ثم بين - سبحانه - ما يجب على المسلمين فعله إذا لم يتمكنوا من كتابة ديونهم بأن كانوا مسافرين وليس معهم كاتب فقال - تعالى - :
{ وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ . . . }
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( 283 )
الرهان : جمع رهن بمعنى مرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول وقرأ ابن كثير وأبو عمر { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌْْ } وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحبس قال - تعالى - : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } ومعنى الرهن : أن يوضع شيء يناسب قيمةالدين من متاع المدين بيد الدائن توثقه له في دينه ، ليستطيع أن يستوفي حقه من هذا الشيء المرهون عند تعذر الدفع .
والمعنى : وإن كنتم . أيها المؤمنون - مسافرين وتداينتم بدين إلى أجل مسمى ، ولم تجدوا كاتباً يكتب لكم ديونكم ، أو لم تتيسر لكم أسباب الكتابة لأي سبب من الأسباب ، فإنه في هذه الحالة يقوم مقام الكتابة رهان مقبوضة صاحب الدين ضماناً لحقه عند تعذر أخذه من الغريم .
وفي التعبير بقوله : { على سَفَرٍ } استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم في السفر بتمكن الراكب من مركوبه . وفيه كذلك إشارة إلى اضطراب الحال ، لأن حال المسافر يغلب عليها التنقل وعدم الاستقرار .
وجملة { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً } معطوفة على فعل الشرط ، أي : وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا ، كاتبا فتكون في محل جزم تقديراً . ويجوز أن تكون الواو للحال والجملة بعدها في محل نصب على الحال .
وقوله : { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : فالذي يستوثق به رهان مقبوضة .
أو مبتدأ محذوف الخبر والتقدير : فعليكم رهان مقبوضة .
ومن الأحكام التي أخذها الفقهاء من هذه الآية الكريمة : أن تعليق الرهان على السفر ليس لكون السفر شرطاً في صحة الرهان ، فإن التعامل بالرهان مشروع في حالتي السفر والحضر ، وإنما علق هنا على السفر لأنه مظنة تعسر الكتابة لما فيه من التنقل وعدم الاستقرار . وقد ثبت في الصحيحين عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقاً من شعير رهنها قوتاً لأهله " .
ومن الواضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رهن درعه لليهودي كان مقيماً ولم يكن مسافرا .
قال القرطبي : " ولم يروا عن أحد منع الرهن في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود الأحوال . وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر في غيره " .
كذلك أخذ بعض الفقهاء من قوله : { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } أن الرهن لا يتم إلا بالقبض ، فإذا افترق المتعاقدان من غير قبض كان الرهن غير صحيح بنص الآية وهذا مذهب الأحناف والشافعية ، ويرى المالكية والحنابلة أن الرهن يتم من غير القبض ، لأن القبض حكم من أحكامه ، فمن حق الدائن بعد تمام عقد الرهن أن يطالب بقبض العين المرهونة ، فالقبض حكم من أحكام العقد ، وليس ركنا من أركانه ولا شرطاً لتمامه .
وقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّه } تفريع على أحكام الديون السابقة ، وحض على أداء الأمانة وعلى حسن المعاملة .
أي : فإن أمن الدائن المدين واعتمد على ذمته ووفائه ولم يوثق الدين بالكتابة والشهود والرهن ، فعلى المدين أن يكون عند حسن ظن الدائن به بأن يؤدي ما عليه من ديون في الموعد المحدد بدون تسويف أو مماطلة ، وعليه كذلك أن يتقي الله ربه في رعاية حقوق غيره فلا يجحدها ولا يتأخر في أدائها لأن الهل العليم بكل شيء سيحاسب كل إنسان بما قدمت يداه .
وعبر - سبحانه - بقوله : { فَإِنْ أَمِن } دون أو أودع ، للإِشارة إلى الجانب الذي اعتمد عليه الدائن في المدين وهو خلق الأمانة ، فهو لا يرى فيه إلا جانباً مأموناص لا يتوقع منه شراً أو خيانة ، وللتنبيه إلى أن صفة الأمانة والوفاء من الصفات التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون جميعاً حتى ينالوا السعادة في دينهم ودنياهم ، عبر بقوله : { فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن } ولم يقل فليؤد المدين لحضه : على الأداء بأحسن أسلوب ، لأنه ما دام الدائن قد ائتمنه على ما أعطاه من ديون ، فعلى هذا الذي اؤتمن وهو المدين أن يكون عند حسن الظن به وأن يرد إليه حقه في موعده مع شكره على حسن ظنه به .
وقوله : { أَمَانَتَهُ } أي دينه . والضمير يصح أن يعود إلى الدائن باعتباره مالك الدين ، وإلى المدين باعتبار أن الدين عليه ، وفي إضافتها - أي الأمانة - إلى المدين إشعار له بأنها عبء في ذمته يجب أن يؤديه حتى يتخلص من تكاليفه ، إذ الأمانة عبء ثقيل عند العقلاء الذين يشعرون بالمسئولية نحو أنفسهم ونحو غيرهم .
وجمع - سبحانه - بين صفتي الألوهية والربوبية في قوله : { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّه } للمبالغة في التحذير من الخيانة والمماطلة فإنهما يغضبان الله - تعالى - الذي خلق الإِنسان ورباه وأسبغ عليه نعمه الظاهرة والباطنة ، ولإِشعار هذا المدين بأن التقوى هي الوثيقة الكبرى التي لا تعدها وثيقة أخرى في كتابة أو شهادة أو رهان .
وبذلك نرى لوناً من ألوان التدرج الحكيم في شريعة الله - تعالى - فأنت ترى أن الله - تعالى - قد بين قبل ذلك أن الكتابة في الديون والإِشهاد عليها مطلوبان ، فإن تعذرت الكتابة والشهادة لسبب من الأسباب فإنه يترخص حينئذ بالرهن المقبوض .
فإن تعذر على المدين المحتاج أن يدفع للدائن رهنا يكون الاعتماد على الأمانة التي هي صفة من صفات الصادقين .
فياله من تشريع حكيم - بين الناس ما يصلح شأنهم في دنيهم وفي دنياهم .
ثم أمر الله تعالى - عباده بأن يؤدوا الشهادة على وجهها وألا يكتموها فقال - تعالى - { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } أي : وعليكم - أيها المؤمنون - ألا تمتنعوا عن أدائها إذا دعيتم إليها وألا تخفوها فإن الذي يخفيها ويمتنع عن أدائها يكون معاقباً من الله - تعالى - بسبب ارتكابه لما نهى عنه .
وقد أسند - سبحانه - الإِثم إلى القلب خاصة مع أن الإِثم يسند إلى الشخص ، لأن الإِثم في كتمان الشهادة عمل القلب لا عمل الجوارح ، ولأن القلب أساس كل خير وكل شر ، ففي الحديث الشريف : " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا اقتصر على قوله { فَإِنَّهُ آثِمٌ } وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ؟ قلت : كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها . فلما كان إثما مقترنا بالقلب أسند إليه لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد : هذا مما أبصرته عيني ، ووعاه قلبي . ولأن القلب هو رئيس الأعضاء فكأنه قيل : ومن يكتمها فقد تمكن الإِثم من أصل نفسه ، وملك أشرف مكان فيه : ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام التي تتعلق باللسان فقط . وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعند اقترافه ، واللسان ترجمان عنه . ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح ، وهي لها كالأصول التي تتشعب عنها . ألأا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإِيمان والكفر . وهما من أفعال القلوب فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلبو فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب .
وقوله : ( آثم ) خبر إن و ( قلبه ) رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل : فإنه يأثم قلبه . ويجوز أن يرتفع قلبه بالابتداء . وآثم خبر مقدم . والجملة خبر إن والضير للشأن .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } أي : والله - تعالى - عليهم بكل أعمالكم وأقوالكم وسائر شئونكم وسيجازي المسحنين إحساناً ، والمسيئين سوءاً فعليكم أيها المؤمنون أن تستجيبوا لأوامر الله ، وأن تجتنبوا ما نهاكم عنه حتى تكونوا من السعداء .
فالجلمة الكريمة تذييل قصد به الوعد الحسن للمؤمنين الصادقين ، والوعيد الشديد للعصاة المسيئين ، حتى يزداد المؤمنون إيمانا ، ويقع العصاة عن عصيانهم وسيئاتهم .
ثم يعود المشرع إلى تكملة في أحكام الدين ، آخرها في النص لأنها ذات ظروف خاصة ، فلم يذكرها هناك في النص العام . . ذلك حين يكون الدائن والمدين على سفر فلا يجدان كاتبا . فتيسيرا للتعامل ، مع ضمان الوفاء ، رخص الشارع في التعاقد الشفوي بلا كتابة مع تسليم رهن مقبوض للدائن ضامن للدين :
( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ) .
وهنا يستجيش الشارع ضمائر المؤمنين للأمانة والوفاء بدافع من تقوى الله . فهذا هو الضمان الأخير لتنفيذ التشريع كله ، ولرد الأموال والرهائن إلى أصحابها ، والمحافظة الكاملة عليها :
( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ) .
والمدين مؤتمن على الدين ، والدائن مؤتمن على الرهن ؛ وكلاهما مدعو لأداء ما اؤتمن عليه باسم تقوى الله ربه . والرب هو الراعي والمربي والسيد والحاكم والقاضي . وكل هذه المعاني ذات إيحاء في موقف التعامل والائتمان والأداء . . وفي بعض الآراء أن هذه الآية نسخت آية الكتابة في حالة الإئتمان . ونحن لا نرى هذا ، فالكتابة واجبة في الدين إلا في حالة السفر . والإئتمان خاص بهذه الحالة . والدائن والمدين كلاهما - في هذه الحالة - مؤتمن .
وفي ظل هذه الاستجاشة إلى التقوى ، يتم الحديث عن الشهادة - عند التقاضي في هذه المرة لا عند التعاقد - لأنها أمانة في عنق الشاهد وقلبه :
( ولا تكتموا الشهادة . ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) .
ويتكىء التعبير هنا على القلب . فينسب إليه الإثم . تنسيقا بين الاضمار للإثم ، والكتمان للشهادة . فكلاهما عمل يتم في أعماق القلب . ويعقب عليه بتهديد ملفوف . فليس هناك خاف على الله .
وهو يجزي عليه بمقتضى علمه الذي يكشف الإثم الكامن في القلوب !
يقول تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ } أي : مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى { وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا } يكتب لكم . قال ابن عباس : أو وجدوه ولم يجد قرطاسًا أو دواة أو قلمًا فَرُهُن مقبوضة ، أي : فَلْيكن بدل الكتابة رِهَان مقبوضة في يد صاحب الحق .
وقد استدل بقوله : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَة } على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض ، كما هو مذهب الشافعي والجمهور ، واستدل بها آخرون على أنه لا بد أن يكون الرهن مقبوضًا في يد المرتهن ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وذهب إليه طائفة .
واستدل آخرون من السلف بهذه الآية على أنه لا يكون الرهن مشروعا إلا في السفر ، قاله مجاهد وغيره .
وقد ثبت في الصحيحين ، عن أنس ، أن رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم تُوفِّي وَدِرْعُه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وَسْقًا من شعير ، رهنها قوتًا لأهله{[4701]} . وفي رواية : من يهود المدينة{[4702]} . وفي رواية الشافعي : عند أبي الشحم اليهودي{[4703]} . وتقرير هذه المسائل في كتاب " الأحكام الكبير " ، ولله الحمد والمنة ، وبه
وقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } روى ابنُ أبي حاتم بإسناد جيد ، عن أبي سعيد الخدري أنه قال : هذه نسخت ما قبلها .
وقال الشعبي : إذا ائتمن بعضكم{[4704]} بعضًا فلا بأس ألا تكتبوا أو لا تُشهدوا .
وقوله : { وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّه } يعنى : المؤتَمن ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من رواية قتادة ، عن الحسن ، عن سَمُرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " {[4705]} .
وقوله : { وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَة } أي : لا تخفوها وتغلوها ولا تظهروها . قال ابن عباس وغيره : شهادة الزور من أكبر الكبائر ، وكتمانها كذلك . ولهذا قال : { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } قال السدي : يعني : فاجر قلبه ، وهذه كقوله تعالى : { وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ } [ المائدة : 106 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [ النساء : 135 ] ، وهكذا قال هاهنا : { وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .
{ وإن كنتم على سفر } أي مسافرين . { ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } فالذي يستوثق به رهان ، أو فعليكم رهان ، أو فليؤخذ رهان . وليس هذا التعليق لاشتراط السفر في الإرتهان كما ظنه مجاهد والضحاك رحمهما الله تعالى لأنه عليه السلام رهن درعه في المدينة من يهودي على عشرين صاعا من شعير أخذه لأهله ، بل لإقامة التوثق للإرتهان مقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مظنة إعوازها . والجمهور على اعتبار القبض فيه غير مالك . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " فرهن " كسقف وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون : وقرئ بإسكان الهاء على التخفيف . { فإن أمن بعضكم بعضا } أي بعض الدائنين بعض المديونين واستغنى بأمانته عن الارتهان . { فليؤد الذي ائتمن أمانته } أي دينه سماه أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به . وقرئ " الذي ايتمن " بقلب الهمزة ياء ، و " الذي أتمن " بإدغام الياء في التاء وهو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها فلا تدغم . { وليتق الله ربه } في الخيانة وإنكار الحق وفيه مبالغات . { ولا تكتموا الشهادة } أيها الشهود ، أو المدينون والشهادة شهادتهم على أنفسهم . { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } أي يأثم قلبه أو قلبه يأثم . والجملة خبر إن وإسناد الإثم إلى القلب لأن الكتمان مقترفه ونظيره : العين زانية والأذن زانية . أو للمبالغة فإنه رئيس الأعضاء وأفعاله أعظم الأفعال ، وكأنه قيل : تمكن الإثم في نفسه وأخذ أشرف أجزائه ، وفاق سائر ذنوبه ، وقرئ { قلبه } بالنصب كحسن وجهه . { والله بما تعملون عليم } تهديد .
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( 283 )
لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب وجعل لها الرهن ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو الغالب من الأعذار لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو ، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر ، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل ، وأيضاً فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن .
وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير ، فقال : إنما يريد محمد أن يذهب بمالي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء ، ولو ائتمنني لأديت ، اذهبوا إليه بدرعي » .
وقد قال جمهور من العلماء : الرهن في السفر ثابت في القرآن ، وفي الحضر ثابت في الحديث( {[2814]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن ، إلا أنه لم يمعن النظرفي لفظ السفر في الآية ، وإذا كان السفر في الآية مثالاً من الأعذار فالرهن في الحضر موجود في الآية بالمعنى( {[2815]} ) ، إذ قد تترتب الأعذار في الحضر ، وذهب الضحاك ومجاهد إلى أن الرهن والائتمان إنما هو في السفر ، وأما في الحضر فلا ينبغي شيء من ذلك ، وضعف الطبري قولهما في الرهن بحسب الحديث الثابت الذي ذكرته ، وقوى قولهما في الائتمان ، والصحيح ضعف القول في الفصلين بل يقع الائتمان في الحضر كثيراً ويحسن ، وقرأ جمهور القراء «كاتباً » بمعنى رجل يكتب ، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «كتاباً » بكسر الكاف وتخفيف التاء وألف بعدها وهو مصدر ، قال مكي : وقيل هو جمع كاتب كقائم وقيام .
قال القاضي أبو محمد : ومثله صاحب وصاحب ، وقرأ بذلك مجاهد وأبو العالية وقالا : المعنى وإن عدمت الدواة والقلم أو الصحيفة ، ونفي وجود الكتاب يكون بعدم أي آلة اتفق من الآلة ، فنفي الكتاب يعمها ، ونفي الكاتب أيضاً يقتضي نفي الكتاب فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف( {[2816]} ) ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «كُتاباً » بضم الكاف على جمع كاتب ، وهذا يحسن من حيث لكل نازلة كاتب( {[2817]} ) ، فقيل للجماعة ولم تجدوا كتاباً ، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كاتباً » ، وحكى المهدوي عن أبي العالية أنه قرأ «كتباً » وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة ، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كتباً » .
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وجمهور من العلماء «فرهان » ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «فرُهُن » بضم الراء والهاء ، وروي عنهما تخفيف الهاء .
وقد قرأ بكل واحدة جماعة غيرهما .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : رهن الشيء في كلام العرب معناه : دام واستمر ، يقال أرهن لهم الشراب وغيره قال ابن سيده : ورهنه أي أدامه( {[2818]} ) ، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر : [ السريع ]
اللحمُ والخبزُ لَهمْ راهِنٌ . . . وقهوةٌ راووقُها ساكِبُ( {[2819]} )
أي دائم قال أبو علي : ولما كان الرهن بمعنى الثبوت والدوام فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى يد الراهن بوجه من الوجوه لأنه فارق ما جعل له( {[2820]} ) ، ويقال أرهن في السلعة إذا غالى فيها ، حتى أخذها بكثير الثمن ، ومنه قول الشاعر في وصف ناقة : [ البسيط ]
يطوي ابن سلمى بها من راكب بُعُداً . . . عيديةً أُرْهنَتْ فيها الدَّنَانِيرُ( {[2821]} )
العيد بطن من مهرة ، وإبل مهرة موصوفة بالنجابة ، ويقال في معنى الرهن الذي هو التوثقة من الحق : أرهنت إرهاناً فيما حكى بعضهم ، وقال أبو علي يقال : أرهنت في المغالاة ، وأما في القرض والبيع فرهنت( {[2822]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويقال بلا خلاف في البيع والقرض : رهنت رهناً ، ثم سمي بهذا المصدر الشيء المدفوع ، ونقل إلى التسمية ، ولذلك كسر في الجمع كما تكسر الأسماء وكما تكسر المصادر التي يسمى بها وصار فعله ينصبه نصب المفعول به لا نصب المصدر ، تقول : رهنت رهناً فذلك كما تقول رهنت ثوباً ، لا كما تقول : رهنت الثوب رهناً وضربت ضرباً ، قال أبو علي : وقد يقال في هذا المعنى أرهنت ، وفعلت فيه أكثر ، ومنه قول الشاعر( {[2823]} ) : [ الوافر ]
يراهِنُني ويُرْهِنُني بنيه . . . وَأُرْهِنُه بنيَّ بِمَا أَقُولُ
حتّى يُقِيدَكَ مِنْ بنِيهِ رَهِينَةً . . . نَعْشٌ ويُرْهِنَكَ السِّماكَ الفَرْقَدا( {[2824]} )
فهذه رويت من رهن وأما أرهن فمنه قول همام بن مرة : [ المتقارب ]
ولمّا خَشِيتُ أَظافِرَهُمْ . . . نَجَوْتُ وأَرْهنْتُهُمْ مَالِكا( {[2825]} )
قال الزجّاج يقال في الرهن رهنت وأرهنت ، وقاله ابن الأعرابي ، ويقال رهنت لساني بكذا ولا يقال فيه أهنت .
قال القاضي أبو محمد : فمن قرأ «فرِهَان » فهو جمع رَهْن ، ك «كبْش » و «كِباش » ، و «كَعْب » وكِعاب ، ونَعْل ونِعَال ، وَبَغْل وبِغَال ، ومن قرأ «فُرُهُنٌ » بضم الراء والهاء فهو جمع رَهْن ، ك «سقف وسقف ، وأسد( {[2826]} ) وأُسْد ، إذ فَعْل وفُعُل يتقاربان في أحكامهما ، ومن قرأ " فرهْن " بسكون الهاء فهو تخفيف رهن ، وهي لغة في هذا الباب كله ، كتف وفخذ وعضد وغير ذلك ، قال أبو علي : وتكسير رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء ، ولو جاء لكان قياسه أفعل ككلب وأكلب ، وكأنهم استغنوا بالكثير عن القليل في قولهم : ثلاثة شسوع ، وكما استغني ببناء القليل عن بناء الكثير في رسن وأرسان ، فرهن يجمع على بناءين من أبنية الجموع وهما فعل وفعال ، فمما جاء على " فُعْل " قول الأعشى : [ الكامل ]
آليتُ لا أُعْطيهِ مِنْ أبنائِنا . . . رَهْناً فَيُفْسِدهُمْ كَمَنْ قَدْ أَفْسَدا
قال الطبري : تأول قوم أن «رُهُناً » بضم الراء والهاء جمع رهان ، فهو جمع جمع ، وحكاه الزجّاج عن الفرّاء( {[2827]} ) ، ووجه أبو علي قياساً يقتضي أن يكون رهاناً جمع رهن بأن يقال يجمع فعل على فعال( {[2828]} ) كما جمعوا فعالاً على فعائل في قول ذي الرمة : [ الطويل ]
وَقَرَّبْنَ بالزرْقِ الْجَمَائِلَ بَعْدَما . . . تَقَوَّبَ عَنْ غِرْبَانِ أوراكِها الْخَطَر( {[2829]} )
ثم ضعف أبو علي هذا القياس وقال : إن سيبويه لا يرى جمع الجمع مطرداً فينبغي أن لا يقدم عليه حتى يرد سماعاً .
وقوله عز وجل : { مقبوضة } يقتضي بينونة المرتهن بالرهن ، وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن ، وكذلك على قبض وكيله فيما علمت .
واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه ، فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء قبض العدل قبض ، وقال الحكم بن عتيبة وأبو الخطاب قتادة بن دعامة( {[2830]} ) وغيرهما : ليس قبض العدل بقبض ، وقول الجمهور أصح من جهة المعنى في الرهن( {[2831]} ) .
وقوله تعالى : { فإن أمن } الآية ، شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء ، وقوله { فليُؤد } أمر بمعنى الوجوب بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه ، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير ، وقوله { أمانته } مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة( {[2832]} ) ، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة ، ويحتمل أن يريد بالأمانة نفس المصدر( {[2833]} ) ، كأنه قال : فليحفظ مروءته ، فيجيء التقدير : فليؤد ذا أمانته( {[2834]} ) ، وقرأ عاصم فيما روى عنه أبو بكر الذي أؤتمن برفع الألف ويشير بالضم إلى الهمزة ، قال أحمد بن موسى وهذه الترجمة غلط( {[2835]} ) ، وقرأ الباقون بالذال مكسورة وبعدها همزة ساكنة بغير إشمام ، وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره ، وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم ، وهذا خطأ أيضاً لا يجوز ، وصوّب أبو علي هذا القول كله الذي لأحمد بن موسى واحتج له ، وقرأ ابن محيصن «الذي ايتمن » بياء ساكنة مكان الهمزة ، وكذلك ما كان مثله .
وقوله تعالى : { ولا تكتموا الشهادة } نهي على الوجوب( {[2836]} ) بعدة قرائن ، منها الوعيد وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق ، وقال ابن عباس على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر حيثما استخبر ، قال ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا عندي بحسب قرينة حال الشاهد والمشهود فيه والنازلة ، لا سيما مع فساد الزمن وأرذال الناس ونفاق الحيلة وأعراض الدنيا عند الحكام ، فرب شهادة إن صرح بها في غير موضع النفوذ كانت سبباً لتخدم باطلاً ينطمس به الحق ، و { آثم } معناه قد تعلق به الحكم اللاحق عن المعصية في كتمان الشهادة ، وإعرابه أنه خبر «إن »( {[2837]} ) ، و { قلبه } فاعل ب { آثم } ، ويجوز أن يكون ابتداء و { قلبه } فاعل يسد مسد الخبر ، والجملة خبر إن ، ويجوز أن يكون { قلبه } بدلاً( {[2838]} ) على بدل البعض من الكل .
وخص الله تعالى ذكر القلب إذ الكتم من أفعاله ، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كما قال عليه السلام( {[2839]} ) ، وقرأ ابن أبي عبلة «فإنه آثم قلبَه » بنصب الباء ، قال مكي هو على التفسير( {[2840]} ) ثم ضعفه من أجل أنه معرفة .
وفي قوله تعالى : { والله بما تعملون عليم } توعد وإن كان لفظها يعم الوعيد والوعد .
هذا معطوف على قوله : { إذا تداينتم بدَين } [ البقرة : 282 ] الآية ، فجميع ما تقدّم حكم في الحضر والمُكنة ، فإن كانوا على سفر ولم يتمكّنوا من الكتابة لعدم وجود من يكتب ويشهد فقد شُرع لهم حكم آخر وهو الرهن ، وهذا آخر الأقسام المتوقّعة في صور المعاملة ، وهي حالة السفر غالباً ، ويلحق بها ما يماثل السفر في هاته الحالة .
والرهان جمع رهن ويجمع أيضاً على رُهُن بضم الراء وضم الهاء وقد قرأه جمهور العشرة : بكسر الراء وفتح الهاء ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عَمْرو : بضم الراء وضم الهاء ، وجمْعُه باعتبار تعدّد المخاطبين بهذا الحكم .
والرهن هنا اسم للشيء المرهون تسميةً للمفعول بالمصدر كالخلْق . ومعنى الرهن أن يجعل شيء من متاع المدين بيد الدائن توثقة له في دينه . وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحَبس قال تعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة } [ المدثر : 38 ] فالمرهون محبوس بيد الدائن إلى أن يستوفي دينه قال زهير :
وفارقْتَك برهن لا فَكَاكَ لَه *** يومَ الوَدَاعِ فأمسَى الرهن قد غَلِقَا
والرهن شائع عند العرب : فقد كانوا يرهنون في الحمالات والدَيات إلى أن يقع دفعها ، فربّما رهنوا أبناءهم ، وربّما رهنوا واحداً من صناديدهم ، قال الأعشى يَذْكر أنّ كِسْرى رام أخذ رهائن من أبنائهم :
آلَيْتُ لا أُعْطِيه من أبنائنا *** رُهُنا فنفسدَهم كمَن قد أفْسَدا
وقال عبد الله بن هَمَّام السلولي{[202]}
فلمّا خَشِيتُ أظَافِيرَهم *** نَجَوْت وأرْهَنْتُهُم مَالِكَا
ومن حديث كعب بن الأشْرَففِ أنّه قال لعبد الرحمان بن عَوْف : ارْهَنُوني أبْنَاءَكم .
ومعنى فرِهانٌ : أي فرهان تعَوّض بها الكتابة . ووصفُها بمقبوضة إمّا لمجرّد الكشف ، لأنّ الرهان لا تكون إلاّ مقبوضة ، وإمّا للاحتراز عن الرهن للتوثقة في الديون في الحضر فيؤخَذ مِن الإذن في الرهن أنّه مباح فلذلك إذا سأله ربّ الدين أجيبَ إليه فدلّت الآية على أنّ الرهن توثقة في الدين .
والآية دالة على مشروعية الرهن في السفر بصريحها . وأمّا مشروعية الرهن في الحضر فلأنّ تعليقه هنا على حال السفر ليس تعليقاً بمعنى التقييد بل هو تعليق بمعنى الفرض والتقدير ، إذا لم يوجد الشاهد في السفر ، فلا مفهوم للشرط لوروده مورد بيان حالة خاصة لا للاحتراز ، ولا تعتبر مفاهيم القيود إلاّ إذا سيقت مساق الاحتراز ، ولذا لم يعتدّوا بها إذا خرجت مخرج الغالب . ولا مفهوم له في الانتقال عن الشهادة أيضاً ؛ إذ قد علم من الآية أنّ الرهن معاملة لهم ، فلذلك أحيلوا عليها عند الضرورة على معنى الإرشاد والتنبيه .
وقد أخذ مجاهد ، والضحّاك ، وداود الظاهري ، بظاهر الآية من تقييد الرهن بحال السفر ، مع أنّ السنّة أثبتت وقوع الرهن من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه في الحضَر .
والآية دليل على أنّ القبض من متمّمات الرّهن شرعاً ، ولم يختلف العلماء في ذلك ، وإنّما اختلفوا في الأحكام الناشئة عن ترك القبض ، فقال الشافعي : القبض شرط في صحة الرهن ، لظاهر الآية ، فلو لم يقارن عقدة الرهن قبض فسدت العقدة عنده ، وقال محمد بن الحسن ، صاحب أبي حنيفة : لا يجوز الرهن بدون قبض ، وتردّد المتأخّرون من الحنفية في مفاد هذه العبارة ؛ فقال جماعة : هو عنده شرط في الصحة كقول الشافعي ، وقال جماعة : هو شرط في اللزوم قريباً من قول مالك ، واتفق الجميع على أنّ للراهن أن يرجع بعد عقد الرهن إذا لم يقع الحوز ، وذهب مالك إلى أنّ القبض شرط في اللزوم ، لأنّ الرهن عقد يثبت بالصيغة كالبيع ، والقبضُ من لوازمه ، فلذلك يُجبر الراهن على تحويز المرتهن إلاّ أنّه إذا مات الراهن أو أفلس قبل التحويز كان المرتهن أسوةَ الغرماء ؛ إذ ليس له ما يؤثره على بقية الغرماء ، والآية تشهد لهذا لأنّ الله جعل القبض وصفاً للرهن ، فعلم أنّ ماهية الرهن قد تحقّقت بدون القبض . وأهل تونس يكتفون في رهن الرباع والعقار برهن رسوم التملّك ، ويعدّون ذلك في رهن الدين حوزاً . وفي الآية دليل واضح على بطلان الانتفاع ؛ لأنّ الله تعالى جعل الرهن عوضاً عن الشهادة في التوثّق فلا وجه للانتفاع ، واشتراط الانتفاع بالرهن يخرجه عن كونه توثّقاً إلى ماهية البيع .
{ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الذى اؤتمن أمانته وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } .
متفرّع على جميع ما تقدّم من أحكام الدين : أي إنْ أمِنَ كلّ من المتداينين الآخر أي وثق بعضكم بأمانة بعض فلم يطالبه بإشهاد ولا رهن ، فالبعض المرفوع هو الدائن ، والبعض المنصوب هو المدين وهو الذي ائتُمن .
والأمانة مصدر آمنه إذا جعله آمناً . والأمن اطمئنان النفس وسلامتها ممّا تخافه ، وأطلقت الأمانة على الشيء المؤمَّن عليه ، من إطلاق المصدر على المفعول . وإضافة أمانته تشبه إضافة المصدر إلى مفعوله . وسيجيء ذكر الأمانة بمعنى صفةِ الأمين عندَ قوله تعالى : { وأنا لكم ناصح أمين } في سورة الأعراف ( 68 ) .
وقد أطلق هنا اسم الأمانة على الدَّين في الذمّة وعلى الرهن لتعظيم ذلك الحق لأنّ اسم الأمانات له مهابَة في النفوس ، فذلك تحذير من عدم الوفاء به ؛ لأنّه لما سمّي أمانة فعدم أدائه ينعكس خِيانة ؛ لأنّها ضدّها ، وفي الحديث : " أدِّ الأمَانَة إلى من ائتَمنك ولا تَخن من خانك " .
والأداء : الدفع والتوفية ، وردّ الشيء أو رَدُّ مثله فيما لا تقصد أعيانه ، ومنه أداء الأمانة وأداء الدّين أي عدم جحده قال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [ النساء : 58 ] .
والمعنى : إذا ظننتم أنّكم في غُنية عن التوثّق في ديونكم بأنّكم أمناء عند بعضكم ، فأعْطُوا الأمانَة حَقَّها .
وقد علمتَ ممّا تقدم عند قوله تعالى : { فاكتبوه } أنّ آية { فإن أمن بعضكم بعضاً فليود الذي أؤتمن أمانته } تعتبر تكميلاً لطلب الكتابة والإشهادِ طلَبَ ندب واستحباب عند الذين حملوا الأمر في قوله تعالى : { فاكتبوه } على معنى الندب والاستحباب ، وهم الجمهور .
ومعنى كونها تكميلاً لذلك الطلب أنّها بيّنت أنّ الكتابة والإشهاد بين المتداينين ، مقصود بهما حسن التعامل بينهما ، فإن بدَا لهما أن يأخذا بهما فنعمَّا ، وإن اكتفيا بما يعلمانه من أمانٍ بينهما فلهما تركهما .
وأتبع هذا البيان بوصاية كلا المتعاملين بأن يؤدّيا الأمانة ويتّقيا الله .
وتقدم أيضاً أنّ الذين قالوا بأنّ الكتابة والإشهاد على الديون كان واجباً ثم نسخ وجوبه ، ادّعوا أنّ ناسخه هو قوله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضاً } الآية ، وهو قول الشعبي ، وابن جريج ، وجابر بن زيد ، والربيع بن سليمان ، ونسب إلى أبي سعيد الخدري .
ومحمل قولهم وقولِ أبي سعيد إن صحّ ذلك عنه أنّهم عنّوا بالنسخ تخصيص عموم الأحوال والأزمنة . وتسميةُ مثل ذلك نسخاً تسمية قديمة .
أمّا الذين يرون وجوب الكتابة والإشهاد بالديون حكمَا مُحْكَما ، ومنهم الطبري ، فقصروا آية { فإن أمن بعضكم بعضاً } الآية على كونها تكملةً لصورة الرهن في السفر خاصة ، كما صرّح به الطبري ولم يأت بكلام واضح في ذلك ولكنّه جمجم الكلام وطَوَاه .
ولَوْ أنّهم قالوا : إنّ هذه الآية تعني حالةَ تعذّر وجود الرهن في حالة السفر ، أي فلم يبق إلاّ أن يأمن بعضكم فالتقدير : فإن لم تجدوا رهناً وأمن بعضكم بعضاً إلى آخره لكان له وجه ، ويُفهم منه أنّه إن لم يأمنه لا يداينه ، ولكن طُوى هذا ترغيباً للناس في المواساة والاتِّسام بالأمانة . وهؤلاء الفرق الثلاثة كلّهم يجعلون هذه الآية مقصورة على بيان حالة ترك التوثّق في الديون .
وأظهر ممّا قالوه عندي : أنّ هذه الآية تشريع مستقلّ يعم جميع الأحوال المتعلّقة بالديون : من إشهاد ، ورهننٍ ، ووفاءٍ بالدّين ، والمتعلّقةِ بالتبايع ، ولهذه النكتة أبهم المؤتمنون بكلمة { بعض } ليشمَل الائتمان من كلا الجانبين : الذي من قبل ربّ الدين ، والذي من قبل المدين .
فربّ الدين يأتمن المدين إذا لم ير حاجة إلى الإشهاد عليه ، ولم يطالبه بإعطاء الرهن في السفر ولا في الحضر .
والمدين يأتمن الدائنَ إذا سَلَّم له رهناً أغلى ثمناً بكثير من قيمة الدين المرتهَن فيه ، والغالب أنّ الرهان تكون أوْفَرَ قيمة من الديون التي أرهنت لأجلها ، فأمر كلّ جانب مؤتمنٍ أن يؤدّي أمانته ، فأداءُ المدين أمانته بدفع الدين ، دون مطل ، ولا جحود ، وأداء الدائن أمانته إذا أعطي رهناً متجاوزَ القيمةِ على الدّين أن يردّ الرهن ولا يجحده غير مكترث بالدّين ؛ لأنّ الرهن أوفر منه ، ولا ينقص شيئاً من الرهن .
ولفظ الأمانة مستعمل في معنيين : معنى الصفة التي يتَّصف بها الأمين ، ومعنى الشيء المؤمَّن .
فيؤخذ من هذا التفسير إبطال غلَق الرهن : وهو أن يصير الشيء المرهون ملكاً لربّ الدّين ، إذا لم يدفع الدينَ عند الأجل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم
" لا يَغْلق الرهنُ " وقد كان غَلق الرهن من أعمال أهل الجاهلية ، قال زهير :
وفارقَتْكَ برَهْنٍ لا فَكَاكَ له *** عند الوَداع فأمسى الرهن قد غَلِقا
ومعنى { أمن بعضكم بعضاً } أن يقول كلا المتعاملين للآخر : لا حاجة لنا بالإشهاد ونحن يأمن بعضنا بعضاً ، وذلك كي لا ينتقض المقصد الذي أشرنا إليه فيما مضى من دفع مظنّة اتّهام أحد المتداينين الآخر .
وزيد في التحذير بقوله : { وليتق الله ربه } ، وذِكر اسم الجلالة فيه مع إمكان الاستغناء بقوله : « وليتّق ربّه » لإدخال الرّوع في ضمير السامع وتربية المهابة .
وقوله : { الذي أؤتمن } وقع فيه ياء هي المدة في آخر ( الذي ) ووقع بعده همزتان أولاهما وصلية وهي همزة الافتعال ، والثانية قطعية أصلية ، فقرأه الجمهور بكسر ذال الذي وبهمزة ساكنة بعد كسرة الذال ؛ لأنّ همزة الوصل سقطت في الدرَج فبقيت الهمزة على سكونها ؛ إذ الداعي لقلب الهمزة الثانية مدّا قد زال ، وهو الهمزة الأولى ، ففي هذه القراءة تصحيح للهمزة ؛ إذ لا داعي للإعلال .
وقرأه ورش عن نافع ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر : الّذِيتُمن بياء بعد ذال الذي ، ثم فوقية مضمومة : اعتباراً بأنّ الهمزة الأصلية قد انقلبت واواً بعد همزة الافتعال الوصلية ؛ لأنّ الشأن ضم همزة الوصل مجانسة لحركة تاء الافتعال عند البناء للمجهول ، فلمّا حذفت همزة الوصل في الدرج بقيت الهمزة الثانية واواً بعد كسرة ذال ( الذي ) فقلبت الواو ياء ففي هذه القراءة قلبان .
وقرأه أبو بكر عن عاصم : الذي اوتمن بقلب الهمزة واواً تبعاً للضمة مشيراً بها إلى الهمزة .
وهذا الاختلاف راجع إلى وجه الأداء فلا مخالفة فيه لرسم المصحف .
{ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .
وصاية ثانية للشهداء تجمع الشهادات في جميع الأحوال ؛ فإنّه أمر أن يكتب الشاهد بالعدل ، ثم نُهي عن الامتناع من الكتابة بين المتداينين ، وأعقَب ذلك بالنهي عن كتمان الشهادة كلّها . فكان هذا النهي بعمومه بمنزلة التذييل لأحكام الشهادة في الدّين .
واعلم أنّ قوله تعالى : { ولا تكتموا الشهادة } نهي ، وأنّ مقتضى النهي إفادة التكرار عند جمهور علماء الأصول : أي تكرارِ الانكفاف عن فعل المنهيّ في أوقات عُروضِ فعله ، ولولا إفادته التكرار لَما تحقّقت معصية ، وأنّ التكرار الذي يقتضيه النهي تكرار يستغرق الأزمنة التي يعرض فيها داععٍ لِفعل المنهيّ عنه ، فلذلك كان حقّاً على من تحمّل شهادة بحقّ ألاّ يكتمه عند عروض إعلانه : بأن يبلغه إلى من ينتفع به ، أو يقضِي به ، كلّما ظهر الداعي إلى الاستظهار به ، أو قبلَ ذلك إذا خشي الشاهد تلاشي ما في علمه : بغيبة أو طُرُوِّ نسيان ، أو عروض موت ، بحسب ما يتوقّع الشاهد أنّه حافظٌ للحقّ الذي في علمه ، على مقدار طاقته واجتهاده .
وإذ قد علمتَ آنفاً أنّ الله أنبأنا بأنّ مراده إقامة الشهادة على وجهها بقوله : { وأقوم للشهادة } [ البقرة : 282 ] ، وأنّه حرّض الشاهد على الحضور للإشهاد إذا طُلب بقوله : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } [ البقرة : 282 ] فعُلم من ذلك كلّه الاهتمام بإظهار الشهادة إظهاراً للحق . ويؤيّد هذا المعنى ويزيده بياناً : قول النبي صلى الله عليه وسلم " ألاَ أخْبِرُكُم بخَيْر الشهداءِ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألَها " رواه مالك في « الموطّأ » ، ورواه عنه مسلم والأربعة .
فهذا وجه تفسير الآية تظاهرَ فيه الأثر والنظرُ . ولكن روى في « الصحيح » عن أبي هريرة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خيرُ أمَّتِي القرنُ الذي بُعِثْتُ فيهم ثم الذين يلونهم قالها ثانية وشكّ أبو هريرة في الثالثة ثم يخلف قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا " الحديثَ .
وهو مسوق مساق ذَمِّ مَن وصفهم بأنّهم يشهدون قبل أن يُستشهدوا ، وأنّ ذمّهم من أجل تلك الصفة . وقد اختلف العلماء في محمله ؛ قال عياض : حمله قوم على ظاهره من ذمّ من يَشهد قبل أن تطلب منه الشهادة ، والجمهور على خلافه وأنّ ذلك غير قادح ، وحملوا ما في الحديث على ما إذا شهِد كاذباً ، وإلاّ فقد جاء في « الصحيح » : " خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسْألَها " . وأقول : روى مسلم عن عِمران بن حُصَين : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ خيركم قرني ثم الذين يلونهم قالها مرتين أو ثلاثاً ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون " الحديث .
والظاهرّ أنّ ما رواه أبو هريرة وما رواه عِمران بن حصين حديث واحد ، سمعه كِلاَهما ، واختلفت عبارتهما في حكايته فيكون لفظ عمران بن حصين مبيّناً لفظ أبي هريرة أنّ معنى قوله : قبل أن يستشهدوا دُونَ أن يستشهدوا ، أي دون أن يستشهدهم مُشهد ، أي أن يحمِلوا شهادة أي يشهدون بما لا يعلمون ، وهو الذي عناه المازري بقوله : وحملوا ما في الحديث أي حديث أبي هريرة على ما إذا شهد كاذباً . فهذا طريق للجمع بين الروايتين ، وهي ترجع إلى حمل المجمل على المبيّن .
وقال النووي : تأوّلَه بعض العلماء بأنّ ذم الشهادة قبل أن يُسألها الشاهد هو في الشهادة بحقوق الناس بخلاف ما فيه حق اللَّه قال النووي : « وهذا الجمع هو مذهب أصحابنا » وهذه طريقة ترجع إلى إعمال كل من الحديثين في باب ، بتأويل كلّ من الحديثين على غير ظاهره ؛ لئلا يلغَى أحدهما .
قلت : وبنى عليه الشافعية فرعا بردّ الشهادة التي يؤدّيها الشاهد قبل أن يُسألها ، ذكره الغزالي في « الوجيز » ، والذي نقل ابن مرزوق في « شرح مُختصر خليل عن الوجيز » « الحرص على الشهادة بالمبادرة قبلَ الدعوى لا تقبل ، وبعد الدعوى وقبل الاستشهاد وجهان فإن لم تقبل فهل يصير مجروحاً وجهان » .
فأما المالكية فقد اختلفَ كلامهم .
فالذي ذهب إليه عياض وابن مرزوق أنّ أداء الشاهد شهادته قبل أن يسألها مقبول لحديث « الموطأ » « خَيْر الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها » ونقل الباجي عن مالك : « أنّ معنى الحديث أن يكون عند الشاهد شهادة لرجل لا يعلم بها ، فيخبره بها ، ويؤدّيها له عند الحاكم » فإنّ مالكاً ذكره في « الموطأ » ولم يذيّله بما يقتضي أنّه لا عمل عليه وتبعَ الباجي ابنُ مرزوق في « شرحه لمختصر خليل » ، وادّعى أنَّه لا يعرف في المذهب ما يخالفه والذي ذهب إليه ابن الحاجب ، وخليلٌ ، وشارحو مختصرَيْهما : أنّ أداء الشهادة قبل أن يطلب من الشاهد أداؤُها مانع من قبولها : قال ابن الحاجب « وفي الأداء يُبدأ به دونَ طلب فيما تمحّض من حق الآدمي قادِحة » وقال خليل عاطفاً على موانع قبول الشهادة : « أوْ رَفَع قبل الطلب في مَحْض حقّ الآدمي » . وكذلك ابن راشد القفصي في كتابه « الفائِق في الأحكام والوثائق » ونسبه النووي في « شرحه على صحيح مسلم لمالك » ، وحمله على أنّ المستند متّحد وهو إعمال حديث أبي هريرة ولعلّه أخذ نسْبة ذلك لمالك من كلام ابن الحاجب المتقدّم .
وادّعى ابن مرزوق أنّ ابن الحاجب تبع ابن شاس إذ قال : « فإن بادر بها من غير طلب لم يقبل » وأنّ ابن شاس أخذه من كلام الغزالي قال : « والذي تقتضيه نصوص المذهب أنّه إنْ رفعها قبل الطلب لم يقدح ذلك فيها بل إن لم يكن فعله مندوباً فلا أقلّ من أن لا تُردّ » واعتضد بكلام الباجي في شرح حديث : خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها .
وقد سلكوا في تعليل المسألة مسلكين : مسلك يرجع إلى الجمع بين الحديثين ، وهو مسلك الشافعية ، ومسلك إعمال قاعدة رَدّ الشهادةِ بتهمة الحرص على العمل بشهادته وأنّه ريبة .
وقوله : { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } زيادة في التحذير . والإثمُ : الذنب والفجور .
والقلب اسم للإدراك والانفعالات النفسية والنَوايا . وأسد الإثم إلى القلب وإنّما الآثم الكاتم لأنّ القلب أي حركات العقل يسبّب ارتكاب الإثم : فإنّ كتمان الشهادة إصْرار قلبي على معصية ، ومثله قوله تعالى : { [ الأعراف : 116 ] وإنّما سحَروا الناس بواسطة مرئيات وتخيّلات وقول الأعشى :
كذلكَ فافعل ما حييتَ إذا شَتَوْا *** وأقْدِمْ إذَا ما أعْيُنُ الناسِ تَفْرق
لأنْ الفرَق ينشأ عن رؤية الأهوال .
وقوله : { والله بما تعملون عليم } تهديد ، كناية عن المجازاة بمثل الصنيع ؛ لأنّ القادر لا يحُول بينه وبين المؤاخذة إلاّ الجهل فإذا كان عليماً أقام قسطاس الجزاء .