ثم زاد فى توبيخهم وتهديدهم فقال { وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } والمكانة مصدر مكن ككرم ، يقال مكن فلان من الشئ مكانه ، إذا تمكن منه أبلغ تمكن ، والأمر فى قوله { اعملوا } للتهديد والوعيد .
أى : اعملوا كل ما فى إمكانكم عمله معى ، وابذلوا فى تهديدى ووعيدى ما شئتم ، فإن ذلك لن يضيرنى ، وكيف يضيرنى وأنا المتوكل على الله المعتمد على عونه ورعايته . . . ؟
وإنى سأقابل عملكم السئ هذا بعمل آخر حسن من جانبى ، وهو الدوة إلى وحدانية الله - تعالى - وإلى مكارم الأخلاق .
وقوله { سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ . . . } استئناف مؤكد لتهديده لهم .
أى : اعملوا ما شئتم وأنا سأعمل ما شئت فإنكم بعد ذلك سوف تعلمون من منا الذى سينزل به عذاب يخزيه ويفضحه ويهينه ، ومن منا الذى هو كاذب فى قوله وعمله .
{ وارتقبوا } عافلة تكذيبكم للحق { إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أى : إنى معكم منتظر ورماقب لما سيفعله الله - تعالى - بكم .
وبذلك نرى شعيبا - عليه السلام - فى هاتين الآيتين ، قد استعمل مع قومه أسلوبا آخر فى المخاطبة ، يمتاز بشدة عليهم والتهديد لهم ، لا غضبا لنفسه ، وإنما لأجل حرمات الله - تعالى - ، والدفاع عن دينه .
ومن هذه الغضبة لله . والتنصل من الاعتزاز أو الاحتماء بسواه ، ينبعث ذلك التحدي الذي يوجهه شعيب إلى قومه ؛ وتقوم تلك المفاصلة بينه وبينهم - بعد أن كان واحدا منهم - ويفترق الطريقان فلا يلتقيان :
( ويا قوم اعملوا على مكانتكم ) . .
وامضوا في طريقكم وخطتكم ، فقد نفضت يدي منكم .
( سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب ) . .
( وارتقبوا إني معكم رقيب ) . .
للعاقبة التي تنتظرني وتنتظركم . . وفي هذا التهديد ما يوحي بثقته بالمصير . كما يوحي بالمفاصلة وافتراق الطريق . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويا قوم اعملوا على مكانتكم}، هذا وعيد، يعني: على جديلتكم التي أنتم عليها، {إني عامل سوف تعلمون}، هذا وعيد، {من يأتيه عذاب يخزيه}، يعني: يذله، {ومن هو كاذب} بنزول العذاب بكم أنا أو أنتم، لقولهم: ليس بنازل بنا، {وارتقبوا إني معكم رقيب}، يعنى: انتظروا العذاب، فإني منتظر بكم العذاب في الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره، مخبرا عن قيل شعيب لقومه: {ويا قَوْمِ اعْمَلُوا على مَكانَتِكُمْ}، يقول: على تمكنكم، يقال منه: الرجل يعمل على مَكينته ومكِنته، أي: على اتئاده... وكان بعض أهل التأويل يقول في معنى قوله:"على مَكانَتِكُمْ": على منازلكم. فمعنى الكلام إذن: ويا قوم اعملوا على تمكنكم من العمل الذي تعملونه، إنّي عامِلٌ على تؤدة من العمل الذي أعمله. "سَوفَ تَعْلَمُونَ "أينا الجاني على نفسه والمخطئ عليها والمصيب في فعله المحسن إلى نفسه، يقول تعالى ذكره، مخبرا عن قيل نبيه شعيب لقومه: الذي يأتيه منا ومنكم أيها القوم {عَذابٌ يُخْزِيهِ}، يقول: يذله ويهينه، {وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ}، يقول: ويخزي أيضا الذي هو كاذب في قيله وخبره منا ومنكم.
{وَارْتَقِبُوا}، أي: انتظروا وتفقدوا... {إنّي مَعَكُم رَقِيبٌ}، يقول: إني أيضا ذو رِقبة لذلك العذاب معكم، وناظر إليه، بمن هو نازل منا ومنكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أن كونوا على دينكم الذي أنتم عليه وأنا أكون على ديني كقوله: (لكم دينكم ولي دين) [الكافرون: 6] لأن قوم شعيب قالوا لشعيب: (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا) [الأعراف: 88] فقال لهم عند ذلك. وهذا إنما يقال عند [الإياس من إيمانهم كقوله: (لا حجة بيننا وبينكم) [الشورى: 15] وأمثاله...
(سوف تعلمون) في العاقبة وعيد (من يأتيه عذاب يخزيه) أو (سوف تعلمون) في العاقبة من يأتي منا عذاب يخزيه نحن أم أنتم؟ "ومن هو كاذب "وتعلمون في العاقبة من الكاذب منا نحن أم أنتم؟ لأن كل واحد من الفريقين يدعي على الفريق الآخر الكذب والافتراء على الله...
(وارتقبوا إني معكم رقيب) ارتقبوا هلاكي، وأنا أرتقب هلاككم، أو ارتقبوا لمن العاقبة منا، لنا أم لكم، (إني معكم رقيب)...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فقال لهم شعيب أيضا:"ياقوم اعملوا على مكانتكم" والمكانة: الحال التي يتمكن بها صاحبها من عمل ما، فقال لهم قد مكنتم في الدنيا من العمل، كما مكن غيركم ممن عمل بطاعة الله، وسترون منزلتكم من منزلته. وهذا الخطاب وإن كان ظاهره ظاهر الأمر فالمراد به التهديد، وتقديره كأنكم إنما أمرتم بأن تكونوا على هذه الحال من الكفر والعصيان، وفي هذا نهاية الخزي والهوان. وقوله: "سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه "معناه إنكم تعلمون في المستقبل من يحل به العذاب الذي يخزيه أي يفضحه ويذله، وهو أشد من العذاب الذي لا يفضح. "ومن هو كاذب": وتعرفون من هو الكاذب مني ومنكم. وقوله: "وارتقبوا" معناه: انتظروا ما وعدتكم به من العذاب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أرخى لهم ستر الإمهال فلما أصَرُّوا على تماديهم في الغواية حلَّت بهم العقوبة، وصاروا وكأن لم يكن بينهم نافخ نارٍ، ولا في ديارٍ الظالمين ديَّار، قال تعالى: {فَاْعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَن يَأْتِيهِ} يجوز أن تكون {مَن} استفهامية، معلِّقة لفعل العلم عن عمله فيها؛ كأنه قيل: سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه، وأينا هو كاذب، وأن تكون موصولة قد عمل فيها، كأنه قيل: سوف تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب...
وهو جواب لسؤال مقدّر، كأنهم قالوا: فماذا يكون إن عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ختم الآية بتهديدهم بما بين أن تهديدهم له عدم لا يبالي به، أتبعه ما يصدقه من أنه ليس بتارك شيئاً من عمله مما جبلوا به، وزاد في التهديد فقال: {ويا قوم اعملوا} أي أوقعوا العمل لكل ما تريدون قارين مستعلين {على مكانتكم} أي حالكم الذي تتمكنون به من العمل {إني عامل} على ما صار لي مكانة، أي حالاً أتمكن به من العمل لا أنفك عنه ما أنا عامل من تحذيري لمن كفر وتبشيري لمن آمن وقيامي بكل ما أوجب عليّ الملك غير هائب لكم ولا خائف منكم ولا طامع في مؤالفتكم ولا معتمد على سواه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا} لما رأى عليه السلام إصرارَهم على الكفر وأنهم لا يرعوون عما هم عليه من المعاصي حتى اجترأوا على العظيمة التي هي الاستهانةُ به والعزيمةُ على رجمه لولا حُرمةُ رهطِه، قال لهم على طريقة التهديد: اعملوا {على مَكَانَتِكُمْ} أي على غاية تمكّنِكم واستطاعتِكم يقال: مكُن مكانةً إذا تمكّن أبلغَ التمكّن وإنما قاله عليه السلام رداً لما ادَّعَوا أنهم أقوياءُ قادرون على رجمه وأنه ضعيفٌ فيما بينهم لا عزةَ له، أو على ناحيتكم وجِهَتكم التي أنتم عليها من قولهم: مكانٌ ومكانة كمقام ومقامة، والمعنى اثبُتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقّةِ لي وسائرِ ما أنتم عليه مما لا خيرَ فيه وابذُلوا جهدكم في مضارّتي وإيقافي ما في نيتكم وإخراج ما في أمنيتكم من القوة إلى الفعل {إني عامل} على مكانتي حسبما يؤيدني الله ويوفقني بأنواع التأييدِ والتوفيق {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} لما هدّدهم عليه السلام بقوله: اعمَلوا على مكانتكم إني عاملٌ كان مظِنّةَ أن يسألَ منهم سائلٌ فيقولَ: فماذا يكون بعد ذلك؟ فقيل: سوف تعلمون {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} وصَف العذابَ بالإخزاء تعريضاً بما أوعدوه عليه السلام به من الرجم فإنه مع كونه عذاباً فيه خِزيٌ ظاهرٌ حيث لا يكون إلا بجناية عظيمةٍ توجبه {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} عطفٌ على مَنْ يأتيه لا على أنه قسيمُه بل حيث أوعدوه بالرجم وكذبوه قيل: سوف تعلمون مَن المعذَّبُ ومن الكاذب، وفيه تعريضٌ بكذبهم في ادعائهم القوةَ والقُدرةَ على رجمه عليه السلام وفي نسبته إلى الضعف والهوانِ وفي ادعائهم الإبقاءَ عليه جانبِ الرهطِ، والاختلافُ بين المعطوفَين بالفعلية والاسميةِ لأن كذبَ الكاذبِ بمرتقَبٍ كإتيان العذاب بل إنما المرتقَبُ ظهورُ الكذبِ السابق المستمرّ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ويا قوم اعملوا على مكانتكم} هذا أمر تهديد ووعيد من واثق بقوته بربه، على انفراده في شخصه، وضعف قومه على كثرتهم، وإدلالهم عليه وتهديدهم له بقوتهم، أي اعملوا ما استطعتم على منتهى تمكنكم في قوتكم وعصبيتكم، [من مكن مكانة كضخم ضخامة إذا تمكن كل التمكن مما هو فيه وبصدده] أو على مكانكم الذي أنتم فيه، إذ يقال مكان ومكانة [كمقام ومقامة]. {إني عامل} على مكانتي التي أعطانيها أو وهبنيها ربي من دعوتكم إلى التوحيد وأمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر...
{سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب} هذا تصريح بالوعيد، بعد التلميح به بالأمر بالعمل المستطاع للتعجيز،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن هذه الغضبة لله. والتنصل من الاعتزاز أو الاحتماء بسواه، ينبعث ذلك التحدي الذي يوجهه شعيب إلى قومه؛ وتقوم تلك المفاصلة بينه وبينهم -بعد أن كان واحدا منهم- ويفترق الطريقان فلا يلتقيان: (ويا قوم اعملوا على مكانتكم).. وامضوا في طريقكم وخطتكم، فقد نفضت يدي منكم. (إني عامل).. على طريقتي ومنهجي. (سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب).. أنا أم أنتم؟
(وارتقبوا إني معكم رقيب).. للعاقبة التي تنتظرني وتنتظركم.. وفي هذا التهديد ما يوحي بثقته بالمصير. كما يوحي بالمفاصلة وافتراق الطريق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ثم يقف شعيب وقفة القوّة والعزّة التي يستمدها من إيمانه بالله وتوكله عليه، ليؤكد لهم صلابة موقفه، ومتانة مركزه، وقوّة شخصيته، وبأنه سيمضي في طريقه، بالرغم من كل تهاويلهم وتهديداتهم، ولن يتوقّف عن السير في الطريق إلى الله، مهما قالوا، ومهما فعلوا. {وَيا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي تابعوا الحال التي أنتم عليها في المجالات التي تملكون فيها إمكانات الحركة وظروف العمل، فهذا شأنكم في ما تريدون وما لا تريدون، {إِنِّي عامِلٌ} في الخط الذي أسير عليه لأني واثق بسلامته، وصحته، ولن يغيّر قناعاتي شيءٌ مما تهدون به، أو تثيرونه ضدي.. وسترون النتائج السلبية لمواقفكم الكافرة على مستوى الدنيا والآخرة، مقارنة بالمواقف الإيجابية لموقفي في السير على خط الرسالة. {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} ويرتفع عنكم غشاء الجهل والضلال الذي يغشي عيونكم وقلوبكم {وَارْتَقِبُواْ إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} ولن يطول انتظاري وانتظاركم فسيأتيكم العذاب الشديد، وستعرفون من الكاذب، والصادق في ساحة الصراع...