التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ} (5)

وقوله - سبحانه - { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } بيان للآثار الفظيعة التى ترتبت على ما فعلته الحجارة التى أرسلتها الطيور عليهم بإذن الله - تعالى - .

والعصف : ورق الزرع الذى يبقى فى الأرض بعد الحصاد ، وتعصفه الرياح فتأكله الحيوانات . أو هو التبن الذى تأكله الدواب .

أى : سلط الله - تعالى - عليهم طيرا ترميهم بحجارة من طين متحجر ، فصاروا بسبب ذلك صرعى هالكين ، حالهم في تمزقهم وتناثرهم كحال أوراق الأشجار اليابسة ، أو التبن الذي تأكله الدواب .

وهكذا نرى السورة الكريمة قد ساقت من مظاهرة قدرة الله - تعالى - ما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، وثباتا على ثباتهم ، وما يحمل الكافرين على الاهتداء إلى الحق ، والإِقلاع عن الشرك والجحود لو كانوا يعقلون .

نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من عباده الشاكرين .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ} (5)

والعصف : الجاف من ورق الشجر . ووصفه بأنه مأكول : أي فتيت طحين ! حين تأكله الحشرات وتمزقه ، أو حين يأكله الحيوان فيمضغه ويطحنه ! وهي صورة حسية للتمزيق البدني بفعل هذه الأحجار التي رمتهم بها جماعات الطير . ولا ضرورة لتأويلها بأنها تصوير لحال هلاكهم بمرض الجدري أو الحصبة .

ختام السورة:

فأما دلالة هذا الحادث والعبر المستفادة من التذكير به فكثيرة . .

وأول ما توحي به أن الله - سبحانه - لم يرد أن يكل حماية بيته إلى المشركين ، ولو أنهم كانوا يعتزون بهذا البيت ، ويحمونه ويحتمون به . فلما أراد أن يصونه ويحرسه ويعلن حمايته له وغيرته عليه ترك المشركين يهزمون أمام القوة المعتدية . وتدخلت القدرة سافرة لتدفع عن بيت الله الحرام ، حتى لا تتكون للمشركين يد على بيته ولا سابقة في حمايته ، بحميتهم الجاهلية . ولعل هذه الملابسة ترجح ترجيحا قويا أن الأمر جرى في إهلاك المعتدين مجرى السنة الخارقة - لا السنة المألوفة المعهودة - فهذا أنسب وأقرب . .

ولقد كان من مقتضى هذا التدخل السافر من القدرة الإلهية لحماية البيت الحرام أن تبادر قريش ويبادر العرب إلى الدخول في دين الله حينما جاءهم به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وألا يكون اعتزازهم بالبيت وسدانته وما صاغوا حوله من وثنية هو المانع لهم من الإسلام ! وهذا التذكير بالحادث على هذا النحو هو طرف من الحملة عليهم ، والتعجيب من موقفهم العنيد !

كذلك توحي دلالة هذا الحادث بأن الله لم يقدر لأهل الكتاب - أبرهة وجنوده - أن يحطموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة . حتى والشرك يدنسه ، والمشركون هم سدنته . ليبقي هذا البيت عتيقا من سلطان المتسلطين ، مصونا من كيد الكائدين . وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة ، لا يهيمن عليها سلطان ، ولا يطغى فيها طاغية ، ولا يهيمن على هذا الدين الذي جاء ليهيمن على الأديان وعلى العباد ، ويقود البشرية ولا يقاد . وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام !

ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن ، إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من الصليبية العالمية والصهيونية العالمية ، ولا تني أو تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة . فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته مشركون ، سيحفظه إن شاء الله ، ويحفظ مدينة رسوله من كيد الكائدين ومكر الماكرين !

والإيحاء الثالث هو أن العرب لم يكن لهم دور في الأرض . بل لم يكن لهم كيان . قبل الإسلام . كانوا في اليمن تحت حكم الفرس أو الحبشة . وكانت دولتهم حين تقوم هناك أحيانا تقوم تحت حماية الفرس . وفي الشمال كانت الشام تحت حكم الروم إما مباشرة وإما بقيام حكومة عربية تحت حماية الرومان . . ولم ينج إلا قلب الجزيرة من تحكم الأجانب فيه . ولكنه ظل في حالة بداوة أو في حالة تفكك لا تجعل منه قوة حقيقية في ميدان القوى العالمية . وكان يمكن أن تقوم الحروب بين القبائل أربعين سنة ، ولكن لم تكن هذه القبائل متفرقة ولا مجتمعة ذات وزن عند الدول القوية المجاورة . وما حدث في عام الفيل كان مقياسا لحقيقة هذه القوة حين تتعرض لغزو أجنبي .

وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه . وأصبحت لهم قوة دولية يحسب لها حساب . قوة جارفة تكتسح الممالك وتحطم العروش ، وتتولى قيادة البشرية ، بعد أن تزيح القيادات الجاهلية المزيفة الضالة . . ولكن الذي هيأ للعرب هذا لأول مرة في تاريخهم هو أنهم نسوا أنهم عرب ! نسوا نعرة الجنس ، وعصبية العنصر ، وذكروا أنهم ومسلمون . مسلمون فقط . ورفعوا راية الإسلام ، وراية الإسلاموحدها . وحملوا عقيدة ضخمة قوية يهدونها إلى البشرية رحمة وبرا بالبشرية ؛ ولم يحملوا قومية ولا عنصرية ولا عصبية . حملوا فكرة سماوية يعلمون الناس بها لا مذهبا أرضيا يخضعون الناس لسلطانه . وخرجوا من أرضهم جهادا في سبيل الله وحده ، ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها ، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها ، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكمهم أنفسهم ! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة الله وحده ، كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد : " الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " .

عندئذ فقط كان للعرب وجود ، وكانت لهم قوة ، وكانت لهم قيادة . . ولكنها كانت كلها لله وفي سبيل الله . وقد ظلت لهم قوتهم . وظلت لهم قيادتهم ما استقاموا على الطريقة . حتى إذا انحرفوا عنها وذكروا عنصريتهم وعصبيتهم ، وتركوا راية الله ليرفعوا راية العصبية نبذتهم الأرض وداستهم الأمم ، لأن الله قد تركهم حيثما تركوه ، ونسيهم مثلما نسوه !

وما العرب بغير الإسلام ? ما الفكرة التي قدموها للبشرية أو يملكون تقديمها إذا هم تخلوا عن هذه الفكرة ? وما قيمة أمة لا تقدم للبشرية فكرة ? إن كل أمة قادت البشرية في فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرة . والأمم التي لم تكن تمثل فكرة كالتتار الذين اجتاحوا الشرق ، والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانية في الغرب لم يستطيعوا الحياة طويلا ، إنما ذابوا في الأمم التي فتحوها . والفكرة الوحيدة التي تقدم بها العرب للبشرية كانت هي العقيدة الإسلامية ، وهي التي رفعتهم إلى مكان القيادة ، فإذا تخلوا عنها لم تعد لهم في الأرض وظيفة ، ولم يعد لهم في التاريخ دور . . وهذا ما يجب أن يذكره العرب جيدا إذا هم أرادوا الحياة ، وأرادوا القوة ، وأرادوا القيادة . . والله الهادي من الضلال . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ} (5)

وقوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأكولٍ } يعني تعالى ذكره : فجعل الله أصحاب الفيل كزرع أكلته الدوابّ فراثته ، فيبس وتفرّقت أجزاؤه ، شبّه تقطّع أوصالهم بالعقوبة التي نزلت بهم ، وتفرّق آراب أبدانهم بها ، بتفرّق أجزاء الروث ، الذي حدث عن أكل الزرع .

وقد كان بعضهم يقول : العَصْف : هو القشر الخارج الذي يكون على حبّ الحنطة من خارج ، كهيئة الغلاف لها . ذكر من قال : عُنِي بذلك ورق الزرع :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } قال : ورق الحنطة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { كَعَصْفٍ مأْكُولٍ }قال : هو التّبن .

وحُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } : كزرع مأكول .

حدثني محمد بن عُمارة الأسديّ ، قال : حدثنا زريق بن مرزوق ، قال : حدثنا هبيرة ، عن سَلَمة بن نُبَيط ، عن الضحاك ، في قوله { كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } قال : هو الهَبُور بالنبطية ، وفي رواية : المقهور .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } قال : ورق الزرع وورق البقل ، إذا أكلته البهائم فراثته ، فصار رَوْثا .

ذكر من قال : عُني به قشر الحبّ :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس { كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } قال : البُرّ يؤكل ويُلْقى عَصْفُه الريح . والعَصْف : الذي يكون فوق البرّ : هو لحاء البرّ .

وقال آخرون في ذلك بما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن حبيب بن أبي ثابت : { كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } قال : كطعام مطعوم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ} (5)

و «العصف » : ورق الحنطة وتبنه ، ومنه قول علقمة بن عبدة : [ البسيط ]

تسقى مذانب قد مالت عصيفتها . . . حدورها من أتيّ الماء مطموم{[11990]}

والمعنى صاروا طيناً ذاهباً كورق حنطة أكلته الدواب وراثته{[11991]} فجمع المهانة والخسة وأتلف ، وقرأ أبو الخليج الهذلي{[11992]} " فتركتهم كعصف " ، قال أبو حاتم ، وقرأ بعضهم : «فجعلتهم » يعنون الطير بفتح اللام وتاء ساكنة ، وقال عكرمة : العصف حب البر إذا أكل فصار أجوف ، وقال الفراء : هو أطراف الزرع قبل أن يسنبل ، وهذه السورة متصلة في مصحف أبي بن كعب بسورة { لإيلاف قريش } لا فصل بينهما{[11993]} ، وقال سفيان بن عيينة : كان لنا إمام يقرأ بهما متصلة سورة واحدة .


[11990]:قال علقمة هذا البيت من قصيدة له يتناول فيها حبيبته ثم ناقته قبل أن يتحدث عن شخصيته، والبيت واحد من الأبيات التي يصف فيها الناقة فيكثر من ذكر التفاصيل. والمذانب: مدافع الماء إلى الأرض، والعصيفة: الورق المجتمع الذي يكون فيه السنبل، والحدور: ما انحدر من الأرض واطمأن، والأتي: السيل المندفع، والمطموم الممتلىء. يقول: إن هذه الناقة –التي وصفها قبل ذلك بالقوة وضخامة الجسم – تسقي هذه المذانب التي زال عنها ما كان بها من عصيفة، وامتلأ ما انخفض منها بماء السيل المندفع إليه من أعلى.
[11991]:أي أخرجته روثا.
[11992]:هو أبو المليح بن أسامة بن عمير – أو عامر- بن حنيف بن ناجية الهذلي، اسمه عامر، وقيل: زيد، وقيل : زياد. قال عنه الحافظ العسقلاني في (تقريب التهذيب): "ثقة، مات سنة ثمان وتسعين، وقيل: ثمان ومائة، وقيل: بعد ذلك".
[11993]:فيكون المعنى متصلا، والتقدير: فعلت ذلك بأصحاب الفيل حتى تألف قريش ما أنعمت به عليها من رحلتي الشتاء والصيف.