التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين بطاعته وتقواه ، وحضهم على الجهاد في سبيله إذ هو من أجل مظاهرها ، وبصرهم بحكمته وآدابه فقال - تعالى - :

{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ . . . }

قال ابن كثير : قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أسن عن أبي العالية في قوله - تعالى - { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } قال : هذا أول آية نزلت في القتال بالمدينة فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قالته وكيف عمن كف عنه حتى نزلت سورة براءة .

ويرى بعض العلماء أن هذه الآيات قد وردت في الأذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرام إذا فوجئوا بالقتال بغياً وعدواناً . فهي متصلة بما قبلها أتم الاتصال ، لأن الآية السابقة بينت أن الأهلة مواقيت للناس في عباداتهم ومعاملاتهم عامة وفي الحج خاصة وهو في أشهر هلالية مخصوصة كان القتال فيها محرماً في الجاهلية . فقد أخرج الواحدي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلة في صلح الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صده المشركون عن البيت الحرام - ثم صالحوه فرضى على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا ألا تفى لهم قريش ، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام فأنزل الله - تعالى الآيات .

والقتال والمقاتلة : محاولة الرجل قتل من يحاول قتله ، والتقاتل محاولة كل واحد من المتعاديين قتل الآخر .

قال أبو حيان : وقوله : { فِي سَبِيلِ الله } السبيل هو الطريق . واستعير لدين الله وشرائعه لأن المتبع لذلك يصل به إلى بغيته الدينية والدنيوية ، فشبه بالطريق الموصل الإِنسان إلى ما يقصده ، وهذا من استعارة الأجرام للمعاني ويتعلق { فِي سَبِيلِ الله } بقوله : { وَقَاتِلُواْ } وهو ظرف مجازي ، لأنه لما وقع القتال بسبب نصرة الدين صار كأنه وقع فيه ، وو على حذف مضاف والتقدير في نصرة دين الله .

والمراد بالقتال في سبيل الله : الجهاد من أجل إعلاء كلمته حتى يكون أهل دينه الحق أعزاء لا يسومهم أعداؤه ضيماً ، وأحراراً في الدعوة إليه وإقامة شرائعه العادلة في ظل سلطان مهيب .

أي : قاتلوا أيها المؤمنون لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه أعداءكم الذين أعدوا أنفسهم لقتالكم ومناجزتكم وتحققتم منهم سوء النية ، وفساد الطوية .

فالآية الكريمة تهييج للمؤمنين وإغراء لهم على قتال أعدائهم بدون تردد أو تهيب ، وإرشاد لهم إلى أن يجعلوا جهادهم من أجل نصرة الحق ، لا من أجل المطامع أو الشهوات .

فقد روى الشيخان أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي موسى - رضي الله عنه - " أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم ، والرجل يقاتل ليذكر ، والرجل يقاتل ليرى مكانه - أي : ليتحدث الناس بشجاعته وليظهر بينهم - أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " .

والأحاديث في الدعوة إلى أن يكون الجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمته كثيرة متعددة . وقوله { وَلاَ تعتدوا } نهى عن الاعتداء بشتى صورة ويدخل فيه دخولا أولياء الاعتداء في القتال .

والاعتداء : مجازة الحد فيما أمر الله به أو نهى عنه .

أي : قاتلوا في سبيل الله من يناصبكم القتال من المخالفين ، ولا تتجاوزوا في قتالهم إلى من ليس شأنهم قتالكم ، كنسائهم ، وصبيانهم ورهبانهم ، وشيوخهم الطاعنين في السن إلى حد الهرم ، ويلحق بهؤلاء المريض والمقعد والأعمى والمجنون . وقد وردت في النهي عن قتل هؤلاء الأحاديث النبوية ووصايا الخلفاء الراشدين لقواد جيوشهم ، فهؤلاء يتجنب قتالهم إلا من قامت الشواهد على أن له أثراً من رأى أو عمل في الحرب ، يؤازر به المحارين لينتصروا على المجاهدين .

قال ابن كثير : ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " أغزوا في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، أغزوا ولا تغلو ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع " وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وُجِدَتْ امرأة في بعض المغازي مقتولة فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان .

وقوله : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } كالتعليل لما قبله في النهي عن مجاوزة ما حده الله - تعالى - في قتال المخالفين .

ومحبة الله لعباده : صفة من صفاته - تعالى - من أثرها الرعاية والإِنعام . وإذا نفى الله - تعالى - محبته لطائفة من الناس فهو كناية عن بغضه لهم ، واستحقاقهم لعقوبته .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

189

بعد ذلك يجيء بيان عن القتال بصفة عامة ، وعن القتال عند المسجد الحرام وفي الأشهر الحرم بصفة خاصة ، كما تجيء الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله ، وهي مرتبطة بالجهاد كل الارتباط :

( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين ، واقتلوهم حيث ثقفتموهم ، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم . والفتنة أشد من القتل . ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ، فإن قاتلوكم فاقتلوهم ، كذلك جزاء الكافرين . فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم . وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ؛ فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين . الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص . فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين . وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) . .

ورد في بعض الروايات أن هذه الآيات هي أول ما نزل في القتال . نزل قبلها الإذن من الله للمؤمنين الذين يقاتلهم الكفار بأنهم ظلموا . وأحس المؤمنون بأن هذا الإذن هو مقدمة لفرض الجهاد عليهم ، وللتمكين لهم في الأرض ، كما وعدهم الله في آيات سورة الحج : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير . الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا . ولينصرن الله من ينصره ، إن الله لقوي عزيز ، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور ) . .

ومن ثم كانوا يعرفون لم أذن لهم بأنهم ظلموا ، وأعطيت لهم إشارة الانتصاف من هذا الظلم ، بعد أن كانوا مكفوفين عن دفعه وهم في مكة ، وقيل لهم : ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) . . وكان هذا الكف لحكمة قدرها الله . . نستطيع أن نحدس بعض أسبابها على سبيل التقدير البشري الذي لا يحصى ولا يستقصى .

وأول ما نراه من أسباب هذا الكف ، أنه كان يراد أولا تطويع نفوس المؤمنين من العرب للصبر امتثالا للأمر ، وخضوعا للقيادة ، وانتظارا للإذن . وقد كانوا في الجاهلية شديدي الحماسة ، يستجيبون لأول ناعق ، ولا يصبرون على الضيم . . وبناء الأمة المسلمة التي تنهض بالدور العظيم الذي نيطت به هذه الأمة يقتضي ضبط هذه الصفات النفسية ، وتطويعها لقيادة تقدر وتدبر ، وتطاع فيما تقدر وتدبر ، حتى لو كانت هذه الطاعة على حساب الأعصاب التي تعودت الاندفاع والحماسة والخفة للهيجاء عند أول داع . . ومن ثم استطاع رجال من طراز عمر بن الخطاب في حميته ، وحمزة بن عبد المطلب في فتوته ، وأمثالهما من أشداء المؤمنين الأوائل أن يصبروا للضيم يصيب الفئة المسلمة ؛ وأن يربطوا على أعصابهم في انتظار أمر رسول الله [ ص ] وأن يخضعوا لأمر القيادة العليا وهي تقول لهم : ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) . . ومن ثم وقع التوازن بين الاندفاع والتروي ، والحماسة والتدبر ، والحمية والطاعة . . في هذه النفوس التي كانت تعد لأمر عظيم . .

والأمر الثاني الذي يلوح لنا من وراء الكف عن القتال في مكة . . هو أن البيئة العربية ، كانت بيئة نخوة ونجدة . وقد كان صبر المسلمين على الأذى ، وفيهم من يملك رد الصاع صاعين ، مما يثير النخوة ويحرك القلوب نحو الإسلام ؛ وقد حدث بالفعل عندما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم في شعب أبي طالب ، كي يتخلوا عن حماية الرسول [ ص ] أنه عندما اشتد الاضطهاد لبني هاشم ، ثارت نفوس نجدة ونخوة ، ومزقت الصحيفة التي تعاهدوا فيها على المقاطعة . وانتهى هذا الحصار تحت تأثير هذا الشعور الذي كانت القيادة الإسلامية في مكة تراعيه في خطة الكف عن المقاومة ، فيما يبدو لنا من خلال دراسة السيرة كحركة .

ومما يتعلق بهذا الجانب أن القيادة الإسلامية لم تشأ أن تثير حربا دموية داخل البيوت . فقد كان المسلمون حينذاك فروعا من البيوت . وكانت هذه البيوت هي التي تؤذي أبناءها وتفتنهم عن دينهم ؛ ولم تكن هناك سلطة موحدة هي التي تتولى الإيذاء العام . ولو أذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يومذاك ، لكان معنى هذا الإذن أن تقوم معركة في كل بيت ، وأن يقع دم في كل أسرة . . مما كان يجعل الإسلام - في نظر البيئة العربية - يبدو دعوة تفتت البيوت ، وتشعل النار فيها من داخلها . . فأما بعد الهجرة فقد انعزلت الجماعة المسلمة كوحدة مستقلة ، تواجه سلطة أخرى في مكة ، تجند الجيوش وتقود الحملات ضدها . . وهذا وضع متغير عما كان عليه الوضع الفردي في مكة ، بالنسبة لكل مسلم في داخل أسرته .

هذه بعض الأسباب التي تلوح للنظرة البشرية من وراء الحكمة في كف المسلمين في مكة عن دفع الفتنة والأذى . وقد يضاف إليها أن المسلمين إذ ذاك كانوا قلة ، وهم محصورون في مكة ، وقد يأتي القتل عليهم لو تعرضوا لقتال المشركين ، في صورة جماعة ذات قيادة حربية ظاهرة . فشاء الله أن يكثروا ، وأن يتحيزوا في قاعدة آمنة ، ثم أذن لهم بعد هذا في القتال . .

وعلى أية حال فقد سارت أحكام القتال بعد ذلك متدرجة وفق مقتضيات الحركة الإسلامية في الجزيرة [ ثم خارج الجزيرة ] . وهذه الآيات المبكرة في النزول قد تضمنت بعض الأحكام الموافقة لمقتضيات الموقف في بدء المناجزة بين المعسكرين الأساسيين . معسكر الإسلام ومعسكر الشرك . وهي في الوقت ذاته تمثل بعض الأحكام الثابتة في القتال بوجه عام ، ولم تعدل من ناحية المبدأ إلا تعديلا يسيرا في سورة براءة .

ولعله يحسن أن نقول كلمة مجملة عن الجهاد في الإسلام ، تصلح أساسا لتفسير آيات القتال هنا ، وفي المواضع القرآنية الأخرى ، قبل مواجهة النصوص القرآنية في هذا الموضع بصفة خاصة :

لقد جاءت هذه العقيدة في صورتها الأخيرة التي جاء بها الإسلام ؛ لتكون قاعدة للحياة البشرية في الأرض من بعدها ، ولتكون منهجا عاما للبشرية جميعها ؛ ولتقوم الأمة المسلمة بقيادة البشرية في طريق الله وفق هذا المنهج ، المنبثق من التصور الكامل الشامل لغاية الوجود كله ولغاية الوجود الإنساني ، كما أوضحهما القرآن الكريم ، المنزل من عند الله . قيادتها إلى هذا الخير الذي لا خير غيره في مناهج الجاهلية جميعا ، ورفعها إلى هذا المستوى الذي لا تبلغه إلا في ظل هذا المنهج ، وتمتيعها بهذه النعمة التي لا تعدلها نعمة ، والتي تفقد البشرية كل نجاح وكل فلاح حين تحرم منها ، ولا يعتدي عليها معتد بأكثر من حرمانها من هذا الخير ، والحيلولة بينها وبين ما أراده لها خالقها من الرفعة والنظافة والسعادة والكمال .

ومن ثم كان من حق البشرية أن تبلغ إليها الدعوة إلى هذا المنهج الإلهي الشامل ، وألا تقف عقبة أو سلطة في وجه التبليغ بأي حال من الأحوال .

ثم كان من حق البشرية كذلك أن يترك الناس بعد وصول الدعوة إليهم أحرارا في اعتناق هذا الدين ؛ لا تصدهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة . فإذا أبى فريق منهم أن يعتنقه بعد البيان ، لم يكن له أن يصد الدعوة عن المضي في طريقها . وكان عليه أن يعطي من العهود ما يكفل لها الحرية والاطمئنان ؛ وما يضمن للجماعة المسلمة المضي في طريق التبليغ بلا عدوان . .

فإذا اعتنقها من هداهم الله إليها كان من حقهم ألا يفتنوا عنها بأي وسيلة من وسائل الفتنة . لا بالأذى ولا بالإغراء . ولا بإقامة أوضاع من شأنها صد الناس عن الهدى وتعويقهم عن الاستجابة . وكان من واجب الجماعة المسلمة أن تدفع عنهم بالقوة من يتعرض لهم بالأذى والفتنة . ضمانا لحرية العقيدة ، وكفالة لأمن الذين هداهم الله ، وإقرارا لمنهج الله في الحياة ، وحماية للبشرية من الحرمان من ذلك الخير العام .

وينشأ عن تلك الحقوق الثلاثة واجب آخر على الجماعة المسلمة ؛ وهو أن تحطم كل قوة تعترض طريق الدعوة وإبلاغها للناس في حرية ، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة وتفتن الناس عنها . وأن تظل تجاهد حتى تصبح الفتنة للمؤمنين بالله غير ممكنة لقوة في الأرض ، ويكون الدين لله . . لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان . ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض ، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول ؛ ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يبلغه ، وأن يستجيب له ، وأن يبقى عليه . وبحيث لا يكون في الأرض وضع أو نظام يحجب نور الله وهداه عن أهله ويضلهم عن سبيل الله . بأية وسيلة وبأية أداة .

وفي حدود هذه المباديء العامة كان الجهاد في الإسلام .

وكان لهذه الأهداف العليا وحدها ، غير متلبسة بأي هدف آخر ، ولا بأي شارة أخرى .

إنه الجهاد للعقيدة . لحمايتها من الحصار ؛ وحمايتها من الفتنة ؛ وحماية منهجها وشريعتها في الحياة ؛ وإقرار رايتها في الأرض بحيث يرهبها من يهم بالاعتداء عليها قبل الاعتداء ؛ وبحيث يلجأ إليها كل راغب فيها لا يخشى قوة أخرى في الأرض تتعرض له أو تمنعه أو تفتنه .

وهذا هو الجهاد الوحيد الذي يأمر به الإسلام ، ويقره ويثيب عليه ؛ ويعتبر الذين يقتلون فيه شهداء ؛ والذين يحتملون أعباءه أولياء .

وهذه الآيات من سورة البقرة في هذا الدرس كانت تواجه وضع الجماعة المسلمة في المدينة مع مشركي قريش الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم ، وآذوهم في دينهم ، وفتنوهم في عقيدتهم ، وهي - مع هذا - تمثل قاعدة أحكام الجهاد في الإسلام :

وتبدأ الآيات بأمر المسلمين بقتال هؤلاء الذين قاتلوهم وما يزالون يقاتلونهم ، وبقتال من يقاتلهم في أي وقت وفي أي مكان ، ولكن دون اعتداء :

( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين )

وفي أول آية من آيات القتال نجد التحديد الحاسم لهدف القتال ، والراية التي تخاض تحتها المعركة في وضوح وجلاء :

( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) . .

إنه القتال لله ، لا لأي هدف آخر من الأهداف التي عرفتها البشرية في حروبها الطويلة . القتال في سبيل الله . لا في سبيل الأمجاد والاستعلاء في الأرض ، ولا في سبيل المغانم والمكاسب ؛ ولا في سبيل الأسواق والخامات ؛ ولا في سبيل تسويد طبقة على طبقة أو جنس على جنس . . إنما هو القتال لتلك الأهداف المحددة التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام ، القتال لإعلاء كلمة الله في الأرض ، وإقرار منهجه في الحياة ، وحماية المؤمنين به أن يفتنوا عن دينهم ، أو أن يجرفهم الضلال والفساد ، وما عدا هذه فهي حرب غير مشروعة في حكم الإسلام ، وليس لمن يخوضها أجر عند الله ولا مقام .

ومع تحديد الهدف ، تحديد المدى :

( ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) . .

والعدوان يكون بتجاوز المحاربين المعتدين إلى غير المحاربين من الآمنين المسالمين الذين لا يشكلون خطرا على الدعوة الإسلامية ولا على الجماعة المسلمة ، كالنساء والأطفال والشيوخ والعباد المنقطعين للعبادة من أهل كل ملة ودين . . كما يكون بتجاوز آداب القتال التي شرعها الإسلام ، ووضع بها حدا للشناعات التي عرفتها حروب الجاهليات الغابرة والحاضرة على السواء . . تلك الشناعات التي ينفر منها حس الإسلام ، وتأباها تقوى الإسلام .

وهذه طائفة من أحاديث الرسول [ ص ] ووصايا أصحابه ، تكشف عن طبيعة هذه الآداب ، التي عرفتها البشرية أول مرة على يد الإسلام :

عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : " وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله [ ص ] فنهى رسول الله [ ص ] عن قتل النساء والصبيان " . . [ أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي ] .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه " . . [ أخرجه الشيخان ] .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " بعثنا رسول الله [ ص ] فقال : " إن وجدتم فلانا وفلانا [ رجلين من قريش ] فأحرقوهما بالنار " . فلما أردنا الخروج قال : " كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا ، وإن النار لا يعذب بها إلا الله تعالى فإن وجدتموهما فاقتلوهما " . . [ أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي ] .

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " أعف الناس قتلة أهل الإيمان " . . [ أخرجه أبو داود ] .

وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول الله [ ص ] عن النهبى والمثلة " . . [ أخرجه البخاري ] .

وعن ابن يعلى قال : غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فأتى بأربعة أعلاج من العدو ، فأمر بهم فقتلوا صبرا بالنبل . فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - فقال : سمعت رسول الله [ ص ] ينهى عن قتل الصبر . فوالذي نفسي بيده ، لو كانت دجاجة ما صبرتها . فبلغ ذلك عبد الرحمن ، فأعتق أربع رقاب . . [ أخرجه أبو داود ] .

وعن الحارث بن مسلم بن الحارث عن أبيه - رضي الله عنه - قال : بعثنا رسول الله [ ص ] في سرية ؛ فلما بلغنا المغار استحثثت فرسي فسبقت أصحابي ؛ فتلقاني أهل الحي بالرنين . فقلت لهم : قولوا : لا إله إلا الله تحرزوا . فقالوها . فلامني أصحابي ، وقالوا : حرمتنا الغنيمة ! فلما قدمنا على رسول الله [ ص ] أخبروه بالذي صنعت . فدعاني فحسن لي ما صنعت . ثم قال لي : " إن الله تعالىقد كتب لك بكل إنسان منهم كذا وكذا من الأجر " . . [ أخرجه أبو داود ]

وعن بريدة قال : كان رسول الله [ ص ] إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ، وبمن معه من المسلمين خيرا . ثم قال له : " اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله . اغزوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا " . . [ أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي ] .

وروى مالك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال في وصيته لجنده : " ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له ، ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما " . .

فهذه هي الحرب التي يخوضها الإسلام ؛ وهذه هي آدابه فيها ؛ وهذه هي أهدافه منها . . وهي تنبثق من ذلك التوجيه القرآني الجليل :

( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين ) . .

وقد كان المسلمون يعلمون أنهم لا ينصرون بعددهم - فعددهم قليل - ولا ينصرون بعدتهم وعتادهم - فما معهم منه أقل مما مع أعدائهم - إنما هم ينصرون بإيمانهم وطاعتهم وعون الله لهم . فإذا هم تخلوا عن توجيه الله لهم وتوجيه رسول الله [ ص ] فقد تخلوا عن سبب النصر الوحيد الذي يرتكنون إليه . ومن ثم كانت تلك الآداب مرعية حتى مع أعدائهم الذين فتنوهم ومثلوا ببعضهم أشنع التمثيل . . ولما فار الغضب برسول الله [ ص ] فأمر بحرق فلان وفلان [ رجلين من قريش ] عاد فنهى عن حرقهما ، لأنه لا يحرق بالنار إلا الله .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } قال : هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله ، ويكف عَمَّن كف عنه حتى نزلت سورة براءة ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال : هذه منسوخة بقوله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وفي هذا نظر ؛ لأن قوله : { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } إنما هو تَهْييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله ، أي : كما يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم ، كما قال : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } [ التوبة : 36 ] ؛ ولهذا قال في هذه الآية : { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي : لتكن همتكم منبعثة على قتالهم ، كما أن همتهم منبعثة على قتالكم ، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها ، قصاصًا .

وقد حكى عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، أن أول آية نزلت في القتال بعد الهجرة ، { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } الآية [ الحج : 39 ] وهو الأشهر ، وبه ورد الحديث .

وقوله : { وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي : قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي - كما قاله الحسن البصري - من المَثُلة ، والغُلُول ، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم ، والرهبان وأصحاب الصوامع ، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة ، كما قال ذلك ابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم . ولهذا جاء في صحيح مسلم ، عن بُرَيدة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اغزوا في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تَغُلّوا ، ولا تَغْدروا ، ولا تُمَثِّلُوا ، ولا تقتلوا وليدًا ، ولا أصحاب الصوامع " . رواه الإمام أحمد{[3385]} .

وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَعَث جيوشه قال : " اخرجوا بسم الله ، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، لا تغدروا ولا تغلوا ، ولا تُمَثلوا ، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصّوامع " . رواه الإمام أحمد{[3386]} .

ولأبي داود ، عن أنس مرفوعًا ، نحوه{[3387]} . وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وجُدت امرأة في بعض مغازي النبيّ صلى الله عليه وسلم مقتولة ، فأنكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلَ النساء والصبيان{[3388]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا مُصعب بن سَلام ، حدثنا الأجلح ، عن قيس بن أبي مسلم ، عن رِبْعي ابن حِرَاش ، قال : سمعت حُذَيفة يقول : ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالا : واحدًا ، وثلاثة ، وخمسة ، وسبعة ، وتسعة ، وأحدَ عشَرَ ، فضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها مثلا وترك سائرَها ، قال : " إن قومًا كانوا أهلَ ضَعْف ومسكنة ، قاتلهم أهلُ تجبر وعداء ، فأظهر الله أهل الضعف عليهم ، فعمدوا إلى عَدُوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه " {[3389]} .

هذا حديث حَسَنُ الإسناد . ومعناه : أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء ، فاعتَدوا عليهم واستعملوهم فيما لا يليق بهم ، أسخطوا الله عليهم بسبب{[3390]} هذا الاعتداء . والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا .

ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتلُ الرجال ، نبَّه تعالى على أنّ ما هم مشتملون{[3391]} عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطَم من القتل ؛ ولهذا قال : { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } قال أبو مالك : أي : ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل .

وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والربيع ابن أنس في قوله : { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } يقول : الشرك أشد من القتل .

وقوله : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } كما جاء في الصحيحين : " إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، وإنها ساعتي هذه ، حَرَام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعْضَد شجره ، ولا يُخْتَلى خَلاه . فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم " {[3392]} .

يعني بذلك - صلوات الله وسلامه عليه - قتالَه أهلها يومَ فتح مكة ، فإنه فتحها عنوة ، وقتلت رجال منهم عند الخَنْدمَة ، وقيل : صلحًا ؛ لقوله : من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن .

[ وقد حكى القرطبي : أن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ . قال قتادة : نسخها قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . قال مقاتل بن حيان : نسخها قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وفي هذا نظر ]{[3393]} .

وقوله : { حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } يقول تعالى : لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يَبْدَؤوكم بالقتال فيه ، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصيال{[3394]} كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال ، لَمَّا تألبت عليه بطونُ قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ، ثم كف الله القتال بينهم فقال : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } [ الفتح : 24 ] ، ، وقال : { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الفتح : 25 ] .


[3385]:صحيح مسلم برقم (1731) والمسند (5/352).
[3386]:المسند (1/300).
[3387]:سنن أبي داود برقم (2614).
[3388]:صحيح البخاري برقم (3015) وصحيح مسلم برقم (1744).
[3389]:المسند (5/407).
[3390]:في جـ: "لسبب".
[3391]:في جـ: "مقيمون".
[3392]:صحيح البخاري برقم (1834) وصحيح مسلم برقم (1353) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[3393]:زيادة من جـ، أ.
[3394]:في أ: "للقتال".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ }

اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، فقال بعضهم : هذه الآية هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك . وقالوا : أمر فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين ، والكفّ عمن كفّ عنهم ، ثم نسخت ببراءة . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، وابن أبي جعفر ، عن أبي جعفر ، عن الربيع في قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ } قال : هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من يقاتله ويكفّ عمن كفّ عنه حتى نزلت براءة . ولم يذكر عبد الرحمن «المدينة » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ }إلى آخر الآية . قال : قد نسخ هذا ، وقرأ قول الله : { وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلَونَكُمْ كافّةً }وهذه الناسخة ، وقرأ : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } حتى بلغ : { فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدَتْمُوُهُمْ إلى : إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيم . }

وقال آخرون : بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره للمسلمين بقتال الكفار لم ينسخ ، وإنما الاعتداء الذي نهاهم الله عنه هو نهيه عن قتل النساء والذراري . قالوا : والنهي عن قتلهم ثابت حكمه اليوم . قالوا : فلا شيء نسخ من حكم هذه الآية . ذكر من قال ذلك :

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن صدقة الدمشقي ، عن يحيى بن يحيى الغساني ، قال : كتبت إلى عمر بن العزيز أسأله عن قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ }قال : فكتب إليّ أن ذلك في النساء والذرية ومن لم ينصب لك الحرب منهم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : { وَقاتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ } لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بقتال الكفار .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ } يقول : لا تقتلوا النساء ولا الصبيان ولا الشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكفّ يده ، فإن فعلتم هذا فقد اعتديتم .

حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عبد العزيز ، قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ بن أرطأة : إني وجدت آية في كتاب الله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ } أي لا تقاتل من لا يقاتلك ، يعني النساء والصبيان والرهبان .

وأولى هذين القولين بالصواب ، القول الذي قاله عمر بن عبد العزيز لأن دعوى المدعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة على صحة دعواه تحكم ، والتحكم لا يعجز عنه أحد .

وقد دللنا على معنى النسخ والمعنى الذي من قبله يثبت صحة النسخ بما قد أغنى عن إعادته في هذه الموضع .

فتأويل الآية إذا كان الأمر على ما وصفنا : وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله وسبيله : طريقه الذي أوضحه ودينه الذي شرعه لعباده . يقول لهم تعالى ذكره : قاتلوا في طاعتي ، وعلى ما شرعت لكم من ديني ، وادعوا إليه من ولَّى عنه ، واستكبر بالأيدي والألسن ، حتى ينيبوا إلى طاعتي ، أو يعطوكم الجزية صغارا إن كانوا أهل كتاب . وأمرهم تعالى ذكره بقتال من كان منه قتال من مقاتلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال من نسائهم وذراريهم ، فإنهم أموال وخول لهم إذا غلب المقاتلون منهم فقهروا ، فذلك معنى قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ }لأنه أباح الكفّ عمن كفّ ، فلم يقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب على إعطاء الجزية صَغارا .

فمعنى قوله : وَلا تَعْتَدُوا لا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابين والمجوس ، إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِين الذين يجاوزون حدوده ، فيستحلون ما حرّمه الله عليهم من قتل هؤلاء الذين حرم قتلهم من نساء المشركين وذراريهم .