مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ} (127)

المرتبة الثالثة : وهو ورود الأمر بالجزم بالترك وهو قوله : { واصبر } لأنه في المرتبة الثانية ذكر أن الترك خير وأولى ، وفي هذه المرتبة الثالثة صرح بالأمر بالصبر ، ولما كان الصبر في هذا المقام شاقا شديدا ذكر بعده ما يفيد سهولته فقال : { وما صبرك إلا بالله } أي بتوفيقه ومعونته وهذا هو السبب الكلي الأصلي المفيد في حصول الصبر وفي حصول جميع أنواع الطاعات . ولما ذكر هذا السبب الكلي الأصلي ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب فقال : { ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون } وذلك لأن إقدام الإنسان على الانتقام ، وعلى إنزال الضرر بالغير ، لا يكون إلا عند هيجان الغضب ، وشدة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين : أحدهما : فوات نفع كان حاصلا في الماضي وإليه الإشارة بقوله : { ولا تحزن عليهم } قيل معناه : ولا تحزن على قتلى أحد ، ومعناه لا تحزن بسبب فوت أولئك الأصدقاء . ويرجع حاصله إلى فوت النفع . والسبب الثاني : لشدة الغضب توقع ضرر في المستقبل ، وإليه الإشارة بقوله : { ولا تك في ضيق مما يمكرون } ومن وقف على هذه اللطائف عرف أنه لا يمكن كلام أدخل في الحسن والضبط من هذا الكلام ، بقي في لفظ الآية مباحث :

البحث الأول : قرأ ابن كثير : { ولا تك في ضيق } بكسر الضاد ، وفي النمل مثله ، والباقون : بفتح الضاد في الحرفين . أما الوجه في القراءة المشهورة فأمور : قال أبو عبيدة : الضيق بالكسر في قلة المعاش والمساكن ، وما كان في القلب فإنه الضيق . وقال أبو عمرو : الضيق بالكسر الشدة والضيق بفتح الضاد الغم . وقال القتيبي : ضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين . وبهذا الطريق قلنا : إنه تصح قراءة ابن كثير .

البحث الثاني : قرئ { ولا تكن في ضيق } .

البحث الثالث : هذا من الكلام المقلوب ، لأن الضيق صفة ، والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون الموصوف حاصلا في الصفة ، فكان المعنى فلا يكون الضيق فيك ، إلا أن الفائدة في قوله : { ولا تك في ضيق } هو أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب وصار كالقميص المحيط به ، فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى والله أعلم .