ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وبتبشيره بحسن العاقبة فقال - تعالى - : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً . وَأَكِيدُ كَيْداً . فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } وقوله : { رُوَيْداً } تصغير " رُودِ " بزنة عود - من قولهم : فلان يمشى على ورد ، أى : على مهل ، وأصله من رادت الريح ترود ، إذا تحركت حركة ضعيفة .
والكيد : العمل على إلحاق الضرر بالغير بطريقة خفية ، فهو نوع من المكر .
والمراد به بالنسبة لهؤلاء المشركين : تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولما جاء به من عند ربه ، فكيدهم مستعمل فى حقيقته .
والمراد بالنسةب لله - تعالى - : إمهالهم واستدراجهم ، حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، فى الوقت الذى يختاره ويشاؤه .
أى : إن هؤلاء المشركين يحيكون المكايد لإِبطال أمرك - أيها الرسول الكريم - ، وإنى أقابل كيدهم ومكرهم بما يناسبه من استدراج من حيث لا يعلمون ، ثم آخذهم أخذ عزيز مقتدر ، فتمهل - أيها الرسول الكريم - مع هؤلاء المشركين ، ولا تستعجل عقابهم . وانتظر تدبيرى فيهم ، وأمهلهم وأنظرهم " رويدا " أى : إمهالا قريبا أو قليلا ، فإن كل آت قريب ، وقد حقق - سبحانه - لنبيه وعده بأن جعل العاقبة له ولأتباعه .
( فمهل الكافرين ) . . ( أمهلهم رويدا ) . . لا تعجل . ولا تستبطئ نهاية المعركة . وقد رأيت طبيعتها وحقيقتها . . فإنما هي الحكمة وراء الإمهال . الإمهال قليلا . . وهو قليل حتى لو استغرق عمر الحياة الدنيا . فما هو عمر الحياة الدنيا إلى جانب تلك الآباد المجهولة المدى ?
ونلحظ في التعبير الإيناس الإلهي للرسول : ( فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ) . . كأنه هو [ صلى الله عليه وسلم ] صاحب الأمر ، وصاحب الإذن ، وكأنه هو الذي يأذن بإمهالهم . أو يوافق على إمهالهم . وليس من هذا كله شيء للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إنما هو الإيناس والود في هذا الموضع الذي تنسم نسائم الرحمة على قلبه [ صلى الله عليه وسلم ] الإيناس الذي يخلط بين رغبة نفسه وإرادة ربه . ويشركه في الأمر كأن له فيه شيئا . ويرفع الفوارق والحواجز بينه وبين الساحة الإلهية التي يقضى فيها الأمر ويبرم . . وكأنما يقول له ربه : إنك مأذون فيهم . ولكن أمهلهم . أمهلهم رويدا . . فهو الود العطوف والإيناس اللطيف . يمسح على الكرب والشدة والعناء والكيد ، فتنمحي كلها وتذوب . . ويبقى العطف الودود . .
ثم قال : { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ } أي : أنظرهم ولا تستعجل لهم ، { أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } أي : قليلا . أي : وترى ماذا أحل بهم من العذاب والنكال والعقوبة والهلاك ، كما قال : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] .
آخر تفسير سورة " الطارق " ولله الحمد{[29956]} .
وقوله : فَمَهّلِ الْكافِرِينَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فمهّل يا محمد الكافرين ولا تعجلْ عليهم أمْهِلْهُمْ رُوَيْدا يقول : أمهلهم آنا قليلاً ، وأنظرهم للموعد الذي هو وقت حلول النقمة بهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدا يقول : قريبا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدا الرويد : القليل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَمَهّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدا قال : مَهّلهم ، فلا تعجل عليهم تَرْكَهُمْ ، حتى لما أراد الانتصار منهم ، أمره بجهادهم وقتالهم ، والغلظة عليهم .
ثم ظهر من قوله تعالى : { فمهل الكافرين } أن عقابه لهم الذي سماه : { كيداً } ، متأخر حتى ظهر ببدر وغيره ، وقرأ جمهور الناس : «أمهلهم » ، وقرأ ابن عباس : «مهلهم » ، وفي هذه الآية موادعة نسختها آية السيف ، وقوله تعالى : { رويداً } معناه : قليلاً ، قاله قتادة ، وهذه حال هذه اللفظة إذا تقدمها شيء تصفه كقولك سر رويداً وتقدمها فعل يعمل فيها كهذه الآية ، وأما إذا ابتدأت بها فقلت : رويداً يا فلان ، فهي بمعنى الأمر بالتماهل يجري مجرى قولهم : صبراً يا زيد ، وقليلاً يا عمرو{[11742]} .
الفاء لتفريع الأمر بالإِمهال على مجموع الكلام السابق من قوله : { إنه لقول فصل } [ الطارق : 13 ] بما فيه من تصريح وتعريض وتبْيين ووعدٍ بالنصر ، أي فلا تستعجل لهم بطلب إنزال العقاب فإنه واقع بهم لا محالة . g
والتمهيل : مصدر مَهَّل بمعنى أمهل ، وهو الإِنظار إلى وقت معيّن أو غير معين ، فالجمع بين « مَهِّل » و { أمهلهم } تكرير للتأكيد لقصد زيادة التسكين ، وخولف بين الفعلين في التعدية مرة بالتضعيف وأخرى بالهمز لتحسين التكرير .
والمراد ب { الكافرين } ما عاد عليه ضمير { إنهم يكيدون } [ الطارق : 15 ] فهو إظهار في مقام الإِضمار للنداء عليهم بمذمة الكفر ، فليس المراد جميع الكافرين بل أريد الكافرون المعهودون .
و { رويداً } تصغير رُود بضم الراء بعدها واو ، ولعله اسم مصدر ، وأما قياس مصدره فهو رَود بفتح الراء وسكون الواو ، وهو المَهْل وعدم العجلة وهو مصدر مؤكد لفعل { أمهلهم } فقد أكد قوله : { فمهل الكافرين } مرتين .
والمعنى : انتظر ما سيحلّ بهم ولا تستعجل لهم انتظار تربص واتّياد فيكون { رويداً } كناية عن تحقق ما يحلّ بهم من العقاب لأن المطمئن لحصول شيء لا يستعجل به .
وتصغيره للدلالة على التقليل ، أي مُهلة غير طويلة .
ويجوز أن يكون { رويداً } هنا اسم فعل للأمر ، كما في قولهم : رُويدك ، لأن اقترانه بكاف الخطاب إذا أريد به اسم الفعل ليس شَرطاً ، ويكون الوقف على قوله : { الكافرين } و { رويداً } كلاماً مستقلاً ، فليس وجود فعل من معناه قبله بدليل على أنه مراد به المصدر ، أي تصبر وَلا تستعجل نزول العذاب بهم فيكون كناية عن الوعد بأنه واقع لا محالة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.