأرض - فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه . .

ويبدو لنا أن وصف القرآن بالثقل وصف حقيقى ، لما ثبت من ثقله على النبى صلى الله عليه وسلم وقت نزوله عليه . . وهذا لا يمنع أن ثقله يشمل ما اندرج فيه من علوم نافعة ، ومن هدايات سامية ، ومن أحكام حكيمة ، ومن آداب قويمة ، ومن تكاليف جليلة الشأن .

وعبر - سبحانه - عن إيحائه بالقرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالإِلقاء للإِشعار بأنه يلقى إليه على غير ترقب منه صلى الله عليه وسلم ، بل ينزل إليه فى الوقت الذى يريده سبحانه - وللإِشارة من أول الأمر إلى ما يوحى إليه شئ عظيم وشديد الوقع على النفس .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا} (5)

( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) . .

هو هذا القرآن وما وراءه من التكليف . . والقرآن في مبناه ليس ثقيلا فهو ميسر للذكر . ولكنه ثقيل في ميزان الحق ، ثقيل في أثره في القلب : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله )فأنزله الله على قلب أثبت من الجبل يتلقاه . .

وإن تلقي هذا الفيض من النور والمعرفة واستيعابه ، لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل .

وإن التعامل مع الحقائق الكونية الكبرى المجردة ، لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل .

وإن الإتصال بالملأ الأعلى وبروح الوجود وأرواح الخلائق الحية والجامدة على النحو الذي تهيأ لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل .

وإن الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب ، ولا تلفت هنا أو هناك وراء الهواتف والجواذب والمعوقات ، لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل .

وإن قيام الليل والناس نيام ، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها ؛ والإتصال بالله ، وتلقي فيضه ونوره ، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه ، وترتيل القرآن والكون ساكن ، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة ؛ واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي . . إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل ، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل ! وينير القلب في الطريق الشاق الطويل ، ويعصمه من وسوسة الشيطان ، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا} (5)

وقوله : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا } قال الحسن ، وقتادة : أي العمل به .

وقيل : ثقيلٌ وقت نزوله ؛ من عظمته . كما قال زيد بن ثابت : أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي ، فكادت تُرض فَخذي . {[29410]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد ، عن عبد الله بن عمرو قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، هل تحس بالوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسمعُ صَلاصيل ، ثم أسكتُ عند ذلك ، فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تفيض " ، تفرد به أحمد . {[29411]}

وفي أول صحيح البخاري عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يأتيك الوحي ؟ فقال : " أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده عَلَيّ ، فَيَفْصِمُ عني وقد وَعَيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول " . قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد ، فَيَفْصِمُ عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا هذا لفظه . {[29412]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، أخبرنا عبد الرحمن ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : إن كان ليوحَى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته ، فتضرب بِجرَانها . {[29413]}

وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته ، وضعت جرانها ، فما تستطيع أن تحرك حتى يُسَرّى عنه . {[29414]}

وهذا مرسل . الجران : هو باطن العنق .

واختار ابن جرير أنه ثقيل{[29415]} من الوجهين معا ، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كما ثقل في الدنيا ثقل يوم القيامة في الموازين .


[29410]:- (2) رواه البخاري في صحيحه برقم (4592).
[29411]:- (3) المسند (2/222).
[29412]:- (4) صحيح البخاري برقم (2).
[29413]:- (5) المسند (6/118).
[29414]:- (6) تفسير الطبري (29/82).
[29415]:- (7) في أ: "أنه يقبل".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا} (5)

والقول الثقيل : هو القرآن . واختلف الناس لم سماه { ثقيلاً } ، فقالت جماعة من المفسرين : لما كان يحل في رسول الله من ثقل الجسم حتى أنه كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته بركت به ، وحتى كادت فخذه أن ترض فخذ زيد بن ثابت رحمه الله . وقال أبو العالية والقرطبي : بل سماه { ثقيلاً } لثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده ونحو ذلك . وقال حذاق العلماء : معناه ثقيل المعاني من الأمر بالطاعات والتكاليف الشرعية من الجهاد ومزاولة الأعمال الصالحة دائمة ، قال الحسن : إن الهذ خفيف ولكن العمل ثقيل{[11390]} .


[11390]:الهذ: سرعة القراءة ، يقال: هو يهذ القرآن ويهذ الحديث هذا، أي يسرده، قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: قرأت المفصل الليلة، فقال: أهذا كهذ الشعر؟ أراد: أتهذ القرآن هذا فتسرع فيه كما تسرع في قراءة الشعر؟.