ثم بين - سبحانه - مصيرهم فى الآخرة ، بعد أن بين عاقبة مكرهم فى الدنيا فقال - تعالى - : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ . . } .
أى : هذا هو مصير هؤلاء المستكبرين فى الدنيا ، أما مصيرهم فى الآخرة فإن الله - تعالى - يذلهم ويهينهم ويفضحهم على رؤوس الأشهاد ، ويقول لهم على سبيل التقريع والتوبيخ : أين شركائى فى العبادة والطاعة ، الذين كنتم تعادون وتخاصمون المؤمنين فى شأنهم ، قائلين لهم : إنكم لا بد لكم من إشراكهم معى فى العبادة .
وجئ بثم المفيدة للترتيب النسبى ، للإِشارة إلى ما بين الجزاءين من تفاوت فإن خزى الآخرة أشد وأعظم مما نزل بهم من دمار فى الدنيا .
والاستفهام فى قوله { أين شركائى . . } للتهكم بهم وبمعبوداتهم الباطلة التى كانوا يعبدونها فى الدنيا ، فانهم كانوا يقولون للمؤمنين إن صح ما تقولونه من العذاب فى الآخرة ، فان الأصنام ستشفع لنا .
أى : أين هؤلاء الشركاء ليدفعوا عنكم ما نزل بكم من خزى وذلة وعذاب مهين ؟ ! وأضاف - سبحانه - الشركاء إليه ، لزيادة توبيخهم ، لأنهم فى هذا اليوم العظيم ، يعلمون علم اليقين أنه لا شركاء له - سبحانه - وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } قال الجمل ما ملخصه : وقوله { تشاقون } من المشاقة وهى عبارة عن كون كل واحد من الخصمين فى شق غير شق صاحبه .
وقرأ نافع { تشاقون } بكسر النون خفيفه ، وقرأ الباقون بفتح النون ، ومفعوله محذوف . أى : تشاقون المؤمنين ، أو تشاقون الله ، بدليل القراءة الأولى . . . .
ثم حكى - سبحانه - ما يقوله أولو العلم فى هذا الموقف الهائل الشديد فقال - تعالى - : { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين } .
والمراد بالذين أوتوا العلم ، كل من اهتدى إلى الحق فى الدنيا ؛ وأخلص لله - تعالى - العبادة والطاعة .
أى : قال الذين هداهم الله - تعالى - إلى صراطه المستقيم ، فى هذا اليوم العصيب ، إن الخزى الكامل ، فى هذا اليوم ، والسوء الذى ليس بعده سوء ، على هؤلاء الكافرين ، أصحاب القلوب المنكرة للحق ، والنفوس الجاحدة لليوم الآخر وما فيه من حساب .
وجئ بجمله { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم . . } غير معطوفة على ما قبلها ، لأنها واقعة موقع الجواب لقوله - سبحانه - { أين شركائى . . . } وللتنبيه على أن الذين أوتوا العلم سارعوا بالجواب بعد أن وجم المستكبرون ، وعجزوا عن الإِجابة .
وقولهم هذا يدل على شماتتهم بأعداء الله - تعالى - ، وتوبيخهم لهم على كفرهم ، واستكبارهم عن الإستماع إلى كلمة الحق .
وقال - سبحانه - : { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم . . . } بلفظ الماضى ، مع أن هذا القول سيكون فى الآخرة ، للإشارة إلى تحقق وقوعه ، وأنه كائن لا محالة .
وبين الحين والحين يتلفت الناس فيذكرون ذلك المشهد المؤثر الذي رسمه القرآن الكريم : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) .
هذا في الدنيا ، وفي واقع الأرض : ( ثم يوم القيامة يخزيهم ، ويقول : أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ؟ ) .
ويرتسم مشهد من مشاهد القيامة يقف فيه هؤلاء المستكبرون الماكرون موقف الخزي ؛ وقد انتهى عهد الاستكبار والمكر . وجاءوا إلى صاحب الخلق والأمر ، يسألهم سؤال التبكيت والتأنيب : ( أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ؟ ) أين شركائي الذين كنتم تخاصمون من أجلهم الرسول والمؤمنين ، وتجادلون فيهم المقرين الموحدين ؟ .
ويسكت القوم من خزي ، لتنطلق ألسنة الذين أوتوا العلم من الملائكة والرسل والمؤمنين وقد أذن الله لهم أن يكونوا في هذا اليوم متكلمين ظاهرين : ( قال الذين أوتوا العلم : إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ) . .
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } قال : هو نمرود الذي{[16393]} بنى الصرح .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد نحوه .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم : أولُ جبار كان في الأرض نمرود ، فبعث الله عليه بَعُوضة ، فدخلت في منخرة ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه ، وكان جبارا أربعمائة سنة ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله . وهو الذي كان بنى صرحًا إلى السماء ، وهو الذي قال الله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ }
وقال آخرون : بل هو بختنصر . وذكروا من المكر الذي حكى الله هاهنا ، كما قال في سورة إبراهيم : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } [ إبراهيم : 46 ] .
وقال آخرون : هذا من باب المثل ، لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره ، كما قال نوح ، عليه السلام : { وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا } [ نوح : 22 ] أي : احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة ، كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } [ الآية ]{[16394]} [ سبأ : 33 ] .
وقوله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ } أي : اجتثه من أصله ، وأبطل عملهم ، وأصلها{[16395]} كما قال تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } [ المائدة : 64 ] .
وقوله : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] .
وقال هاهنا : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ }
أي : يظهر فضائحهم ، وما كانت تُجنّه ضمائرهم ، فيجعله علانية ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] أي : تظهر وتشتهر{[16396]} ، كما في الصحيحين{[16397]} عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غَدْرَته ، فيقال : هذه غَدْرَة فلان بن فلان " {[16398]} .
وهكذا هؤلاء ، يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ، ويخزيهم الله على رءوس الخلائق ، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعا لهم وموبخا : { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } تحاربون وتعادون في سبيلهم ، [ أي ]{[16399]} : أين هم عن نصركم وخلاصكم هاهنا ؟ { هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } [ الشعراء : 93 ] ، { فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ } [ الطارق : 10 ] . فإذا توجهت عليهم الحجة ، وقامت عليهم الدلالة ، وحقت عليهم الكلمة ، وأسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار{[16400]} { قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } - وهم السادة في الدنيا والآخرة ، والمخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة ، فيقولون حينئذ : { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : الفضيحة والعذاب اليوم [ محيط ]{[16401]} بمن كفر بالله ، وأشرك به ما لا يضره ولا ينفعه .
{ ثم يوم القيامة يخزيهم } يذلهم أو يعذبهم بالنار كقوله تعالى : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } . { ويقول أين شركائي } أضاف إلى نفسه استهزاء ، أو حكاية لإضافتهم زيادة في توبيخهم . { الذين كنتم تشاقّون فيهم } تعادون المؤمنين في شأنهم . وقرأ نافع بكسر النون بمعنى تشاقونني فإن مشاقة المؤمنين كمشاقة الله عز وجل . { وقال الذين أوتوا العلم } أي الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد فيشاقونهم ويتكبرون عليهم ، أو الملائكة . { إن الخزي اليوم والسوء } الذلة والعذاب . { على الكافرين } وفائدة إظهار الشماتة بهم وزيادة الإهانة ، وحكايته لأن يكون لطفا ووعظا لمن سمعه .