ثم ختمت السورة الكريمة بخمس آيات جامعة لوجوه الخير ، من تأملها تجلى له أنها ختام حكيم يناسب هذه السورة التى هى سورة البلاغ والإعلان ، والمبادىء العليا لدعوة الإيمان .
أما الآيات الخمس فهى قوله - تعالى - : { قُلْ إِنَّنِي . . . } .
أى : قل يا محمد لهؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، ولغيرهم ممن أرسلت إليهم ، قل لهم جميعاً : لقد هدانى خالقى ومربينى إلى دين الإسلام الذى ارتضاه لعباده { دِيناً قِيَماً } أى : ثابتاً أبداً لا تغيره الملل والنحل ولا تنسخه الشرائع والكتب .
وقوله { دِيناً } نصب على البدل من محل { إلى صِرَاطٍ } لأن معناه هدانى صراطاً ، أو مفعول لمضمر يدل عليه المذكور . أى : عرفنى ديناً .
وقوله { قِيَماً } صفى ل { دِيناً } والقَيِّم والقِيَم لغتان بمعنى واحد وقرىء بهما .
وقوله { مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } منصوب بتقدير أعنى أو عطف بيان ل { دِيناً } و { حَنِيفاً } حال من إبراهيم . أى : هدانى ربى ووفقنى إلى دين الإسلام الذى هو الصراط المستقيم والدين القيم المتفق مع ملة إبراهيم الذى كان مائلا عن كل دين باطل إلى دين الحق ، والذى ما كان أبدا { مِنَ المشركين } مع الله آلهة أخرى فى شأن من شئونه . لا كما يزعم المشركون وأهل الكتاب أن إبراهيم كان على دينهم .
وفي ختام السورة - وختام الحديث الطويل عن قضية التشريع والحاكمية - تجيء التسبيحة الندية الرخية ، في إيقاع حبيب إلى النفس قريب ؛ وفي تقرير كذلك حاسم فاصل . . ويتكرر الإيقاع الموحي في كل آية : ( قل ) . . ( قل ) . . ( قل ) . . ويلمس في كل آية أعماق القلب البشري لمسات دقيقة عميقة في مكان التوحيد . . توحيد الصراط والملة . توحيد المتجه والحركة . توحيد الإله والرب . توحيد العبودية والعبادة . . مع نظرة شاملة إلى الوجود كله وسنته ومقوماته .
قل : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين . قل : أغير الله أبغي ربا ، وهو رب كل شيء ، ولا تكسب كل نفس إلا عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم ، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم . إن ربك سريع العقاب ، وإنه لغفور رحيم . .
هذا التعقيب كله ، الذي يؤلف مع مطلع السورة لحناً رائعاً باهراً متناسقاً ، هو تعقيب ينتهي به الحديث عن قضية الذبائح والنذور والثمار ، وما تزعمه الجاهلية بشأنها من شرائع ، تزعم أنها من شرع الله افتراء على الله . . فأية دلالة يعطيها هذا التعقيب ؟ إنها دلالة لا تحتاج بعد ما سبق من البيان إلى مزيد . .
( قل : إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم . ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ) .
إنه الإعلان الذي يوحي بالشكر ، ويشي بالثقة ، ويفيض باليقين . . اليقين في بناء العبادة اللفظي ودلالتها المعنوية ، والثقة بالصلة الهادية . . صلة الربوبية الموجهة المهيمنة الراعية . . والشكر على الهداية إلى الصراط المستقيم ، الذي لا التواء فيه ولا عوج : ( دينا قيماً ) . . وهو دين الله القديم منذ إبراهيم . أبي هذه الأمة المسلمة المبارك المخلص المنيب : ( ملة إبراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مّلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام إنّنِي هَدَانِي رَبّي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول : قل لهم : إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم ، هو دين الله الذي ابتعثه به ، وذلك الحنيفية المسلمة ، فوفقني له . دِينا قِيَما يقول : مستقيما . ملّةَ إبْرَاهِيمَ يقول : دين إبراهيم . حَنِيفا يقول : مستقيما . وَما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ يقول : وما كان من المشركين بالله ، يعني : إبراهيم صلوات الله عليه ، لأنه لم يكن ممن يعبد الأصنام .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : دِينا قِيَما فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض البصريين : «دِينا قَيّما » بفتح القاف وتشديد الياء إلحاقا منهم ذلك بقول الله : ذلكَ الدّينُ القَيّمُ وبقوله : ذلكَ دِينُ القَيّمَةِ . وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفيين : دِينا قِيَما بكسر القاف وفتح الياء وتخفيفها ، وقالوا : القَيّمُ والقِيَم بمعنى واحد ، وهم لغتان معناهما : الدين المستقيم .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار ، متفقتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فهو للصواب مصيب ، غير أن فتح القاف وتشديد الياء أعجب إليّ ، لأنه أفصح اللغتين وأشهرهما . ونصب قوله : دِينا على المصدر من معنى قوله : إنّنِي هَدَانِي رَبّي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وذلك أن المعنى هداني ربي إلى دين قويم ، فاهتديت له دينا قيما ، فالدين منصوب من المحذوف الذي هو اهتديت الذي ناب عنه قوله : إنني هَدَاني رَبّي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وقال بعض نحويي البصرة : إنما نصب ذلك لأنه لما قال : هَدَانِي رَبي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ قد أخبر أنه عرف شيئا ، فقال : «دِينا قَيّما » كأنه قال : عرفت دينا قيما ملة إبراهيم . وأما معنى الحنيف ، فقد بينته في مكانه في سورة البقرة بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
هذا أمر من الله عز وجل لنبيه عليه السلام بالإعلان بشريعته ونبذ ما سواها من أضاليلهم ، ووصف الشريعة بما هي عليه من الحسن والفضل والاستقامة ، و { هداني } معناه أرشدني بخلق الهدى في قلبي . والرب المالك ، ولفظه مصدر من قولك ربه يربه ، وإنما هو مثل عدل ورضى في أنه مصدر وصف به . وأصله ذو الرب ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فقيل الرب . و «الصراط » الطريق و { ديناً } منصوب ب { هداني } المقدر الذي يدل عليه { هداني } الأول ، وهذا الضمير إنما يصل وحده دون أن يحتاج إلى إضمار إلى . إذ هدى يصل بنفسه إلى مفعوله الثاني وبحرف الجر ، فهو فعل متردد وقيل نصب { ديناً } فعل مضمر تقديره عرفني ديناً . وقيل تقديره فاتبعوا ديناً فالزموا ديناً ، وقيل نصب على البدل من { صراط } على الموضع ، أن تقديره هداني ربي صراطاً مستقيماً ، و { قيماً } نعت للدين ، ومعناه مستقيماً معتدلاً . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «قَيِّماً » بفتح القاف وكسر الياء وشدها . وأصله قيوم عللت كتعليل سيد وميت ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «قِيَماً » بكسر القاف وفتح الياء على وزن فعل ، وكأن الأصل أن يجيء فيه قوماً كعوض وحول إلا أنه شذ كشذوذ قولهم جياد في جمع جواد وثيرة في جمع ثور ، و { ملة } بدل من الدين ، والملة الشريعة و { حنيفاً } نصب على الحال من { إبراهيم } ، والحنف في كلام العرب الميل فقد يكون الميل إلى فساد كحنف الرجل .
وكقوله { فمن خاف من موص حنفاً }{[5178]} على قراءة من قرأ بالحاء غير المنقوطة ونحو ذلك . وقد يكون الحنف إلى الصلاح كقوله عليه السلام : «الحنيفية السمحة »{[5179]} و «الدين الحنيف » ونحوه ، وقال ابن قتيبة : الحنف الاستقامة{[5180]} وإنما سمي الأحنف في الرجل على جهة التفاؤل له . { وما كان من المشركين } نفي للنقيصة عنه صلى الله عليه وسلم .