ثم أقام - سبحانه - الدليل على كمال قدرته وشمولها لكل شيء فقال : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } .
والمعنى : أنه - سبحانه - مالك لجميع الكائنات العلوية والسفلية ، وأنه هو المتصرف كما يشاء في ذواتها وأحوالها ، وأنه يتصرف في أمورهم ويجريها على حسب ما يصلحهم ، وهو أعلم بما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ وليس للناس من أحد يتولى أمورهم ، ويعينهم على أعدائهم سواه ، ومن كان الله وليه ونصيره علم يقينا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له في دنياه وأخراه .
وإذن فأنتم - أيها اليهود - ما قدرتم الله حق قدره ، لزعمكم أن النسخ محال على الله لأن المالك لكل شيء ، من حقه أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يريد على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته .
فالآية واقعة موقع الدليل على ما تضمنته الجملة السابقة من إحاطة قدرته - سبحانه - بكل شيء .
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ }
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : أوَ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله على كل شيء قدير وأنه له ملك السموات والأرض حتى قيل له ذلك ؟ قيل : بلى ، فقد كان بعضهم يقول : إنما ذلك من الله جل ثناؤه خبر عن أن محمدا قد علم ذلك ولكنه قد أخرج الكلام مخرج التقرير كما تفعل مثله العرب في خطاب بعضها بعضا ، فيقول أحدهما لصاحبه : ألم أكرمك ؟ ألم أتفضل عليك ؟ بمعنى إخباره أنه قد أكرمه وتفضل عليه ، يريد أليس قد أكرمتك ؟ أليس قد تفضلت عليك ؟ بمعنى قد علمتَ ذلك .
قال : وهذا لا وجه له عندنا وذلك أن قوله جل ثناؤه ألَمْ تَعْلَمْ إنما معناه : أما علمت . وهو حرف جحد أدخل عليه حرف استفهام ، وحروف الاستفهام إنما تدخل في الكلام إما بمعنى الاستثبات ، وإما بمعنى النفي . فأما بمعنى الإثبات فذلك غير معروف في كلام العرب ، ولاسيما إذا دخلت على حروف الجحد ولكن ذلك عندي وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإنما هو معنّي به أصحابه الذين قال الله جل ثناؤه : { لا تَقُولُوا رَاعِنا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسمَعُوا } . والذي يدّل على أن ذلك كذلك قوله جل ثناؤه : { وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } فعاد بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم ، وقد ابتدأ أوّلها بخطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله : { ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ } لأن المراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه ، وذلك من كلام العرب مستفيض بينهم فصيح . أن يخرج المتكلم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره ، وعلى وجه الخطاب لواحد وهو يقصد به جماعة غيره ، أو جماعة والمخاطب به أحدهم وعلى هذا الخطابُ للجماعة والمقصود به أحدهم ، من ذلك قول الله جل ثناؤه : { يا أيّهَا النّبِيّ اتّقِ اللّهَ وَلاَ تُطِعِ الكافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ } ثم قال : { وَاتّبِعْ ما يُوحَى إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ إِنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا } ، فرجع إلى خطاب الجماعة ، وقد ابتدأ الكلام بخطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم . ونظير ذلك قول الكُميت بن زيد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إلى السّرَاجِ المُنيرِ أحْمَدَ لا *** يَعْدِلُنِي رَغْبَةٌ وَلا رَهَبُ
عَنْهُ إلى غيرِهِ وَلَوْ رَفَعَ النّاس إليّ العُيُونَ وَارْتَقَبُوا
وقيلَ أفْرَطْتَ بَلْ قَصَدْتُ وَلَوْ *** عَنّفَنِي القائِلُونَ أوْ ثَلَبُوا
لجّ بتَفْضِيلِكَ اللّسانُ وَلَوْ *** أُكْثِرَ فِيكَ الضّجاجُ واللّجَبُ
أنتَ المُصَفّي المحْضُ المهذّبُ في النّسْبةِ إنْ نَصّ قوْمَكَ النّسَبُ
فأخرج كلامه على وجه الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهو قاصد بذلك أهل بيته ، فكني عن وصفهم ومدحهم بذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن بني أمية بالقائلين المعنفين لأنه معلوم أنه لا أحد يوصف بتعنيف مادح النبيّ صلى الله عليه وسلم وتفضيله ، ولا بإكثار الضجاج واللجب في إطناب القيل بفضله . وكما قال جميل بن معمر :
ألا إنّ جِيرَانِي العَشِيّةَ رَائِحُ *** دَعَتْهُمْ دَوَاعٍ مِنْ هَوًى وَمَنَادِحُ
فقال : «ألا إن جيراني العشية » فابتدأ الخبر عن جماعة جيرانه ، ثم قال : «رائح » لأن قصده في ابتدائه ما ابتدأ به من كلامه الخبر عن واحد منهم دون جماعتهم . وكما قال جميل أيضا في كلمته الأخرى :
خَلِيلَيّ فِيما عِشْتُما هَلْ رأيْتُما *** قَتِيلاً بَكَى مِنْ حُبّ قاتِلِهِ قَبْلِي
وهو يريد قاتلته لأنه إنما يصف امرأة فكني باسم الرجل عنها وهو يعنيها . فكذلك قوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ } وإن كان ظاهر الكلام على وجه الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإنه مقصود به قصد أصحابه وذلك بيّنٌ بدلالة قوله : { وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } الاَيات الثلاث بعدها على أن ذلك كذلك .
أما قوله : { لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ } ولم يقل ملك السموات ، فإنه عنى بذلك مُلْك السلطان والمملكة دون المِلْك ، والعرب إذا أرادت الخبر عن المملكة التي هي مملكة سلطان قالت : مَلَك الله الخلق مُلْكا ، وإذا أرادت الخبر عن الملك قالت : مَلَك فلان هذا الشيء فهو يملكه مِلْكا وَمَلِكَةً ومَلْكا .
فتأويل الآية إذا : ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري أحكم فيهما وفيما فيهما ما أشاء وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وأنهي عما أشاء ، وأنسخ وأبدّل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء ، وأقرّ منها ما أشاء ؟ هذا الخبر وإن كان من الله عزّ وجلّ خطابا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته ، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوّة عيسى ، وأنكروا محمدا صلى الله عليه وسلم ، لمجيئهما بما جاءا صلى الله عليه وسلم به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة . فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما ، فإن الخلق أهل مملكته وطاعته ، عليهم السمع له والطاعة لأمره ونهيه ، وإن له أمرهم بما شاء ونهيهم عما شاء ، ونسخ ما شاء وإقرار ما شاء ، وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه . ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه : انقادوا لأمري ، وانتهوا إلى طاعتي فيما أنسخ وفيما أترك ، فلا أنسخ من أحكامي وحدودي وفرائضي ، ولا يهولنّكم خلاف مخالف لكم في أمري ونهيي وناسخي ومنسوخي ، فإنه لا قيّم بأمركم سواي ، ولا ناصر لكم غيري ، وأنا المنفرد بولايتكم والدفاع عنكم ، والمتوحد بنصرتكم بعزّي وسلطاني وقوّتي على من ناوأكم وحادّكم ونصب حرب العداوة بينه وبينكم ، حتى أُعلي حجتكم ، وأجعلها عليهم لكم .
والوليّ معناه «فعيل » ، من قول القائل : وليت أمر فلان : إذا صرت قَيّما به فأنا إليه فهو وليه وقَيّمه ومن ذلك قيل : فلان ولي عهد المسلمين ، يعني به : القائم بما عهد إليه من أمر المسلمين . وأما النصير فإنه فعيل من قولك : نصرتك أنصرك فأنا ناصرك ونصيرك وهو المؤيد والمقوّي .
وأما معنى قوله : مِنْ دُونِ اللّهِ فإنه سوى الله وبعد الله . ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
يا نَفْسُ مالَكِ دُونَ اللّهِ مِنْ وَاقِي *** وَما عَلى حَدَثانِ الدّهْرِ مِنْ باقِي
يريد : ما لك سوى الله وبعد الله من يقيك المكاره .
فمعنى الكلام إذا : وليس لكم أيها المؤمنون بعد الله من قيم بأمركم ولا نصير فيؤيدكم ويقوّيكم فيعينكم على أعدائكم .
{ ألم تعلم } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وأمته لقوله : { وما لكم } وإنما أفرده لأنه أعلمهم ، ومبدأ علمهم . { أن الله له ملك السماوات والأرض } يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وهو كالدليل على قوله : { إن الله على كل شيء قدير } أو على جواز النسخ ولذلك ترك العاطف . { وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } وإنما هو الذي يملك أموركم ويجريها على ما يصلحكم ، والفرق بين الولي والنصير . أن الولي قد يضعف عن النصرة ، والنصير قد يكون أجنبيا عن المنصور فيكون بينهما عموم من وجه .
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }( 107 )
الملك السلطان ونفوذ الأمر والإرادة ، وجمع الضمير في { لكم } دال على أن المراد بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب أمته ، و «الولي » فعيل من ولي إذا جاور ولحق ، فالناصر والمعين والقائم بالأمر والحافظ كلهم مجاور بوجه ما ، و «النصير » فعيل من النصر ، وهو أشد مبالغة من ناصر .
وقوله : { ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض } قال البيضاوي : هو متنزل من الجملة التي قبله منزلة الدليل لأن الذي يكون له ملك السماوات والأرض لا جرم أن يكون قديراً على كل شيء ولذا فصلت هذه الجملة عن التي قبلها . وعندي أن موجب الفصل هو أن هاته الجملة بمنزلة التكرير للأولى لأن مقام التقرير ومقام التوبيخ كلاهما مقام تكرير لما به التقرير والإنكار تعديداً على المخاطب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض} يحكم فيهما ما يشاء، ويأمر بأمر، ثم يأمر بغيره.
{وما لكم من دون الله من ولي}: قريب ينفعكم.
{ولا نصير}... ولا مانع يمنعكم من الله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله جل ثناؤه {ألَمْ تَعْلَمْ} إنما معناه: أما علمت. وهو حرف جحد أدخل عليه حرف استفهام، وحروف الاستفهام إنما تدخل في الكلام إما بمعنى الاستثبات، وإما بمعنى النفي. فأما بمعنى الإثبات فذلك غير معروف في كلام العرب، ولاسيما إذا دخلت على حروف الجحد ولكن ذلك عندي وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنما هو معنّي به أصحابه الذين قال الله جل ثناؤه: {لا تَقُولُوا رَاعِنا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسمَعُوا}.
والذي يدّل على أن ذلك كذلك قوله جل ثناؤه: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} فعاد بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم، وقد ابتدأ أوّلها بخطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: {ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ} لأن المراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه، وذلك من كلام العرب مستفيض بينهم فصيح، أن يخرج المتكلم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره، وعلى وجه الخطاب لواحد وهو يقصد به جماعة غيره، أو جماعة والمخاطب به أحدهم وعلى هذا الخطابُ للجماعة والمقصود به أحدهم، من ذلك قول الله جل ثناؤه: {يا أيّهَا النّبِيّ اتّقِ اللّهَ وَلاَ تُطِعِ الكافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ} ثم قال: {وَاتّبِعْ ما يُوحَى إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ إِنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا}، فرجع إلى خطاب الجماعة، وقد ابتدأ الكلام بخطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم.
أما قوله: {لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ} ولم يقل ملك السموات، فإنه عنى بذلك مُلْك السلطان والمملكة دون المِلْك فتأويل الآية إذا: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما ما أشاء وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهي عما أشاء، وأنسخ وأبدّل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء، وأقرّ منها ما أشاء؟
[و] هذا الخبر وإن كان من الله عزّ وجلّ خطابا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوّة عيسى، وأنكروا محمدا صلى الله عليه وسلم، لمجيئهما بما جاءا صلى الله عليه وسلم به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما، فإن الخلق أهل مملكته وطاعته، عليهم السمع له والطاعة لأمره ونهيه، وإن له أمرهم بما شاء ونهيهم عما شاء، ونسخ ما شاء وإقرار ما شاء، وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه: انقادوا لأمري، وانتهوا إلى طاعتي فيما أنسخ وفيما أترك، فلا أنسخ من أحكامي وحدودي وفرائضي، ولا يهولنّكم خلاف مخالف لكم في أمري ونهيي وناسخي ومنسوخي، فإنه لا قيّم بأمركم سواي، ولا ناصر لكم غيري، وأنا المنفرد بولايتكم والدفاع عنكم، والمتوحد بنصرتكم بعزّي وسلطاني وقوّتي على من ناوأكم وحادّكم ونصب حرب العداوة بينه وبينكم، حتى أُعلي حجتكم، وأجعلها عليهم لكم. والوليّ معناه القائم بما عهد إليه من أمر المسلمين وأما النصير وأما معنى قوله:"مِنْ دُونِ اللّهِ": فإنه سوى الله وبعد الله.هو المؤيد والمقوّي..
فمعنى الكلام إذا: وليس لكم أيها المؤمنون بعد الله من قيم بأمركم ولا نصير فيؤيدكم ويقوّيكم فيعينكم على أعدائكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض} أي: من كان يملك ملك السماوات وملك الأرض يملك تخصيص بعض على بعض وتفضيلهم فيها، ويحكم فيها بما يشاء ويحدث من الأمر ما أراد، والله أعلم. ويحتمل نزوله على إثر نوازل لم تذكر فيه، وذلك في القرآن كثير، وإنما يقال هذا الحرف عند ضيق القلب تسكينا له، ومعنى تخصيص السماوات والأرض بالملك له لمنتهى علم الخلق بهما، وإن كان له ملك الدنيا والآخرة، وبالله التوفيق.
{وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} يدل هذا على أنه خرج على إثر نوازل، وإن لم تذكر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
سُنَّتُه -سبحانه- أن يجذب أولياءه عن شهود مُلْكِه إلى رؤية مِلْكِه، ثم يأخذهم من مُطالعةِ مِلْكه إلى شهود حقِّه، فيأخذهم من رؤية آياته إلى رؤية صفاته...
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكم بجواز النسخ، عقبه ببيان أن ملك السموات والأرض له لا لغيره، وهذا هو التنبيه على أنه سبحانه وتعالى إنما حسن منه الأمر والنهي لكونه مالكا للخلق... [و] إنما حسن التكليف منه لمحض كونه مالكا للخلق مستوليا عليهم لا لثواب يحصل، أو لعقاب يندفع...
قال القفال: ويحتمل أن يكون هذا إشارة إلى أمر القبلة، فإنه تعالى أخبرهم بأنه مالك السموات والأرض وأن الأمكنة والجهات كلها له وأنه ليس بعض الجهات أكبر حرمة من البعض إلا من حيث يجعلها هو تعالى له، وإذا كان كذلك وكان الأمر باستقبال القبلة إنما هو محض التخصيص بالتشريف، فلا مانع يمنع من تغيره من جهة إلى جهة...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
والفرق بين الولي والنصير. أن الولي قد يضعف عن النصرة، والنصير قد يكون أجنبيا عن المنصور فيكون بينهما عموم من وجه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ألم تعلم أن الله} الجامع لأنواع العظمة {له ملك السماوات والأرض} يفعل في ذواتهما وأحوالهما ما يشاء.
قال الحرالي: فهو بما هو على كل شيء قدير يفصل الآيات، وهو بما له ملك السماوات والأرض يدبر الأمر...
ولما أتم سبحانه ما أراد من إظهار قدرته وسعة ملكه وعظمته بالاسم العلم الذي هو أعظم من مظهر العظمة في ننسخ وننسأ بالإقبال على خطاب من لا يعلم ذلك حق علمه غيره فتهيأت قلوب السامعين وصغت لفت الخطاب إليهم ترهيباً في إشارة إلى ترغيب فقال:
{وما لكم من دون الله} المتصف بجمع صفات العظمة
{من ولي} يتولى أموركم، وهو من الولاية،... قال الحرالي: وهي القيام بالأمر عن وصلة واصلة.
{ولا نصير} فأقبلوا بجميع قلوبكم إليه ولا تلفتوها عنه، وفي ذلك تعريض بالتحذير للذين آمنوا ولم يبلغوا درجة المؤمنين من مخالفة أمره إذا حكم عليهم بما أراد كائناً ما كان لئلا تلقن بواطنهم عن اليهود نحواً مما لقنت ظواهر ألسنتهم، بأن تستمسك بسابق فرقانها فتتثاقل عن قبول لاحقه ومكمله، فيكون ذلك تبعاً لكثرة أهل الكتاب في إبائها نسخ ما لحقه التغيير من أحكام كتابها -...
وقال [الحرالي]: وهو في الحقيقة خطاب جامع لتفصيل ما يرد من النسخ في تفاصيل الأحكام والأحوال بمنزلة الخطاب المتقدم في صدر السورة المشتمل على جامع ضرب الأمثال في قوله تعالى: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما} [البقرة: 26] الآية، وذلك لأن هذه السورة هي فسطاط القرآن الجامعة لجميع ما تفصّل فيه؛ وهي سنام القرآن، وسنام الشيء أعلاه؛ وهي سيدة سور القرآن؛ ففيها لذلك جوامع ينتظم بعضها ببعض أثر تفاصيله خلالها في سنامية معانيها وسيادة خطابها نحواً من انتظام آي سورة الفاتحة المنتظمة من غير تفصيل وقع أثناءها ليكون بين المحيط الجامع و الابتداء الجامع مشاكلة مّا -...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
هذه سنة الخالق في الأفراد والأمم على حدٍّ سواء. فإنك لو نظرت في الكائنات الحية – من أول الخلية النباتية إلى أرقى شكل من أشكال الأشجار، ومن أول رتبة من رتب الحيوانات إلى الإنسان- لرأيت أن النسخ ناموس طبيعي محسوس في الأمور المادية والأدبية معا..! فإن انتقال الخلية الإنسانية إلى جنين، ثم إلى طفل، فيافع، فشابّ، فكهل فشيخ، وما يتبع كل دور من هذه الأدوار – من الأحوال الناسخة للأحوال التي قبلها -يريك بأجلى دليل: أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق. وإذا كان هذا النسخ ليس بمستنكر في الكائنات، فكيف يستنكر نسخ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة، وهي في حالة نمو وتدرج من أدنى إلى أرقى؟ هل يرى إنسان له مسكة من عقل أن من الحكمة تكليف العرب – وهم في مبدأ أمرهم – بما يلزم أن يتصفوا به وهم في نهاية الرقي الإنساني، وغاية الكمال البشري..؟! وإذا كان هذا يصح، وجب أن الشرائع تكلف الأطفال بما تكلف به الرجال، وهذا لم يقل به عاقل في الوجود..!
وإذا كان هذا لا يقول به عاقل في الوجود، فكيف يجوز على الله – وهو أحكم الحاكمين- بأن يكلف الأمة –وهي في دور طفوليتها -بما لا تتحمله إلا في دور شبوبيتها وكهولتها..؟ وأي الأمرين أفضل: أشَرْعُنا الذي سن الله لنا حدوده بنفسه، ونسخ منه ما أراد بعلمه، وأتمه – بحيث لا يستطيع الإنس والجن أن ينقضوا حرفا منه- لانطباقه على كل زمان ومكان، وعدم مجافاته لأي حالة من حالات الإنسان..؟! أم شرائع دينية أخرى، حرّفها كهانها، ونسخ الوجود أحكامها بحيث يستحيل العمل بها لمنافاتها لمقتضيات الحياة البشرية من كل وجه..؟!
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والخطاب هنا للمؤمنين يحمل رائحة التحذير، ورائحة التذكير بأن الله هو وليهم وناصرهم وليس لهم من دونه ولي ولا نصير...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ربما كانت هذه الآية تأكيداً للجوّ الروحي الإيماني الذي يريد القرآن ملء نفس الإنسان المؤمن به، في ما جاء في الآية السابقة من قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فكانت هذه الآية من أجل دفع الإنسان إلى عيش هذه الحقيقة الإيمانية، من خلال توجيهه إلى التفكير في ما حوله وفي ما فوقه من السَّماوات والأرض، ليعرف أنها ملك اللّه الذي يحب أن يذعن له العباد، ويخضعوا له، ويرجعوا إليه في كلّ أمورهم، ولا يتمرّدوا عليه، ولا ينحرفوا عن سبيله مهما كانت درجة قوّتهم ومهما كانت قوّة الآخرين، لأنهم سوف يواجهون الحقيقة الصارخة، وهي أنهم لا يملكون من دون اللّه ولياً يرعاهم ويقوم بأمورهم، لأنه القائم على الخلق كلّه، ولا يملكون من دونه نصيراً ينصرهم منه، لأنه خالق القوّة كلّها، فلا قوّة أمامه مهما بلغت...
وهذه طريقة قرآنية جديرة بالوعي والتأمّل، وهي الإيحاء الدائم بعظمة اللّه، بالإفاضة في ذكر صفاته المليئة بأجواء العظمة في كلّ مورد يذكر فيه اسمه في القرآن، ليظلّ الإنسان مشدوداً إلى عظمته في عملية تفكير وتدبّر وتأمّل، وليعيش الحضور الروحي الدائم، فلا ينفصل عنه في أية حالة من الحالات.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -وجوب التسليم لله والرضى بأحكامه، وعدم الاعتراض عليه تعالى...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآية التالية تؤكد مفهوم قدرة الله سبحانه وتعالى وحاكميته في السماوات والأرض وفي الأحكام، فهو البصير بمصالح عباده:
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ}، وفي هذه العبارة من الآية أيضاً تثبيت لقلوب المؤمنين، كي لا تتزلزل أمام حملات التشكيك هذه، وتستمر الآية في تعميق هذا التثبيت، مؤكدة أن المجموعة المؤمنة ينبغي أن تعتمد على الله وحده، وتستند إلى قوته وقدرته دون سواه،
فليس في هذا الكون سند حقيقي سوى الله سبحانه: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَليٍّ وَلاَ نَصِير}...