إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ} (127)

ثم أُمر عليه الصلاة والسلام صريحاً بما ندَب إليه غيرَه تعريضاً من الصبر ؛ لأنه أولى الناس بعزائم الأمورِ لزيادة علمِه بشؤونه سبحانه ووفورِ وثوقِه به فقيل : { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } . { واصبر } ، أي : على ما أصابك من جهتهم من فنون الآلامِ والأَذية وعاينتَ من إعراضهم عن الحق بالكلية ، { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } ، استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأشياء ، أي : وما صبرُك ملابساً ومصحوباً بشيء من الأشياء إلا بالله ، أي : بذكره والاستغراقِ في مراقبة شؤونه والتبتّلِ إليه بمجامع الهِمّة ، وفيه من تسليته عليه الصلاة والسلام ، وتهوينِ مشاقِّ الصبرِ عليه وتشريفِه ما لا مزيدَ عليه . أو إلا بمشيئته المبنيّةِ على حِكَمٍ بالغة مستتبِعةٍ لعواقبَ حميدةٍ ، فالتسليةُ من حيث اشتمالُه على غايات جميلة ، وقيل : إلا بتوفيقه ومعونتِه ، فهي من حيث تسهيلُه وتيسيرُه فقط ، { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } ، أي : على الكافرين بوقوع اليأسِ من إيمانهم بك ومتابعتِهم لك نحو : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين } ، وقيل : على المؤمنين وما فُعل بهم ، والأولُ هو الأنسب بجزالة النظمِ الكريم ، { وَلاَ تَكُ في ضَيْقٍ } ، بالفتح ، وقرئ بالكسر وهما لغتان كالقَوْل والقيل ، أي : لا تكن في ضيق صدرٍ وحرَج ، ويجوز أن يكون الأولُ تخفيفَ ضيِّق ، كهيْن من هيِّن ، أي : في أمر ضيِّقٍ ، { مّمَّا يَمْكُرُونَ } ، أي : من مكرهم بك فيما يُستقبل ، فالأولُ نهيٌ عن التألم بمطلوبٍ مِنْ قبلَهم فاتَ ، والثاني عن التألم بمحذور من جهتهم آتٍ ، والنهيُ عنهما مع أن انتفاءَهما من لوازم الصبرِ المأمورِ به لاسيما على الوجه الأولِ لزيادة التأكيدِ وإظهارِ كمالِ العنايةِ بشأن التسليةِ ، وإلا فهل يخطُر ببال من توجّه إلى الله سبحانه بشراشرِ نفسِه متنزهاً عن كل ما سواه من الشواغل شيءٌ من مطلوب فينهى عن الحزن بفواته أو محذورٍ ، فكيف عن الخوف من وقوعه .