نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ} (127)

ولما كان التقدير : فاصبروا ، عطف عليه إفراداً له صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالأمر ، إجلالاً له وتسلية فيما كان سبب نزول الآية من التمثيل بعمه حمزه رضي الله عنه ، وتنويهاً بعظم مقام الصبر زيادة في حث الأمة ؛ لأن أمر الرئيس أدعى لامتثال أتباعه ، فقال تعالى : { واصبر } ، ثم أتبع ذلك بما يحث على دوام الالتجاء إليه المنتج للمراقبة والفناء عن الأغيار ثم الفناء عن الفناء ، لئلا يتوهم أن لأحد فعلاً مستقلاً فقال تعالى : { وما صبرك } ، أي : أيها الرسول الأعظم ! { إلا بالله } ، أي : الملك الأعظم الذي شرع لك هذا الشرع الأقوم وأنت قائم في نصره ، ولقد قابل هذا الأمر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأعلى مقامات الصبر ، وذلك أنهم مثلوا بقتلى المسلمين في غزوة أحد إلا حنظلة الغسيل رضي الله عنه فإن أباه كان معهم فتركوه له ، فلما وقف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على عمه حمزة رضي الله عنه فوجدهم قد جدعوا أنفه وقطعوا أذنيه وجبوا مذاكيره وبقروا بطنه ، نظر إلى شيء لم ينظر قط إلى أوجع لقلبه منه فقال :

" رحمة الله عليك ، فإنك كنت فعالاً للخير وصولاً للرحم ، ولولا أن تحزن صفية لسرني أن أدعك حتى تحشر من أجواف شتى ، أما والله ! لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم " ، وقال الصحابة رضي الله عنهم : لنزيدن على صنيعهم ، فلما نزلت الآية بادر صلى الله عليه وعلى آله وسلم الامتثال ، وكان لا يخطب خطبة إلا نهى عن المثلة ، وأحسن يوم الفتح بأن نهى عن قتالهم وأعتقهم بعد أن صاروا في قبضته - صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم دائماً أبداً .

ولما كان - بعد توطين النفس على الصبر وتفريغ القلب من الأحنة - يرجع إلى الأسف على إهلاكهم أنفسهم بتماديهم على العتو على الله تعالى ، قال سبحانه : { ولا تحزن عليهم } ، أي : في شدة كفرهم فتبالغ في الحرص الباخع للنفس .

ولما كان سبحانه في مقام التبشير ، بالمحل الكبير والموطن الخطير ، الذي ما حازه قبل نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشير ولا نذير ، وذلك هو الإسراء إلى الملكوت الأعلى ، والمقام الأسمى من السماوات العلى ، في حضرات القدس ، ومحال الأنس ، ووطأ لذلك في سورة النعم بمقامات الكرم إلى أن قارب الوصول إليه ، أوجز في العبارة بحذف حرف مستغنى عنه دلالة عليه فقال : { ولا تك } ، بحذف النون أشارة إلى ضيق الحالة عن أدنى إطالة :

وأبرح ما يكون الشوق يوماً *** إذا دنت الديار من الديار

وهذا بخلاف ما يأتي في سورة النمل إن شاء الله تعالى : { في ضيق } ولو قل - كما لوح إليه تنوين التحقير بما يشير إليه حذف النون ، فإن أذى الكفار الذي السياق للتسلية عنه لا يضرك في المقصود الذي بعثت لأجله ، وهو إظهار الدين وقمع المفسدين بوجه من الوجوه ، { مما يمكرون * } ، أي : من استمرار مكرهم بك ، { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } ، وكأنك به ، وقد أتى فاصبر فإن الله تعالى معزك ومظهر دينك وإن كرهوا ؛