ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجتهد فى إنذار قوم يتوقع منهم الصلاح والاستجابة للحق ، بعد أن أمره قبل ذلك بتوجيه دعوته إلى الناس كافة فقال تعالى : { وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
والمعنى : عظ وخوف يا محمد بهذا القرآن أولئك الذين يخافون شدة الحساب والعقاب ، وتعتريهم الرهبة عندما يتذكرون أهوال يوم القيامة لأنهم يعلمون أنه يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة ، فهؤلاء هم الذين ترجى هدايتهم لرقة قلوبهم وتأثرهم بالعظات والعبر .
فالمراد بهم المؤمنون العصاة الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، ولذا قال ابن كثير : { وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ } أى وأنذر بهذا القرآن يا محمد الذين هم من خشية ربهم مشفقون ، والذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب أى : يوم القيامة ، { لَيْسَ لَهُمْ } يومئذ ( من دون الله ولى ولا شفيع ) أى : لا قريب لهم ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } فيعملون فى هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه ويضاعف لهم الجزيل من ثوابه ) .
( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون . ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء . فتطردهم فتكون من الظالمين . وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين ؟ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة : أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ، ثم تاب من بعده وأصلح ، فأنه غفور رحيم ) . .
إنها عزة هذه العقيدة ، واستعلاؤها على قيم الأرض الزائفة ، وتخلصها من الاعتبارات البشرية الصغيرة . .
لقد أمر رسول الله [ ص ] أن يقدمها للناس دون زخرف ولا طلاء ؛ ودون إطماع في شيء من قيم الأرض ولا إغراء . . كذلك أمر أن يوجه عنايته إلى من يرجى منهم الانتفاع بالدعوة ، وأن يؤوي إليه الذين يتلقونها مخلصين ؛ ويتجهون بقلوبهم إلى الله وحده يريدون وجهه ؛ وألا يقيم وزنا بعد ذلك لشيء من قيم المجتمع الجاهلي الزائفة ؛ ولا لشيء من اعتبارات البشر الصغيرة :
( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ، لعلهم يتقون ) . .
أنذر به هؤلاء الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ، حالة أن ليس من دونه ولي ينصرهم ولا شفيع يخلصهم . ذلك أنه ما من شفيع يشفع عند الله إلا بإذنه ، وهو لا يشفع يومئذ - بعد الإذن - إلا لمن ارتضى الله أن يتشفع عند الله فيهم . . فهؤلاء الذين تستشعر قلوبهم خوف ذلك اليوم الذي ليس فيه - من دون الله - ولي ولا شفيع ، أحق بالإنذار ، وأسمع له ، وأكثر انتفاعا به . . لعلهم أن يتوقوا في حياتهم الدنيا وما يعرضهم لعذاب الله في الآخرة . فالإنذار بيان كاشف كما أنه مؤثر موح . بيان يكشف لهم ما يتقونه ويحذرونه ، ومؤثر يدفع قلوبهم للتوقي والحذر ؛ فلا يقعون فيما نهوا عنه بعدما تبين لهم :
وقوله : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } أي : وأنذر بهذا القرآن يا محمد { الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } [ المؤمنون : 57 ] والذين { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } [ الرعد : 21 ] .
{ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ } أي : يوم القيامة . { لَيْسَ لَهُمْ } أي : يومئذ { مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } أي : لا قريب لهم ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم ، { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله ، عَزَّ وجل { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه ، ويضاعف لهم به الجزيل من ثوابه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوَاْ إِلَىَ رَبّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٌ لّعَلّهُمْ يَتّقُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وأنْذِرْ يا محمد بالقرآن الذي أنزلناه إليك القوم الّذِينَ يَخافُون أنْ يحْشَروا إلى رَبّهِمْ علما منهم بأن ذلك كائن فهم مصدّقون بوعد الله ووعيده ، عاملون بما يرضي الله ، دائمون في السعي فيما ينقذهم في معادهم من عذاب الله . لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونهِ وَليّ أي ليس لهم من عذاب الله إن عذّبهم وليّ ينصرهم فيستنقذهم منه . وَلا شَفِيعٌ يشفع لهم عند الله تعالى فيخلصهم من عقابه . لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ يقول : أنذرهم كي يتقوا الله في أنفسهم ، فيطيعوا ربهم ويعملوا لمعادهم ، ويحذروا سخطه باجتناب معاصيه . وقيل : وأنْذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخافُونَ أنْ يُحْشَروا ومعناه : يعلمون أنهم يْحْشَرونَ ، فوضعت «المخافة » موضع «العلم » لأن خوفهم كان من أجل علمهم بوقوع ذلك ووجوده من غير شكّ منهم في ذلك . وهذا أمر من الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتعليم أصحابه ما أنزل الله إليه من وحيه وتذكيرهم والإقبال عليهم بالإنذار وصدّه عن المشركين به بعد الإعذار إليهم وبعد إقامة الحجة عليهم ، حتى يكون الله هو الحاكم في أمرهم بما يشاء من الحكم فيهم .
و { أنذر } عطف على { قل } ، والنبي عليه السلام مأمور بإنذار جميع الخلائق ، وإنما وقع التخصيص هنا بحسب المعنى الذي قصد ، وذلك أن فيما تقدم من الآيات نوعاً من اليائس في الأغلب عن هؤلاء الكفرة الذين قد قال فيهم أيضاً { أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون }{[4924]} فكأنه قيل له هنا : قل لهؤلاء الكفرة المعرضين كذا ، ودعهم ورأيهم لأنفسهم وأنذر بالقرآن هؤلاء الآخرين الذين هم مظنة الإيمان وأهل للانتفاع ، ولم يرد أنه لا ينذر سواهم ، بل الإنذار العام ثابت مستقر{[4925]} ، والضمير في { به } عائد على { ما يوحى } «ويخافون » على بابها في الخوف أي الذين يخافون ما تحققوه من أن يحشروا ويستعدون لذلك ، ورب متحقق لشيء مخوف وهو لقلة النظر والحزم لا يخافه ولا يستعد له .
قال القاضي ابو محمد : وقال الطبري : وقيل { يخافون } هنا بمعنى يعلمون ، وهذا غير لازم ، وقوله { الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } يعم بنفس اللفظ كل مؤمن بالبعث من مسلم ويهودي ونصراني ، وقوله { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } يحتمل معنيين فإن جعلناه داخلاً في الخوف في موضع نصب على الحال أي يخافون أن يحشروا في حال من لا ولي له ولا شفيع ، فهي مختصة بالمؤمنين المسلمين ولأن اليهود والنصارى يزعمون أن لهم شفعاء وأنهم أبناء الله ونحو هذا من الأباطيل ، وإن جعلنا قوله : { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } إخباراً من الله تعالى عن صفة الحال يؤمئذ فهي عامة للمسلمين وأهل الكتاب و { لعلهم يتقون } ترجٍّ على حسب ما يرى البشر ويعطيه نظرهم .
الأظهر أنَّه عطف على قوله : { قل هل يستوي الأعمى والبصير } [ الأنعام : 50 ] لأنّ ذلك مقدّمة لذكر مَن مثّلت حالهم بحال البصير وهم المؤمنون .
وضمير { به } عائد إلى { ما يوحى إليّ } [ الأنعام : 50 ] وهو القرآن وما يُوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم غير مراد به الإعجاز .
و { والذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } هم المؤمنون الممثّلون بحال البصير . وعُرّفوا بالموصول لما تدلّ عليه الصلة من المدح ، ومن التعليل بتوجيه إنذاره إليهم دون غيرهم ، لأنّ الإنذار للذين يخافون أن يحشروا إنذار نافع ، خلافاً لحال الذين ينكرون الحشر ، فلا يخافونه فضلاً عن الاحتياج إلى شفعاء .
و { أن يحشروا } مفعول { يخافون } ، أي يخافون الحشر إلى ربِّهم فهم يقدّمون الأعمال الصالحة وينتهون عمَّا نهاهم خيفة أن يَلقَوا الله وهو غير راض عنهم . وخوفُ الحشر يقتضي الإيمان بوقوعه . ففي الكلام تعريض بأنّ المشركين لا ينجع فيهم الإنذار لأنَّهم لا يؤمنون بالحشر فكيف يخافونه . . ولذلك قال فيهم { إنّ الذين كفروا سواء عليهم ءَأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [ البقرة : 6 ] .
وجملة : { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } حال من ضمير { أن يحشروا } ، أي يحشروا في هذه الحالة ، فهذه الحال داخلة في حيّز الخوف . فمضمون الحال معتقد لهم ، أي ليسوا ممَّن يزعمون أنّ لهم شفعاء عند الله لا تردّ شفاعتهم ، فهم بخلاف المشركين الذين زعموا أصنامهم شفعاء لهم عند الله .
وقوله { من دونه } حال من { ولي } و { شفيع } ، والعامل في الحال فعل { يخافون } ، أي ليس لهم ولي دون الله ولا شفيع دون الله ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا . وهو تعريض بالمشركين الذين اتَّخذوا شفعاء وأولياء غير الله .
وفي الآية دليل على ثبوت الشفاعة بإذن الله كما قال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه } [ البقرة : 255 ] . ولصاحب « الكشاف » هنا تكلّفات في معنى { يخافون أن يحشروا } وفي جعل الحال من ضمير { يحشروا } حالاً لازمة ، ولعلّه يرمي بذلك إلى أصل مذهبه في إنكار الشفاعة .
وقوله : { لعلّهم يتَّقون } رجاء مسوق مساق التعليل للأمر بإنذار المؤمنين لأنَّهم يرجى تقواهم ، بخلاف من لا يؤمنون بالبعث .