وقوله - تعالى - { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً } تقرير لما سبق بيانه من عظيم سلطانه وغناه وقدرته .
أى : إن يشأ الله يفنكم ويهلككم أيها الناس - ويأت مكانكم بقوم آخرين ، وكان الله وما زال على إفنائكم وإيجاد غيركم بليغ القدرة ، لأنه - سبحانه - لا يعجزه شئ . لكنه - سبحانه - لم يشأ ذلك لا لعجز منه . ولكن لأن حكمته اقتضت بقاءكم ، ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، وليجازى كل إنسان على حسب عمله .
قال الجمل : ( ومفعول المشيئة محذوف يدل عليه مضمون الجزاء . أى : إن يشأ إفناءكم وإيجاد آخرين يذهبكم - يعنى : أن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ، ولعدم تعلق مشيئته المبنية على الحاكم البالغة بإفناءكم لا لعجزه - سبحانه - وقيل : هو خطاب لمن عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب : أى : يشأ يمتكم ويأت بأناس آخرين يوالونه . فمعناه هو معنى قوله - تعالى - { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } ويروى أنها لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمان الفارسى وقال : " إنهم قوم هذا " .
فالآية الكريمة تقرير لغناه وقدرته - سبحانه - وتهديد لمن كفر به وعصاه .
وهو أن أمرهم عليه سبحانه ؛ وقدرته على الذهاب بهم والمجيء بغيرهم :
( إن يشأ يذهبكم - أيها الناس - ويأت بآخرين . وكان الله على ذلك قديرًا ) . .
وهو قادر على أن يذهب بهم ويستبدل قوما غيرهم ، إنما هو يوصيهم بالتقوى لصلاحهم هم ، ولصلاح حالهم .
وبقدر ما يقرر الإسلام كرامة الإنسان على الله ؛ وتكريمه على كل ما في الأرض ، وكل من في الكون . . بقدر ما يقرر هو أنه على الله حين يكفر به ، ويعتو وتجبر ، ويدعي خصائص الألوهية بغير حق . . فهذه كفاء تلك في التصور الإسلامي ، وفي حقيقة الأمر والواقع كذلك . .
وقوله : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا } أي : هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه ، وكما قال [ تعالى ]{[8456]} { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] . وقال بعض السلف : ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره ! وقال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ } [ إبراهيم : 19 ، 20 ] أي : ما هو عليه بممتنع .
{ إن يشأ يذهبكم أيها الناس } يفنكم ، ومفعول يشأ محذوف دل عليه الجواب . { ويأت بآخرين } ويوجد قوما آخرين أو خلقا آخرين مكان الإنس . { وكان الله على ذلك } من الإعدام والإيجاد . { قديرا } بليغ القدرة لا يعجزه مراد ، وهذا أيضا تقرير لغناه وقدرته ، وتهديد لمن كفر به وخالف أمره . وقيل : هو خطاب لمن عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب ومعناه معنى قوله تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم } لما روي : أنه لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على ظهر سلمان وقال : إنهم قوم هذا .
قوله تعالى : { أيها الناس } مخاطبة للحاضرين من العرب ، وتوقيف للسامعين لتحضر أذهانهم ، وقوله { بآخرين } يريد من نوعكم ، وروي عن أبي هريرة أنه لما نزلت هذه الآية ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على كتف سلمان الفارسي وقال : هم قوم هذا ، وتحتمل ألفاظ الآية أن تكون وعيداً لجميع بني آدم ، ويكون الآخرون من غير نوعهم ، كما قد روي : أنه كان في الأرض ملائكة يعبدون الله قبل بني آدم ، وقدرة الله تعالى على ما ذكر تقضي بها العقول ببدائهها ، وقال الطبري هذا الوعيد والتوبيخ هو للقوم الذين شفعوا في طعمة بن أبيرق وخاصموا عنه في أمر خيانته في الدرع والدقيق .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : وهذا تأويل بعيد واللفظ إنما يظهر حسن رصفه بعمومه وانسحابه على العالم جملة أو العالم الحاضر .
وجملة { إن يشأ يذهبكم } واقعة موقع التفريع عن قوله : { غنيّاً حميداً } . والخطاب بقوله : { أيها الناس } للناس كلّهم الذين يسمعون الخطاب تنبيهاً لهم بهذا النداء . ومعنى { يَأت بآخرين } يُوجد ناساً آخرين يكونون خيراً منكم في تلقيّ الدين .
وقد علم من مقابلة قوله : { أيها الناس } بقوله : { آخرين } أنّ المعنى بناس آخرين غير كافرين ، على ما هو الشائع في الوصف بكلمة آخرَ أو أخرى ، بعد ذكرِ مقابِل للموصوف ، أن يكون الموصوف بكلمة آخر بعضاً من جنس ما عطف هو عليه باعتبار ما جعله المتكلّم جنساً في كلامه ، بالتصريح أو التقدير . وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى لزوم ذلك ، واحتفل بهذه المسألة الحريري في « درّة الغوّاص » . وحاصلها : أنّ الأخفش الصغير ، والحريري ، والرضيّ ، وابن يسعون ، والصقلي ، وأبا حيان ، ذهبوا إلى اشتراط اتّحاد جنس الموصوف بكلمة آخرَ وما تصرّف منها مع جنس ما عطف هو عليه ، فلا يجوز عندهم أن تقول : ركبت فرساً وحماراً آخر ، ومثّلوا لما استكمل الشرط بقوله تعالى : { أيّاماً معدودات } [ البقرة : 184 ] ثم قال : { فعدّة من أيّام أخَر } [ البقرة : 185 ] وبقوله : { أفرأيتم اللاتَ والعُزّى ومناةَ الثالثةَ الأخرى } [ النجم : 19 ، 20 ] فوصف مناة بالأخرى لأنّها من جنس اللات والعزّى في أنّها صنم ، قالوا : ومِثل كلمة آخر في هذا كلمات : سائر ، وبقية ، وبعض ، فلا تقول : أكرمت رجلاً وتركت سائر النساء .
ولقد غلا بعض هؤلاء النحاة فاشترطوا الاتحاد بين الموصوف بآخر وبين ما عطف هو عليه حتّى في الإفراد وضدّه . قاله ابن يسعون والصقلي ، وردّه ابن هشام في « التذكرة » محتجّاً بقول ربيعة بن مكدم :
ولقد شفعتهما بآخر ثالث *** وأبى الفرار لي الغداة تكرمي
وكنتُ أمشي على رجلين معتدلاً *** فصرت أمشي على أخرى من الشَّجَر
وقال قوم بلزوم الاتّحاد في التذكير وضدّه ، واختاره ابن جنّي ، وخالفهم المبّرد ، واحتجّ المبرّد بقول عنترة :
والخيلُ تقتحم الغبارَ عَوابسا *** من بين شَيْظَمةٍ وآخرَ شَيْظم
وذهب الزمخشري وابن عطية إلى عدم اشتراط اتّحاد الموصوف بآخر مع ما عطف هو عليه ، ولذلك جوزا في هذه الآية أن يكون المعنى : ويأت بخلق آخرين عير الإنس .
واتّفقوا على أنّه لا يجوز أن يوصف بكلمة آخر موصوف لم يتقدّمه ذكرُ مقابل له أصلاً ، فلا تقول : جاءني آخَر ، من غير أن تتكلّم بشيء قبلُ ، لأنّ معنى آخر معنى مغاير في الذات مجانس في الوصف . وأمّا قول كُثير :
صلّى على عَزّةَ الرحمانُ وابنتِها *** لُبْنَى وصلّى على جارَاتها الأُخَر
فمحمول على أنّه جعل ابنتها جارة ، أو أنّه أراد : صلى على حبائبي : عزّة وابنتها وجاراتها حبائبي الأُخَر .
وقال أبو الحسن لا يجوز ذلك إلا في الشعر ، ولم يأت عليه بشاهد .
قال أبو الحسن : وقد يجوز ما امتنع من ذلك بتأويل . نحو : رأيت فرساً وحماراً آخر بتأويل أنّه دابّة ، وقول امرىء القيس :
إذا قلت هذا صاحبي ورضيتُه *** وقَرّتْ به العينان بُدِّلْتُ آخرا
قلت : وقد يجعل بيت كثير من هذا ، ويكون الاعتماد على القرينة .
وقد عدّ في هذا القبيل قول العرب : « تربت يمين الآخِر » ، وفي الحديث : قال الأعرابي للنبيء صلى الله عليه وسلم « إنّ الآخر وقع على أهله في رمضان » كناية عن نفسه ، وكأنّه من قبيل التجريد . أي جرّد من نفسه شخصاً تنزيهاً لنفسه من أن يتحدّث عنها بما ذكره . وفي حديث الأسلمي في « الموطأ » : أنّه قال لأبي بكر " إنّ الآخر قد زنى " وبعض أهل الحديث يضبطونه بالقصر وكسر الخاء ، . وصوّبه المحقّقون .
وفي الآية إشارة إلى أنّ الله سيخلف من المشركين قوماً آخرين مؤمنين ، فإنّ الله أهلك بعضَ المشركين على شركه بعد نزول هذه الآية ، ولم يشأ إهلاك جميعهم . وفي الحديث : لعلّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده .