قال أبو حيان فى البحر : " لما أمر الله - تعالى - ببر الوالدين ، أمر بصلة القرابة . قال الحسن : نزلت فى قرابة النبى صلى الله عليه وسلم . والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر . . . } وألحق هنا ما يتعين له من صلة الرحم ، وسد الخلة ، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه . قال نحوه : ابن عباس وعكرمة والحسن وغيرهم " .
والمراد بذوى القربى : من تربطك بهم صلة القرابة سواء أكانوا من المحارم أم لا .
والمسكين : هو من لا يملك شيئا من المال ، أو يملك ما لا يسد حاجته ، وهذا النوع من الناس فى حاجة إلى العناية والرعاية ، لأنهم فى الغالب يفضلون الاكتفاء بالقليل ، على إراقة ماء وجوههم بالسؤال .
وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين الذى يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، قالوا : فما المسكين يا رسول الله ؟ قال الذى لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئا " .
وابن السبيل : هو المسافر المنقطع عن ماله سمى بذلك - كما يقول الآلوسى - لملازمته السبيل - أى : الطريق - فى السفر . أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته .
وهذا النوع من الناس - أيضا - فى حاجة إلى المساعدة والمعاونة ، حتى يستطيع الوصول إلى بلده .
وفى هذا الامر تنبيه إلى أن المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغى أن يكونوا فى التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسرة الواحدة .
والمعنى : وأعط - أيها العاقل - ذوى قرباك حقوقهم الثابتة لهم من البر ، وصلة الرحم ، والمعاونة ، والزيارة ، وحسن المعاشرة ، والوقوف إلى جانبهم فى السراء والضراء ، ونحو ذلك مما توجبه تعاليم دينك الحنيف .
وأعط - كذلك - المسكين وابن السبيل حقوقهما التى شرعها الله - تعالى - لهما ، من الإِحسان إليهما ، ومعاونتهما على ما يسد حاجتهما .
وقدم - سبحانه - الأقارب على غيرهم ، لأنهم أولى بالمعروف ، ولأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم .
روى الإِمام أحمد والترمذى والنسائى وغيرهم ، عن سليمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة على المسكين صدقة . وعلى ذى الرحم اثنتان : صدقة وصلة " .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } نهى عن وضع المال فى غير موضعه الذى شرعه الله - تعالى - مأخوذ من تفريق البذر وإلقائه فى الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه ، ثم استعير لتضييع المال فى غير وجوهه .
قال صاحب الكشاف : التبذير تفريق المال فيما لا ينبغى ، وإنفاقه على وجه الإِسراف ، وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها ، وتبذر أموالها فى الفخر والسمعة ، وتذكر ذلك فى أشعارها ، فأمر الله - تعالى - بالنفقة فى وجوهها ، مما يقرب منه ويزلف .
وقال ابن كثير : وقوله { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } : لما أمر بالإِنفاق نهى عن الإِسراف فيه ، بل يكون وسطا ، كما قال - تعالى - : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } وقال ابن مسعود : التبذير : الإنفاق فى غير حق . وكذا قال ابن عباس .
وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله فى الحق لم يكن مبذرا . ولو أنفق مُدا فى غير حقه كان تبذيرا .
ثم يمضي السياق بعد الوالدين إلى ذوي القربى أجمعين ؛ ويصل بهم المساكين وابن السبيل ، متوسعا في القرابات حتى تشمل الروابط الإنسانية بمعناها الكبير :
( وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ، وكان الشيطان لربه كفورا ؛ وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ، فقل لهم قولا ميسورا ) .
والقرآن يجعل لذي القربى والمسكين وابن السبيل حقا في الأعناق يوفى بالإنفاق . فليس هو تفضلا من أحد على أحد ؛ إنما هو الحق الذي فرضه الله ، ووصله بعبادته وتوحيده . الحق الذي يؤديه المكلف فيبريء ذمته ، ويصل المودة بينه وبين من يعطيه ، وإن هو إلا مؤد ما عليه لله .
وينهى القرآن عن التبذير . والتبذير - كما يفسره ابن مسعود وابن عباس - الإنفاق في غير حق . وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا ، ولو أنفق مدا في غير حق كان مبذرا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والمسكين}، يعني: السائل، فتصدق عليه،
{و} حق {وابن السبيل} أن تحسن إليه، وهو الضيف نازل عليه،
{ولا تبذر تبذيرا}، يعني: المنفقين في غير حق...
585- ابن العربي: قال أشهب، عن مالك: التبذير هو منعه من حقه، ووضعه في غير حقه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله:"وآتِ ذَا القُرْبى"؛
فقال بعضهم: عَنى به: قرابة الميت من قِبل أبيه وأمه، أمر الله جلّ ثناؤه عباده بصلتها...
وقال آخرون: بل عنى به قرابه رسول الله صلى الله عليه وسلم...
وأولى التأويلين عندي بالصواب، تأويل من تأوّل ذلك أنها بمعنى وصية الله عباده بصلة قرابات أنفسهم وأرحامهم من قِبَل آبائهم وأمهاتهم، وذلك أن الله عزّ وجلّ عَقّب ذلك عقيب حَضّه عباده على بر الآباء والأمّهات، فالواجب أن يكون ذلك حَضّا على صلة أنسابهم دون أنساب غيرهم التي لم يجر لها ذكر. وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: وأعط يا محمد ذا قرابتك حقه من صلتك إياه، وبرّك به، والعطف عليه. وخرج ذلك مَخْرج الخطاب لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بحكمه جميع من لزمته فرائض الله، يدلّ على ذلك ابتداؤه الوصية بقوله جلّ ثناؤه: "وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما "فوجّه الخطاب بقوله "وَقَضَى رَبّكَ" إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال "ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ" فرجع بالخطاب به إلى الجميع، ثم صرف الخطاب بقوله: "إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ" إلى إفراده به. والمعنيّ بكل ذلك جميع من لزمته فرائض الله عزّ وجلّ، أفرد بالخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، أو عمّ به هو وجميع أمته.
وقوله: "والمِسْكِينَ" وهو الذلّة من أهل الحاجة...
وقوله: "وَابْنَ السّبِيلِ" يعني: المسافر المنقطع به، يقول تعالى: وصِل قرابتك، فأعطه حقه من صلتك إياه، والمسكين ذا الحاجة، والمجتاز بك المنقطع به، فأعنه، وقوّه على قطع سفره. وقد قيل: إنما عنى بالأمر بإتيان ابن السبيل حقه أن يضاف ثلاثة أيام.
والقول الأوّل عندي أولى بالصواب، لأن الله تعالى لم يخصُصْ من حقوقه شيئا دون شيء في كتابه، ولا على لسان رسوله، فذلك عامّ في كلّ حقّ له أن يُعطاه من ضيافة أو حمولة أو مَعُونة على سفره.
وقوله: "وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا" يقول: ولا تفرّق يا محمد ما أعطاك الله من مال في معصيته تفريقا. وأصل التبذير: التفريق في السّرَف ومنه...
[عن] عبد الله بن مسعود عن هذه الآية "ولا تُبَذّرْ تَبْذِيرا" قال: إنفاق المال في غير حقه... عن قتادة، قوله: "وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا" قال: التبذير: النفقة في معصية الله، وفي غير الحقّ وفي الفساد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} كأن الآية، هي صلة قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} (الإسراء: 33) أي وقضى أن تؤتي ذا القربى حقه ومن ذكر، أي فرض، وحتم، وحكم على اختلاف ما قالوا، وهو كقوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى} الآية {النساء: 36) أمر صلى الله عليه وسلم ببر الوالدين والشكر لهما وصلة ذي القربى فريضة ومن ذكر. ثم اختلفوا في قوله: {حقه}:
قال بعضهم: ذلك الحق فريضة وهو الزكاة حين جعل ذلك صلة ما هو فرض، وهو الشكر لله وجعل العبادة له وشكر الوالدين جزاءا لما كان منهما إليه. وقد ذكرنا أن ذلك فرض لازم. فعلى ذلك صلة هؤلاء. إن صلتهم فريضة لما جاء من المواعيد الشديدة في قطع الرحم والترغيب في صلتهم.
ومنهم من قال: ذلك الحق نفل. ألا ترى أنه قال: {ولا تبذر تبذيرا} (وقال:) {ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء/ 29) وقال: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} (الإسراء: 28) فلا يحتمل ما ذكر من الإعراض {عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} في الفرض. دل أنه في النفل، والله أعلم.
{ولا تبذر تبذيرا} قال بعضهم: التبذير والإسراف واحد، وهو المجاوزة عن الحد الذي جعل في الإنفاق والحقوق، والمجاوزة عن المحق وغير المحق. روي عن ابن مسعود أنه سئل عن التبذير، فقال إنفاق المال في غير حقه. وكذلك قول ابن عباس رضي الله عنه.
وقال بعضهم: التبذير هو الإنفاق في ما لا ينتفع به. ويحتمل ما ذكرنا أنه يترك الإنفاق على المحق وهو ذو القربى، وينفق على الأجنبيين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إيتاءُ الحقِّ يكون من المال ومن النَّفْس ومن القول ومن الفعل، ومَنْ نَزَل على اقتضاء حقِّه، وبذل الكُلَّ لأجل ما طالبه به من حقوق. فهو القائم بما ألزمه الحقُّ سبحانه بأمره. والتبذيرُ مجاوزةُ الحدِّ عمَّا قدَّره الأمرُ والإذنُ.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَأَمَرَ [الله عز وجل] بِتَوْصِيلِ حَقِّهِ إلَيْهِ [يقصد ذا القربى] من صِلَةِ رَحِمٍ وَأَدَاءِ حَقٍّ من مِيرَاثٍ وَسِوَاهُ فَلَا يُبَدَّلُ فِيهِ، وَلَا يُغَيَّرُ عَنْ جِهَتِهِ بِتَوْلِيجِ وَصِيَّةٍ، أَوْ سِوَى ذَلِكَ من الدَّخْلِ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولًا مُتَقَدِّمًا، أَوْ من طَرِيقِ الْأَوْلَى، من جِهَةِ أَنَّ الْآيَةَ لِلْقَرَابَةِ الْأَدْنَيْنَ الْمُخْتَصِّينَ بِالرَّجُلِ، فَأَمَّا قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَبَانَ اللَّهُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ حَقَّهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ هِيَ أَجْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هُدَاهُ لَنَا...
{وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}: وَلَهُمْ حَقَّانِ:
أَحَدُهُمَا: أَدَاءُ الزَّكَاةِ.
وَالثَّانِي: الْحَقُّ الْمُفْتَرَضُ من الْحَاجَةِ عِنْدَ عَدَمِ الزَّكَاةِ، أَوْ فَنَائِهَا، أَوْ تَقْصِيرِهَا من عُمُومِ الْمُحْتَاجِينَ، وَأَخْذِ السُّلْطَانِ دُونَهُمْ...
{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}... وَهُوَ الْإِسْرَافُ، وَذَلِكَ حَرَامٌ بِقَوْلِهِ: {إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} وَذَلِكَ نَصٌّ فِي التَّحْرِيمِ...
فإِنْ قِيلَ: فَمَنْ أَنْفَقَ فِي الشَّهَوَاتِ، هَلْ هُوَ مُبَذِّرٌ أَمْ لَا؟ قُلْنَا: مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي الشَّهَوَاتِ زَائِدًا عَلَى الْحَاجَاتِ، وَعَرَّضَهُ بِذَلِكَ لَلنَّفَادِ فَهُوَ مُبَذِّر. وَمَنْ أَنْفَقَ رِبْحَ مَالِهِ فِي شَهَوَاتِهِ، أَوْ غَلَّتَهُ، وَحَفِظَ الْأَصْلَ أَوْ الرَّقَبَةَ، فَلَيْسَ بِمُبَذِّرٍ. وَمَنْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا فِي حَرَامٍ فَهُوَ مُبَذِّرٌ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي نَفَقَةِ دِرْهَمٍ فِي الْحَرَامِ، وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِبَذْلِهِ فِي الشَّهَوَاتِ، إلَّا إذَا خِيفَ عَلَيْهِ النَّفَادُ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
التبذير: بسط اليد في المال على حسب الهوى جزافاً، وأما الجود فبمقدار معلوم، لأنه اتباع أمر الله في الحقوق المالية، ومنها معلوم بحسب القدر، ومنها معلوم بحسب الوصف كمعاضدة أهل الملة وشكر أهل الإحسان إليك ونحو ذلك...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا} نهيٌ عن صرف المال إلى من سواهم ممن لا يستحقه فإن التبذيرَ تفريقٌ في غير موضعه مأخوذٌ من تفريق حباتٍ وإلقائِها كيفما كان من غير تعهّدٍ لمواقعه، لا عن الإكثار في صرفه إليهم وإلا لناسبه الإسرافُ الذي هو تجاوزُ الحدِّ في صرفه، وقد نُهي عنه بقوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَبْسُطْهَا} وكلاهما مذموم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} من البر والإكرام الواجب والمسنون وذلك الحق يتفاوت بتفاوت الأحوال والأقارب والحاجة وعدمها والأزمنة.فيعطي الجميع من المال على وجه لا يضر المعطي ولا يكون زائدا على المقدار اللائق فإن ذلك تبذير قد نهى الله عنه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
القرآن يجعل لذي القربى والمسكين وابن السبيل حقا في الأعناق يوفى بالإنفاق. فليس هو تفضلا من أحد على أحد؛ إنما هو الحق الذي فرضه الله، ووصله بعبادته وتوحيده. الحق الذي يؤديه المكلف فيبريء ذمته، ويصل المودة بينه وبين من يعطيه، وإن هو إلا مؤد ما عليه لله.
وينهى القرآن عن التبذير. والتبذير -كما يفسره ابن مسعود وابن عباس- الإنفاق في غير حق. وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا، ولو أنفق مدا في غير حق كان مبذرا.
فليست هي الكثرة والقلة في الإنفاق. إنما هو موضع الإنفاق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الخطاب لغير معين مثل قوله: {إما يبلغن عندك الكبر} [الإسراء: 23]. والعدول عن الخطاب بالجمع في قوله: {ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين} [الإسراء: 25] الآية إلى الخطاب بالإفراد بقوله: {وآت ذا القربى} تفنن لتجنب كراهة إعادة الصيغة الواحدة عدة مرات، والمخاطب غير معين فهو في معنى الجمع. والجملة معطوفة على جملة {ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] لأنها من جملة ما قضى الله به...
والإيتاء: الإعطاء. وهو حقيقة في إعطاء الأشياء، ومجاز شائع في التمكين من الأمور المعنوية كحسن المعاملة والنصرة... وإطلاق الإيتاء هنا صالح للمعنيين كما هي طريقة القرآن في توفير المعاني وإيجاز الألفاظ...
وقد بينت أدلّة شرعية حقوق ذي القربى ومراتبها: من واجبة مثل بعض النفقة على بعض القرابة مبينة شروطها عند الفقهاء، ومن غير واجبة مثل الإحسان...
والتعريف في {القربى} تعريف الجنس، أي القربى منك، وهو الذي يعبر عنه بأن (ال) عوض عن المضاف إليه... {ولا تبذر تبذيرا} لما ذكر البذل المحمود وكان ضده معروفاً عند العرب أعقبه بذكره للمناسبة. ولأن في الانكفاف عن البذل غير المحمود الذي هو التبذير استبقاء للمال الذي يفي بالبذل المأمور به، فالانكفاف عن هذا تيسير لذاك وعون عليه.
{وآت ذا القربى حقه}: (حقه) لأن الله تعالى جعله حقاً للأقارب إن كانوا في حاجة، وإلا فلو كانا غير محتاجين، فالعطاء بينهما هدية متبادلة، فكل قريب يهادي أقرباءه ويهادونه. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يشيع في المجتمع روح التكافل الاجتماعي... وكلمة (حق) وردت في القرآن على معنيين:
الأول: في قوله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم "24 "} (سورة الإسراء): والحق المعلوم هو الزكاة.
أما الحق الآخر فحق غير معلوم وغير موصوف، وهو التطوع والإحسان، حيث تتطوع لله بجنس ما فرضه عليك...
و (المسكين) هو الذي يملك وله مال، لكن لا يكفيه، بدليل قوله الحق سبحانه: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر.. "79 "} (سورة الكهف): أما الفقير فهو الذي لا يملك شيئاً، وقد يعكس البعض في تعريف المسكين والفقير، وهذا فهم خاطئ... وابن السبيل إذا طلب المساعدة لا تسأله عن حقيقة حاله، لأن له حقاً واجباً فلا تجعله في وضع مذلة أو حرج... فالحق سبحانه آثر التعبير عن الإسراف بلفظ (التبذير)؛ لأنه يضيع المال في غير موضعه المناسب، وينفق هكذا كلما اتفق دون نظام، فقد يعطي بسخاء في غير ما يلزم، في حين يمسك في الشيء الضروري. إذن: التبذير: صرف المال في غير حله، أو في غير حاجة، أو ضرورة... والنهي عن التبذير هنا قد يراد منه النهي عن التبذير في الإيتاء، يعني حينما تعطي حق الزكاة، فلا تأخذك الأريحية الإيمانية فتعطي أكثر مما يجب عليك... وقد يكون المعنى: أعط ذا القربى والمساكين وابن السبيل، ولكن لا تبذر في الأمور الأخرى، فالنهي هنا لا يعود إلى الإيتاء، بل إلى الأمور التافهة التي ينفق فيها المال في غير ضرورة...