أخرج ابن جرير عن قتادة قال : قوله - تعالى - : { والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ . . } هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم ، حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوأهم الله - تعالى - المدينة فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين . وعن ابن عباس : هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة ، بعد أن ظلمهم المشركون ، .
والذى نراه أن الآية الكريمة تشمل هؤلاء ، وتشمل غيرهم ممن هاجر من بلده إلى غيرها ، رجاء ثواب الله ، وخدمة لدينه .
والمهاجرة فى الأصل تطلق على المفارقة والمتاركة للديار وغيرها ، واستعملت شرعا فى المهاجرة من دار الكفر إلى دار الإِيمان ، أو من دار الكفر إلى غيرها لنشر دعوة الإِسلام .
وقوله { لنبوئنهم } من التبوؤ بمعنى الإِحلال والإِسكان والإِنزال يقال بوأ فلان فلانا منزلا ، إذا أسكنه فيه ، وهيأه له .
{ وحسنة } صفة لموصوف محذوف أى : لنبوئنهم تبوئة حسنة ، أو دارا حسنة .
والمراد بهذه الحسنة ما يشمل نزولهم فى المدينة ، ونصرهم على أعدائهم ، وإبدال خوفهم أمنا .
قال القرطبى فى المراد بالحسنة هنا ستة أقوال : " نزول المدينة ؛ قاله ابن عباس والحسن . . الثانى : الرزق الحسن . قاله مجاهد . الثالث : النصر على عدوهم ، قاله الضحاك ، الرابع : لسان صدق ، حكاه ابن جريج . الخامس : ما استولوا عليه من البلاد . . السادس : ما بقى لهم فى الدنيا من ثناء ، وما صار فيها لأولادهم من الشرف .
ثم قال : وكل ذلك قد اجتمع لهم بفضل الله - تعالى - " .
والمعنى : والذين هاجروا فى سبيل الله ، وفارقوا قومهم وأوطانهم وأموالهم وأولادهم . . من أجل إعلاء كلمته ، بعد أن تحملوا الكثير من أذى المشركين وظلمهم وطغيانهم .
هؤلاء الذين فعلوا ذلك من أجل نصرة ديننا ، لنسكننهم فى الدنيا مساكن حسنة يرضونها ، ولنعطينهم عطاء حسنا يسعدهم ، ولننصرنهم على أعدائهم نصرا مؤزرا .
وقوله { فى الله } أى : فى سبيله ، ومن أجل نصرة دينه . فحرف " فى " مستعمل للتعليل ، كما فى قوله صلى الله عليه وسلم : " دخلت امرأة النار فى هرة حبستها . . . " .
والمقصود أن هذا الأجر الجزيل إنما هو للمهاجرين من أجل إعلاء كلمة الله ، ومن أجل نصرة الحق ، وليس لمن هاجر لنشر الظلم أو الفساد فى الأرض .
وأسند فعل { ظلموا } إلى المجهول ، لظهور الفاعل من السياق وهو المشركون .
وفى ذلك إشارة إلى أن هؤلاء المهاجرين لم يفارقوا ديارهم ، إلا بعد أن أصابهم ظلم أعدائهم لهم ، كتعذيبهم إياهم ، وتضييقهم عليهم ، إلى غير ذلك من صنوف الأذى .
وأكد - سبحانه - الجزاء الحسن اذى وعدهم به باللام وبنون التوكيد { لنبوئنهم . } ، زيادة فى إدخال السرور والطمأنينة على قلوبهم ، وجبرا لكل ما اشتملت عليه الهجرة من مصاعب وآلام وأضرار .
إذ الحسنة - كما قلنا - تشمل كل حسن أعطاه الله - تعالى - للمهاجرين فى هذه الدنيا .
أما فى الآخرة فأجرهم أعظم ، وثوابهم أجزل ، كما قال - تعالى - : { وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
والضمير فى قوله { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يعود على أعدائهم الظالمين .
أى : ولثواب الله - تعالى - لهم فى الآخرة على هجرتهم من أجل إعلاء كلمته ، أكبر وأعظم ، ولو كان أعداؤهم الظالمون يعلمون ذلك لدخلوا فى دين الإِسلام ، ولأقلعوا عن ظلمهم لهؤلاء المهاجرين .
وكأن جملة { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جوابا عن سؤال تقديره : كيف لم يقتد بهم من بقى على الكفر مع هذا الثواب الذى أعده الله لهؤلاء المهاجرين ؟
فكان الجواب : لو كان هؤلاء الكافرين يعلمون ذلك لأقلعوا عن كفرهم .
ويصح أن يكون الضمير يعود على المهاجرين ، فيكون المعنى : لو كانوا يعلمون علم مشاهدة ومعاينة ما أعده الله لهم ، لما حزنوا على مفارقة الأوطان والأولاد والأموال ، ولازدادوا حبا وشوقا واجتهادا فى المهاجرة .
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب ، أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له " خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله فى الدنيا ، وما ذخره لك فى الآخرة أفضل " ، ثم تلا هذه الآية .
وجوز بعضهم أن يكون الضمير يعود للمتخلفين عن الهجرة أى : لو علم هؤلاء المتخلفون عن الهجرة ، ما أعده - سبحانه - من أجر للمهاجرين ، لما تخلفوا عن ذلك .
وعلى أية حال فلا مانع من أن يكون الضمير يعود على كل من يتأتى له العلم ، بهذا الثواب الجزيل لهؤلاء المهاجرين فى سبيل الله - تعالى - .
وهنا يعرض في الجانب المقابل للمنكرين الجاحدين ، لمحة عن المؤمنين المصدقين ، الذين يحملهم يقينهم في الله والآخرة على هجر الديار والأموال ، في الله ، وفي سبيل الله :
( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ، ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون . الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ) . .
فهؤلاء الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم ، وتعروا عما يملكون وعما يحبون ، وضحوا بدارهم وقرب عشيرتهم والحبيب من ذكرياتهم . . هؤلاء يرجون في الآخرة عوضا عن كل ما خلفوا وكل ما تركوا . وقد عانوا الظلم وفارقوه . فإذا كانوا قد خسروا الديار ف ( لنبوئنهم في الدنيا حسنة )و لنسكننهم خيرا مما فقدوا ( ولأجر الآخرة أكبر )لو كان الناس يعلمون .
يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته ، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان ، رجاء ثواب الله وجزائه .
ويحتمل أن يكون سبب نزول هذه الآية الكريمة في مُهاجرة الحبشة الذي اشتد أذى قومهم لهم بمكة ، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة ، ليتمكنوا من عبادة ربهم ، ومن أشرافهم : عثمان بن عفان ، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعفر بن أبي طالب ، ابن عم الرسول{[16455]} وأبو سلمة بن عبد الأسد{[16456]} في جماعة قريب من ثمانين ، ما بين رجل وامرأة ، صديق وصديقة ، رضي الله عنهم وأرضاهم . وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } قال ابن عباس والشعبي ، وقتادة : المدينة . وقيل : الرزق الطيب ، قاله مجاهد .
ولا منافاة بين القولين ، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيرًا منها{[16457]} في الدنيا ، فإن من ترك شيئًا لله عوضه الله بما هو خير له منه{[16458]} وكذلك وقع فإنهم مكن الله لهم في البلاد وحكمهم على رقاب العباد ، فصاروا أمراء حكاما ، وكل منهم للمتقين إماما ، وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا ، فقال : { وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ } أي : مما أعطيناهم في الدنيا { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي : لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله ؛ ولهذا قال هُشَيْم ، عن العوام ، عمن حدثه ؛ أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه{[16459]} يقول : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر{[16460]} لك في الآخرة أفضل ، ثم قرأ{[16461]} هذه الآية : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }{[16462]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.