ثم أمر - سبحانه - بالصبر أمرا صريحا ، بعد أن بين حسن عاقبته فقال : { واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله . . . } .
أي : واصبر - أيها الرسول الكريم - على أذى قومك ، وما صبرك في حال من الأحوال بمؤت ثماره المرجوة منه إلا بتوفيق الله - تعالى - لك ، وبتثبيته إياك ، وما دام الأمر كذلك فالجأ إليه وحده ، واستعن به - سبحانه - في كل أمورك ، فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال .
ثم نهاه - سبحانه - عن الحزن بسبب كفر الكافرين ، فإن الهداية والإِضلال بقدرة الله وحده فقال - تعالى - : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } .
أي : ولا تحزن بسبب كفر الكافرين ، وإصرارهم على ذلك ، وإعراضهم عن دعوتك ، ولا يضق صدرك بمكرهم ، فإن الله - تعالى - ناصرك عليهم ، ومنجيك من شرورهم .
( واصبر وما صبرك إلا بالله ) . . فهو الذي يعين على الصبر وضبط النفس ، والاتجاه إليه هو الذي يطامن من الرغبة الفطرية في رد الاعتداء بمثله والقصاص له بقدره .
ويوصي القرآن الرسول [ ص ] وهي وصية لكل داعية من بعده ، ألا يأخذه الحزن إذا
رأى الناس لا يهتدون ، فإنما عليه واجبه يؤديه ، والهدى والضلال بيد الله ، وفق سنته في فطرة النفوس واستعداداتها واتجاهاتها ومجاهدتها للهدى أو للضلال . وألا يضيق صدره بمكرهم فإنما هو داعية لله ، فالله حافظه من المكر والكيد ، لا يدعه للماكرين الكائدين وهو مخلص في دعوته لا يبتغي من ورائها شيئا لنفسه .
وقوله : { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ } ، تأكيد للأمر بالصبر ، وإخبار بأن ذلك إنما ينال بمشيئة الله وإعانته ، وحوله وقوته .
ثم قال تعالى : { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } ، أي : على من خالفك ، لا تحزن عليهم ؛ فإن الله قدر ذلك ، { وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ } ، أي : غم ، { مِمَّا يَمْكُرُونَ } ، أي : مما يجهدون [ أنفسهم ]{[16767]} في عداوتك وإيصال الشر إليك ، فإن الله كافيك وناصرك ، ومؤيدك ، ومظهرك ومظفرك بهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } ( 127 )
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واصبر يا محمد على ما أصابك من أذى في الله . ( وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ ) يقول : وما صبرك إن صبرت إلا بمعونة الله ، وتوفيقه إياك لذلك ، ( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ، يقول : ولا تحزن على هؤلاء المشركين الذين يكذّبونك وينكرون ما جئتهم به في آن ولوا عنك وأعرضوا عما أتيتهم به من النصيحة ، ( وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) ، يقول : ولا يضق صدرك بما يقولون من الجهل ، ونسبتهم ما جئتهم به إلى أنه سحر أو شعر أو كهانة ، مما يمكرون : مما يحتالون بالخدع في الصّد عن سبيل الله ، من أراد الإيمان بك ، والتصديق بما أنزل الله إليك .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء العراق : ( وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ ) ، بفتح الضَّاد في الضيق على المعنى الذي وصفت من تأويله . وقرأه بعض قرّاء أهل المدينة : ( وَلا تَكُ فِي ضِيقٍ ) ، بكسر الضاد .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه : " في ضَيْقٍ " ، بفتح الضاد ؛ لأن الله تعالى إنما نهى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يَضيق صدره مما يلقى من أذى المشركين على تبليغه إياهم وحي الله وتنزيله ، فقال له : { فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ } ، وقال : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ } ، وإذ كان ذلك هو الذي نهاه تعالى ذكره ، ففتح الضاد هو الكلام المعروف من كلام العرب في ذلك المعنى ، تقول العرب : في صدري من هذا الأمر ضيق ، وإنما تكسر الضاد في الشيء المعاش ، وضيق المسكن ، ونحو ذلك ؛ فإن وقع الضَّيق بفتح الضاد في موضع الضِّيق بالكسر . كان على الذي يتسع أحيانا ، ويضيق من قلة أحد وجهين ، إما على جمع الضيقة ، كما قال أعشى بني ثعلبة :
فَلَئِنْ رَبُّكَ مِنْ رَحْمَتِهِ *** كَشَف الضَّيْقَةَ عَنَّا وَفسَحْ
والآخر على تخفيف الشيء الضَّيِّق ، كما يخفف الهيِّن اللَّيِّن ، فيقال : هو هَيْن لَيْن .
ثم صرح بالأمر به لرسوله ؛ لأنه أولى الناس به لزيادة علمه بالله ووثوقه عليه فقال : { واصبر وما صبرك إلا بالله } ، إلا بتوفيقه وتثبيته . { ولا تحزن عليهم } ، على الكافرين أو على المؤمنين وما فعل بهم . { ولا تك في ضيق مما يمكرون } ، في ضيق صدر من مكرهم ، وقرأ ابن كثير في : { ضيق } ، بالكسر هنا وفي " النمل " ، وهما لغتان كالقول والقيل ، ويجوز أن يكون الضيق تخفيف ضيق .
وقوله : { واصبر وما صبرك إلا بالله } الآية ، هذه العزيمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبر عن المجازاة في التمثيل بالقتلى ، قال ابن زيد : هذه الآية منسوخة بالقتال وجمهور الناس على أنها محكمة ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : «أما أنا فأصبر كما أمرت فماذا تصنعون ؟ » ، قالوا : نصبر يا رسول الله كما ندبنا{[7454]} ، وقوله : { وما صبرك إلا بالله } ، أي : بمعونة الله وتأييده لك على ذلك ، والضمير في قوله : { عليهم } ، قيل : يعود على الكفار ، أي : لا تتأسف على أن لم يسلموا ، وقالت فرقة : بل يعود على القتلى : حمزة وأصحابه الذين حزن عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأول أصوب يكون عود الضمير على جهة واحدة ، وقرأ الجمهور في «ضَيْق » بفتح الضاد ، وقرأ ابن كثير في «ضِيق » بكسر الضاد ورويت عن نافع وهو غلط ممن رواه ، قال بعض اللغويين : الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر وقال أبو عبيدة : الضِيق مصدر ، والضَّيْق مخفف من ضيِّق كميْت وميت ، وهيْن وهيِّن ، قال أبو علي الفارسي : والصواب أن يكون الضيْق لغة في المصدر ؛ لأنه إن كان مخففاً من ضيِّق لزم أن تقام الصفة مقام الموصوف ، وليس هذا موضع ذلك .
قال القاضي أبو محمد : الصفة إنما تقوم مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف من نفس الصفة ، كما تقول رأيت ضاحكاً فإنما تخصص الإنسان ، ولو قلت : رأيت بارداً لم تحسن ، وببارد مثل سيبويه رحمه الله «وضيق » لا يخصص الموصوف ، وقال ابن عباس وابن زيد : إن ما في هذه الآية من الأمر بالصبر منسوخ .