وبعد أن غرق الكافرون ، ونجا نوح ومن معه من المؤمنين ، وجه الله - تعالى - أمره إلى الأرض وإلى السماء . . فقال : { وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي وَغِيضَ المآء وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين } .
أى : وبعد أن أدى الطوفان وظيفته فأغرق بأمر الله - تعالى - الكافرين ، قال الله - تعالى - للأرض : { ياأرض ابلعي مَآءَكِ } .
أى : اشربى أيتها الأرض ما على وجهك من ماء ، وابتعليه بسرعة فى باطنك كما يبتلع الإِنسان طعامه فى بطنه بدون استقرار فى الفم .
وقال - سبحانه - للسماء { وياسمآء أَقْلِعِي } أى : أمسكى عن إرسال المطر يقال : أقلع فلان عن فعله إقلاعا ، إذا كف عنه وترك فعله . ويقال : أقلعت الحمى عن فلان ، إذا تركته .
فامتثلتا - أى الأرض والسماء - لأمر الله - فى الحال ، فهو القائل وقوله الحق : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } وقوله { وَغِيضَ المآء } أى : نقص ونضب . يقال : غاض الماء يغيض ، إذا قل ونقص .
والمراد به هنا : الملاء الذى نشأ عن الطوفان .
وقوله : { وَقُضِيَ الأمر } أى : تم ونفذ ما وعد الله - تعالى - به نبيه نوحا - عليه السلام - من إهلاكه للقوم الظالمين .
والضمير فى قوله : { واستوت عَلَى الجودي } للسفينة ، والجودى ، جيل بشمال العراق بالقرب من مدينة الموصل . وقيل هو جبل بالشام .
أى : واستقرت السفينة التى تحمل نوحا والمؤمنين بدعوته ، على الجبل المعروف بهذا الاسم ، بعد أن أهلك الله أعداءهم .
قال ابن كثير ما ملخصه : وكان خروجهم من السفينة فى يوم عاشوراء من المحرم ، فقد روى الإِمام أحمد عن أبى هريرة قال : " مر النبى - صلى الله عليه وسلم - بأناس من اليهود ، وقد صاموا يوم عاشوراء ، فقال لهم : ما هذا الصوم ؟ قالوا ، هذا اليوم الذى نجى الله موسى وبنى إسرائيل من الغرق ، وغرق فيه فرعون . وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودى . فصامه نوح وموسى - عليه السلام - شكرا لله .
فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - " أنا أحق بموسى ، وأحق بصوم هذا اليوم " فصامه ، وقال لأصحابه : من كان أصبح منكم صائما فليتم صومه ، ومن كان قد أصاب من غذاء أهله ، فليتم بقية يومه " " .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : وقيل بعدا القوم الظالمين .
أى : هلاكا وسحقا وطردا من رحمة الله - تعالى - للقوم الذين ظلموا أنفسهم بإيثارهم الكفر على الإِيمان ، والضلالة على الهداية .
قال الجمل : { وبعدا } مصدر بعد - بكسر العين - يقال بعد بعدا - بضم فسكون - وبعداً - بفتحتين - إذا بعد بعد بعيدا بحيث لا يرجى عوده ، ثم استعير للهلاك ، وخص بدعاء السوء ، وهو منصوب على المصدر بفعل مقدر . أى : وقيل بعداً بعدا . . .
هذا وقد تكلم بعض العلماء عن أوجه البلاغة والفصاحة فى هذه الآية كلاما طويلا ، نكتفى بذكر جانب مما قاله فى ذلك الشيخ القاسمى فى تفسيره .
قال - رحمه الله - ما ملخصه : " هذه الآية بلغت من أسرار الإِعجاز غايتها ، وحوت من بدائع الفوائد نهايتها . وقد اهتم علماء البيان بإبراز ذلك ، ومن أوسعهم مجالا فى مضمار معارفها الإِمام " السكاكى " فقد أطال وأطنب فى كتابه " المفتاح " فى الحديث عنها .
فقد قال - عليه الرحمة - فى بحث البلاغة والفصاحة :
وإذ قد وفقت على البلاغة ، وعثرت على الفصاحة ، فأذكر لك على سبيل الأنموذج ، آية أكشف لك فيها من وجوههما ما عسى ن يكون مستورا عنك ، وهذه الآية هى قوله - تعالى - { وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي وَغِيضَ المآء وَقُضِيَ الأمر . . } .
والنظر فى هذه الآية من أربع جهات : من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعانى ، ومن جهة الفصاحة المعنوية ، ومن جهة الفصاحة اللفظية .
أما النظر فيها من جهة علم البيان . . فتقول : إنه - عز سلطانه - لما أراد أن يبين معنى هو : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض لما أراد ذلك : بنى الكلام على التشبيه ، بأن شبه الأرض والسماء بالمأمور الذى لا يتأتى منه أن يعصى أمره . . وكأنهما عقلاء مميزون فقال : { ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي . . . } .
ثم قال : { ماءك } بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز ، تشبيها لاتصال الماء بالأرض ، باتصال الملك بالمالك .
ثم اختار لاحتباس المطر لفظ الإِقلاع الذى هو ترك الفاعل للفعل .
وأما المنظر فيها من حيث علم المعانى . . فذلك أنه اختير { يا } دون سائر أخواتها ، لكونها أكثر فى الاستعمال . . واختير لفظ " ابلعى " على " ابتلعى " لكونه أخصر . ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع منه ، حتى يدخل فيه ظلمهم لأنفسهم .
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهى كما ترى . نظم للمعانى لطيف ، وتأدية لها ملخصة مبينة ، لا تعقيد الفكر فى طلب المراد ، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد ، بل إذا جربت نفسك عند استماعها ، وجدت ألفاظها تسابق معانيها ، ومعانيها تسابق ألفاظها ، فما من لفظة فى تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك ، إلا ومعناها أسبق إلى قلبك .
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية : فألفاظها على ما ترى عربية ، مستعملة جارية على قوانين اللغة ، سليمة من التنافر ، بعدية عن البشاعة .
ولا تظن الآية مقصورة على ما ذكرت ، فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت .
وتهدأ العاصفة ، ويخيم السكون ، ويقضى الأمر ، ويتمشى الاستقرار كذلك في الألفاظ وفي إيقاعها في النفس والأذن :
( وقيل : يا أرض ابلعي ماءك ، ويا سماء أقلعي ، وغيض الماء ، وقضي الأمر ، واستوت على الجودي ، وقيل بعدا للقوم الظالمين ) . .
ويوجه الخطاب إلى الأرض وإلى السماء بصيغة العاقل ، فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل فتبلع الأرض ، وتكف السماء :
( وقيل : يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ) .
ابتلعته الأرض في جوفها وغار من سطحها .
ورست رسو استقرار على جبل الجودي . .
( وقيل بعدا للقوم الظالمين ) . .
وهي جملة مختصرة حاسمة معبرة عن جوها أعمق تعبير . . ( قيل )على صيغة المجهول فلا يذكر من قال ، من قبيل لف موضوعهم ومواراته :
( وقيل بعدا للقوم الظالمين ) . .
بعدا لهم من الحياة فقد ذهبوا ، وبعدا لهم من رحمة الله فقد لعنوا ، وبعدا لهم من الذاكرة فقد انتهوا . . وما عادوا يستحقون ذكرا ولا ذكرى !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقيل يا أرض ابلعي ماءك} بعدما غرقتهم أجمعين، فابتلعت الأرض ما خرج منها من الماء، {ويا سماء أقلعي} يعني أمسكي، قال: فلم تقع قطرة، {وغيض الماء}، يعني ونقص الماء وظهرت الجبال، {وقضي الأمر}، يعني العذاب بالغرق على الكافرين فغرقوا، {واستوت} السفينة {على الجودي}... {وقيل بعدا للقوم الظالمين} يعني المشركين، يعني بالبعد الهلاك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول الله تعالى ذكره: وقال الله للأرض بعد ما تناهى أمره في هلاك قوم نوح بما أهلكهم به من الغرق:"يا أرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ": أي تَشَرّبي، من قول القائل: بَلَعَ فلان كذا يَبْلَعُهُ، أو بَلِعَهُ يَبْلَعُه إذا ازدرده.
"وَيا سَماءُ اقْلِعي" يقول: أقلعي عن المطر: أمسكي.
"وَغِيضَ الماءُ": ذهبت به الأرض ونشفته. "وَقُضِيَ الأمْرُ "يقول: قُضِي أمر الله، فمضي بهلاك قوم نوح. "وَاسْتَوَتْ على الجُودِيّ" يعني الفُلْك. استوت: أرست على الجوديّ، وهو جبل... "وَقِيلَ بُعْدا للقَوْمِ الظّالِمِينَ" يقول: قال الله: أبعد الله القوم الظالمين الذين كفروا بالله من قوم نوح...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
حكى الله تعالى في هذه الآية قصة نوح وقومه بأوجز لفظ وأبلغه، وبلوغ الغاية التي لا تدانيها بلاغة ولا تقاربها فصاحة، لأن قوله:"وقيل يا أرض ابلعي ماءك" إخبار منه عن إذهاب الماء عن وجه الأرض في أوجز مدة، فجرى ذلك مجرى أن قال لها ابلعي فبلعت. والبلع في اللغة: انتزاع الشيء من الحلق إلى الجوف، فكانت الأرض تبلع الماء هكذا حتى صار في بطنها الغراء.
"ويا سماء أقلعي "إخبار أيضا عن إقشاع السحاب، وقطع المطر في أسرع وقت، فكأنه قال لها أقلعي فأقلعت. والإقلاع: إذهاب الشيء من أصله حتى لا يبقى منه شيء. وأقلع عن الأمر إذا تركه رأسا.
" وغيض الماء" أي أذهب به عن وجه الأرض إلى باطنها، يقال: غاض الماء يغيض غيضا إذا ذهب في الأرض.
" وقضي الأمر "معناه أوقع الهلاك بقوم نوح على تمام، والقضاء: وقوع الأمر على تمام وإحكام...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
نداء الأرض والسماء بما ينادى به الحيوان المميز على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله: «يا أرض»، «ويا سماء» ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله: «ابلعي ماءك» و «أقلعي» من الدلالة على الاقتدار العظيم، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة عليه، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوا عظمته وجلالته وثوابه وعقابه وقدرته على كل مقدور، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له، وهم يهابونه ويفزعون من التوقف دون الامتثال له والنزول على مشيئته على الفور من غير ريث، فكما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولاً لا حبس ولا إبطاء. والبلع: عبارة عن النشف. والإقلاع: الإمساك. يقال: أقلع المطر وأقلعت الحمى {وَغِيضَ الماء} من غاضه إذا نقصه.
{وَقُضِىَ الأمر} وأنجز ما وعد الله نوحاً من هلاك قومه... {وَقِيلَ بُعْدًا} يقال بعد بعدا وبعدا، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأنّ تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر، وتكوين مكون قاهر، وأنّ فاعلها فاعل واحد لا يشارك في أفعاله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره: يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره، ولا أن تستوي السفينة على متن الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره...
اعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ كثيرة كل واحد منها دال على عظمة الله تعالى وعلو كبريائه:
فأولها: قوله: {وقيل} وذلك لأن هذا يدل على أنه سبحانه في الجلال والعلو والعظمة، بحيث أنه متى قيل قيل لم ينصرف العقل إلا إليه. ولم يتوجه الفكر إلا إلى أن ذلك القائل هو هو وهذا تنبيه من هذا الوجه، على أنه تقرر في العقول أنه لا حاكم في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والعالم السفلي إلا هو.
وثانيها: قوله: {يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي} فإن الحس يدل على عظمة هذه الأجسام وشدتها وقوتها فإذا شعر العقل بوجود موجود قاهر لهذه الأجسام مستول عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد صار ذلك سببا لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله تعالى وعلو قهره، وكمال قدرته ومشيئته.
وثالثها: أن السماء والأرض من الجمادات فقوله: {يا أرض} {ويا سماء} مستعر بحسب الظاهر، على أن أمره وتكليفه نافذ في الجمادات فعند هذا يحكم الوهم بأنه لما كان الأمر كذلك فلأن يكون أمره نافذا على العقلاء كان أولى وليس مرادي منه أنه تعالى يأمر الجمادات فإن ذلك باطل بل المراد أن توجيه صيغة الأمر بحسب الظاهر على هذه الجمادات القوية الشديدة يقرر في الوهم نوع عظمته وجلاله تقريرا كاملا.
{وقضى الأمر} فالمراد أن الذي قضى به وقدره في الأزل قضاء جزما حتما فقد وقع تنبيها على أن كل ما قضى الله تعالى فهو واقع في وقته، وأنه لا دافع لقضائه ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه...
وأما قوله تعالى: {وقيل بعدا للقوم الظالمين} ففيه وجهان:
الأول: أنه من كلام الله تعالى قال لهم ذلك على سبيل اللعن والطرد.
والثاني: أن يكون ذلك من كلام نوح عليه السلام وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام ولأنه جار مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وقيل} أي بأدنى إشارة بعد هلاك أهل الأرض وخلوها من الكافرين وتدمير من في السهول والجبال من الخاسرين، وهو من إطلاق المسبب -وهو القول- على السبب -وهو الإرادة- لتصوير أمر ومأمور هو في غاية الطاعة فإنه أوقع في النفس. ولما كان كل شيء دون مقام الجلال والكبرياء والعزة بأمر لا يعلمه إلا الله، دل على ذلك بأداة البعد فقال {يا أرض ابلعي} أي اجذبي من غير مضغ إلى مكان خفي بالتدريج، وعين المبلوع لئلا يعم فتبتلع كل شيء على ظهرها من جبل وغيره، ولذلك أفرد ولم يجمع فقال: {ماءك} أي الذي تجدد على ظهرك للإغراق ليكون كالغذاء للآكل الذي يقوي بدنه فيقوى به على الإنبات وسائر المنافع وجعله ماءها لاتصاله بها اتصال الملك بالمالك {ويا سماء أقلعي} أي أمسكي عن الإمطار، ففعلتا مبادرتين لأمر الملك الذي لا يخرج عن مراده شيء {وغيض الماء} أي المعهود، حكم عليه بالدبوب في أعماق الأرض، من المتعدي فإنه يقال: غاض الماء وغاضه الله، كما يقال: نقض الشيء ونقضته أنا {وقضي الأمر} أي فرغ وانبتّ وانبرم في إهلاك من هلك ونجاة من نجا كما أراد الجليل على ما تقدم به وعده نوحاً عليه السلام، لم يقدر أحد أن يحبسه عنهم ولا أن يصرفه ولا أن يؤخره دقيقة ولا أصغر منها. فليحمد الله من أخر عنه العذاب ولا يقل ما "يحبسه "لئلا يأتيه مثل ما أتى هؤلاء أو من بعدهم {واستوت} أي استقرت واعتدلت السفينة {على الجودي} إشارة باسمه إلى أن الانتقام العام قد مضى، وما بقي إلا الجود بالماء والخير والخصب والرحمة العامة... {وقيل} أي إعلاماً بهوان المهلكين والراحة منهم {بعداً} هو من بعد -بالكسر مراداً به البعد من حيث الهلاك، فإن حقيقته بعدُ بعيد لا يرجى منه عود، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء، وعبر بالمصدر لتعليقه باللام الدالة على الاستحقاق والاختصاص {للقوم} أي المعهودين في هذه القصة التي كان فيها من شدة القيام فيما يحاولونه ما لا يعلمه أحد إلا الله {الظالمين} أي العريقين في الظلم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وقيل يا أرض ابلعي ماءك} أي وصدر من عالم الغيب الأعلى نداء خاطب الأرض والسماء، بأمر التكوين الذي يسجد له العقلاء وغير العقلاء: يا أرض ابلعي ماءك كله الذي عليك، أو الذي تفجر من باطنك، إن صح أن ماء السماء صار بحرا، والبلع ازدراد الطعام أو الشراب بسرعة {ويا سماء أقلعي} أي كفي عن الأمطار فامتثل الأمر في الحال، وما هو إلا أن قيل كن فكان {وغيض الماء} أي غار في الأرض ونضب بابتلاعها له نضوبا {وقضي الأمر} أي نفذ الأمر بإهلاك الظالمين، ونجاء المؤمنين.
{واستوت على الجودي} أي واستقرت السفينة راسية على الجبل المعروف بالجودي {وقيل بعدا للقوم الظالمين} أي هلاكا وسحقا لهم، وبعدا من رحمة الله تعالى بما كان من رسوخهم في الظلم واستمرارهم عليه، وفقدهم الاستعداد للتوبة والرجوع إلى الله عز وجل، وسيأتي مثل هذا في أمثالهم من أقوام الأنبياء {ألا بعدا لعاد قوم هود} [هود: 60] {ألا بعدا لثمود} [هود: 68] والظاهر أن هذا الجبل قد غمره الماء ولم يرتفع فوقه إلا قليلا، فلما بلغته السفينة كان الماء فوقه رقراقا وبدأ يتقلص ويغيض فاستوت عليه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
البلع حقيقته اجتياز الطعام والشراب إلى الحلق بدون استقرار في الفم. وهو هنا استعارة لإدخال الشيء في باطن شيء بسرعة، ومعنى بلع الأرض ماءها: دُخوله في باطنها بسرعة كسرعة ازدراد البالع بحيث لم يكن جفاف الأرض بحرارة شمس أو رياح بل كان بعمل أرضي عاجل. وقد يكون ذلك بإحداث الله زلازل وخسفاً انشقت به طبقة الأرض في مواضع كثيرة حتى غارت المياه التي كانت على سطح الأرض. وإضافة {الماء} إلى (الأرض) لأدنى ملابسة لكونه في وجهها. وإقلاع السماء مستعار لكفّ نزول المطر منها لأنه إذا كَفّ نزولُ المطر لم يُخلف الماء الذي غار في الأرض، ولذلك قدّم الأمر بالبلْع لأنّه السبب الأعظم لغيض الماء...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ووصف كتاب الله كيف أن القدرة الإلهية بمجرد ما أغرقت الظالمين المفسدين في الأرض، الذين جعلوها حلبة للفساد لا للإصلاح، وللظلم لا للعدل، وللكفر لا للإيمان، وإبادتهم عن آخرهم في لحظات معدودة، وجهت في الحين نداءها المسموع المطاع للأرض ببلع مياهها، وللسماء بقطع أمطارها، ولسفينة النجاة بوقوفها وإرسائها، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى بمنتهى الإيجاز والإعجاز