ثم حكى القرآن بعد ذلك لوناً من ألوان دعاواهم الباطلة ، وأقاويلهم الفاسدة ، ورد عليهم بما يخرس ألسنتهم ويقطع حجتهم ، فقال تعالى :
{ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ . . . }
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيات آثاراً ، منها ما روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " إن اليهود كانا يقولون إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوماً في النار ، وإنما هي سبعة أيام معدودة " فأنزل الله تعالى : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار . . . } الآيات .
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : " حدثني أبي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لليهود أنشدكم بالله وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى يوم طور سيناء ، من أهل النار الذين أنزلهم الله في التوراة ؟ قالوا : إن ربنا غضب علينا غضبة ، فنمكث في النار أربعين ليلة ، ثم نخرج فتخلفوننا فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبتم والله لا نخلفكم فيها أبداً ، فنزل القرآن تصديقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيباً لهم - نزل قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً . . . } إلى قوله تعالى : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وأخرج ابن جرير - أيضاً - عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } ذلك أعداء الله اليهود ، قالوا : لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم . الأيام التي أصبنا فيها العجل أربعين يوماً ، فإذا انقضت عنا تلك الأيام انطقع عنا العذاب والقسم .
هذه بعض الآثار التي وردت في سبب نزول الآيات الكريمة ، والمعنى :
وقالت اليهود - يا محمد - إن النار لن تصيبنا ، ولن نذوق حرها ، إلا أياناً قلائل - قل لهم - يا محمد - رداً على دعواهم الكاذبة هل اتخذتم من الله عهداً بذلك حتى يكون الوفاء به متحققاً ؟ أم تقولون على الله الباطل جهلا وجراءة عليه ؟
ثم أبطل القرآن الكريم دعواهم بأصل عام يشملهم ويشمل غيرهم فقال . ليس الأمر كما تدعون ، بل الحق أنه من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ومات علهيا دون أن يتوب إلى الله - تعالى - منها { فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وقوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } بيان لضرب من ضروب غرورهم وكذبهم ، معطوف على رذائلهم السابقة التي حكاها القرآن الكريم ، إذ الضمير في قوله تعالى ( وقالوا ) يعود على اليهود الذين مر الحديث عنهم ولما ينته بعد .
والمس : اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإِحساس والإِصابة .
والمراد من النار : نار الآخرة . والمراد من المعدودة : المحصورة القليلة ، يقال : شيء معدود أي قليل . وشيء غير معدود أي كثير فهم يدعون أن النار لن تمسهم إلا مدة يسيرة قد يتكون سبعة أيام ، وقد تكون أربعين يوماً ، وبعدها يخرجون إلى الجنة لأن كل معدود منقض .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم فيما زعموه فقال تعالى : { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : قيل لهم - يا محمد - إن مثل هذا الإِخبار الجازم بأن النار لن تسمكم إلا أياماً معدودة ، لا يكون إلا ممن اتخذ عهداً من الله بذلك ، فهل تقدم لكم من الله عهد بأن النار لن تمسكم إلا أياماً معدودة ، فكان الوفاء متحققاً ، لأن الله - تعالى - لا يخلف وعده ، أم تقولون على الله شيئاً لا علم لكم به .
فالاستفهام للإِنكار ، وهو متوجه إلى زع1هم أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم . إن قولكم هذا يحتمل أمرين لا ثالث لهما : إما اتخاذ عهد عند الله به ، وإما القول عليه - سبحانه - بدون علم ، وما دام قد ثبت أن اتخاذ العهد لم يحصل ، إذا أنتم - يا معشر اليهود - كاذبون فيما تدعون من أن النار لن تمسكم إلا أياماً معدودة .
قال الإِمام الرازي : قوله تعالى : { أَتَّخَذْتُمْ } ليس باستفهام بل هو إنكار ؛ لأنه لا يجوز أن يجعل الله - تعالى - حجة رسوله في إبطال قولهم أن يستفهمهم بل المراد التنبيه على طريقة الاستدلال ، وهي أنه لا سبيل إلى معرفة هذا التقدير إلا بالسمع ، فلما لم يوجد الدليل السمعي وجب ألا يجوز الجزم بهذا التقدير .
وإنما ساق القرآن الكريم الرد عليهم في صورة الاستفهام ، لما فيه من ظهور القصد إلى تقريرهم بأنهم قالوا على الله ما لا يعلمون ، إذ هم لا يستطيعون أن يثبتوا أن الله وعدهم بما ادعوه من أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة ، ولا يوجد عندهم نص صحيح من كتابهم يؤيد مدعاهم .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد أبطلت مدعاهم إبطالا يحمل طابع الإِنكار والتوبيخ .
من تلك الأماني التي لا تستقيم مع عدل الله ، ولا تتفق مع سنته ، ولا تتمشى مع التصور الصحيح للعمل والجزاء . . أن يحسبوا أنهم ناجون من العذاب مهما فعلوا ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات يخرجون بعدها إلى النعيم . . علام يعتمدون في هذه الأمنية ؟ علام يحددون الوقت كأنهم مستوثقون ؟ وكأنها معاهدة محدودة الأجل معلومة الميقات ؟ لا شيء إلا أماني الأميين الجهال ، وأكاذيب المحتالين العلماء ! الأماني التي يلجأ إليها المنحرفون عن العقيدة الصحيحة ، حين يطول بهم الأمد ، وينقطع ما بينهم وبين حقيقة دينهم ، فلا يبقى لهم منه إلا اسمه وشكله ، دون موضوعه وحقيقته ويظنون أن هذا يكفيهم للنجاة من العذاب بحكم ما يعلنونه بألسنتهم من أنهم على دين الله :
( وقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة . قل : أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ؟ ) . .
وهذا هو التلقين الإلهي للحجة الدامغة : ( أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ؟ ) . . فأين هو هذا العهد ؟ ( أم تقولون على الله ما لا تعلمون ) . . وهذا هو الواقع . فالاستفهام هنا للتقرير . ولكنه في صورة الاستفهام يحمل كذلك معنى الإنكار والتوبيخ !
يقول تعالى إخبارًا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم ، من أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة ، ثم ينجون منها ، فرد الله عليهم ذلك بقوله : { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا }{[2071]} أي : بذلك ؟ فإن كان قد وقع عهد فهو لا يُخْلِف عهده{[2072]} .
ولكن هذا ما جرى ولا كان . ولهذا أتى ب " أم " التي بمعنى : بل ، أي : بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه .
قال{[2073]} محمد بن إسحاق ، عن سيف بن سليمان{[2074]} عن مجاهد ، عن ابن عباس : أن اليهود كانوا يقولون : هذه الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نُعَذَّب بكل ألف سنة يومًا في النار ، وإنما هي سبعة أيام معدودة{[2075]} . فأنزل الله تعالى : { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } إلى قوله : { خَالِدُونَ } [ البقرة : 82 ] .
ثم رواه عن محمد ، عن سعيد - أو عكرمة - عن ابن عباس ، بنحوه .
وقال العوفي عن ابن عباس : { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } اليهود قالوا{[2076]} : لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة ، [ زاد غيره : هي مدة عبادتهم العجل ، وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة ]{[2077]} وقال الضحاك : قال ابن عباس : زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبًا : أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة ، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم ، التي هي نابتة في أصل الجحيم . وقال أعداء الله : إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك . فذلك قوله تعالى : { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً }
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } يعني : الأيام التي عبدنا فيها العجل{[2078]} .
وقال عكرمة : خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم{[2079]} فقالوا : لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ، وسيخلفنا إليها{[2080]} قوم آخرون ، يعنون{[2081]} محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم : " بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم إليها أحد " . فأنزل الله : { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } الآية .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله : حدثنا عبد الرحمن بن جعفر ، حدثنا محمد بن محمد بن صخر ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا ليث بن سعد ، حدثني سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم ، فقال {[2082]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا " فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أبوكم ؟ " قالوا : فلان{[2083]} . قال : " كذبتم ، بل أبوكم فلان " . فقالوا : صدقت وبَرِرْت ، ثم قال لهم : " هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه ؟ " . قالوا : نعم ، يا أبا القاسم ، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أهل النار ؟ " فقالوا : نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اخسأوا ، والله لا نخلفكم فيها أبدًا " . ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه ؟ " . قالوا : نعم يا أبا القاسم . فقال : " هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا ؟ " . فقالوا : نعم . قال{[2084]} : " فما حملكم على ذلك ؟ " . فقالوا : أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك ، وإن كنت نبيًا لم يضرك .
ورواه أحمد ، والبخاري ، والنسائي ، من حديث الليث بن سعد ، بنحوه{[2085]} .