ولم يترك القرآن الكريم تلك الشبهات التي أثارها اليهود حول شريعة الإسلام بدون جواب ، بل أنزل الله - تعالى - آيات كريمة لدحضها وإزالتها من الصدور ، ليزداد المؤمنون إيماناً ، وهذه الآيات هي قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ . . . }
النسخ في اللغة الإِبطال والإزالة ، يقال . نسخت الشمس الظل تنسخه ، إذا أذهبته وأبطلته .
وفي عرف الشرع : بيان انتهاء مدة الحكم بخطاب لولا هذا الخطاب لاستمر الحكم على مشروعيته ، بمقتضى النص الذي تقرر به أولا .
وننسها من أنسى الشيء جعله منسياً .
فمعنى نسخ الآية في قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } رفع حكها مع بقائها .
ومعنى إنسائها في قوله - تعالى - : { نُنسِهَا } رفع الآية من نظم القرآن جملة .
وسمي رفع الآية من نظم القرآن جملة إنساء ، لأن من شأن ما لا يبقى في النظم أن ينساه الناس لقلة جريانه على الألسنة بالتلاوة والاحتجاج به .
ويصح إبقاء الإِنساء على حقيقته ، وهو إذهاب الآية من القلوب وإزالتها من الحافظة ، بعد أن يقضي الله بنسخها .
وإنما قلنا بعد أن يقضي الله بنسخها ، لأن إنساء الناس آية لم تنسخ إضاعة لشيء من القرآن ، والله يقول { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ومما يدل على نسخ الآية المنساة ، أي : انتهاء مدة التكليف بها قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } أي نأت بخير من المنسية المنسوخة أو مثلها ، فيكون قوله تعالى : { أَوْ نُنسِهَا } معبراً عن حالة تعرض في بعض ما سيرفع من القرآن وهي أن ينساه الناس لذهابه من قلوبهم ، بعد أن يقضي الله بنسخه - كما ذكرنا- .
ووجه ذكر هذه الحال بوجه خاص ، أن ما ينسى لعدم حضوره في الذهن لا تعرف الآيات التي تقوم مقامه ، فربما يقع في الوهم أنه ذهب من غير أن ينزل من الآيات ما يغني غناءه .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { نُنسِهَا } بالهمزة ، من النساء وهو التأخير وعلى هذه القراءة يحمل النسخ في قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } على النوعين السابقين وهما : نسخ الآية حكما فقط ، ونسخها حكماً وتلاوة .
ومعنى { نُنسِهَا } تؤخر إنزالها إلى وقت ثان فلا ننزلها ، وننزل ما يقوم مفامها في القيام بالمصلحة .
والخيرية والمماثلة في قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ترجع إلى ثواب العمل بها . فقد يكون ثواب العمل بالناسخة أوفر من ثواب العمل بالمنسوخة قبل نسخها ، وقد يكون مماثلا له ، وإن كانت كل واحدة من الآيتين الناسخة والمنسوخة بالنظر إلى الوقت المقدر للعمل بها ، أقوم على المصلحة من الأخرى .
وبعد أن أثبت - سبحانه - أن النسخ جائز وواقع بقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ساق جملة كريمة في صورة الاستفهام التقريري ، مخاطباً بها الأمة الإسلامية في شخص نبيها صلى الله عليه وسلم لتكون دليلا على هذا الثبوت ، وهذه الجملة هي قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } والمعنى أن الله - تعالى - متمكن من أن يفعل ما يشاء على الوجه الذي تقتضيه حكمته وإرادته ، ومن كان هذا شأنه فله أن يأمر في وقت بأمر ، ثم ينسخه أو يستبدل به آخر لمقتضيات الظروف والأحوال .
وليس أعظم من نعمة النبوة والرسالة ؛ وليس أعظم من نعمة الإيمان والدعوة إليه . وفي هذا التلميح ما يستجيش في قلوب الذين آمنوا الشعور بضخامة العطاء وجزالة الفضل ، وفي التقرير الذي سبقه عما يضمره الذين كفروا للذين آمنوا ما يستجيش الشعور بالحذر والحرص الشديد . . وهذا الشعور وذاك ضروريان للوقوف في وجه حملة البلبلة والتشكيك التي قادها - ويقودها - اليهود ، لتوهين العقيدة في نفوس المؤمنين ، وهي الخير الضخم الذي ينفسونه على المسلمين !
وكانت الحملة - كما أسلفنا - تتعلق بنسخ بعض الأوامر والتكاليف . وبخاصة عند تحويل القبلة إلى الكعبة . الأمر الذي أبطل حجتهم على المسلمين :
( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) . .
وسواء كانت المناسبة هي مناسبة تحويل القبلة - كما يدل سياق هذه الآيات وما بعدها - أم كانت مناسبة أخرى من تعديل بعض الأوامر والتشريعات والتكاليف ، التي كانت تتابع نمو الجماعة المسلمة ، وأحوالها المتطورة . أم كانت خاصة بتعديل بعض الأحكام التي وردت في التوراة مع تصديق القرآن في عمومه للتوراة . . سواء كانت هذه أم هذه أم هذه ، أم هي جميعا المناسبة التي اتخذها اليهود ذريعة للتشكيك في صلب العقيدة . . فإن القرآن يبين هنا بيانا حاسما في شأن النسخ والتعديل ؛ وفي القضاء على تلك الشبهات التي أثارتها يهود ، على عادتها وخطتها في محاربة هذه العقيدة بشتى الأساليب .
فالتعديل الجزئي وفق مقتضيات الأحوال - في فترة الرسالة - هو لصالح البشرية ، ولتحقيق خير أكبر تقتضيه أطوار حياتها . والله خالق الناس ، ومرسل الرسل ، ومنزل الآيات ، هو الذي يقدر هذا . فإذا نسخ آية القاها في عالم النسيان - سواء كانت آية مقروءة تشتمل حكما من الأحكام ، أو آية بمعنى علامة وخارقة تجيء لمناسبة حاضرة وتطوى كالمعجزات المادية التي جاء بها الرسل - فإنه يأتي بخير منها أو مثلها ! ولا يعجزه شيء ، وهو مالك كل شيء ، وصاحب الأمر كله في السماوات وفي الأرض . .
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
يعني جل ثناؤه بقوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } إلى غيره ، فنبدله ونغيره . وذلك أن يحوّل الحلال حراما والحرام حلالاً ، والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة ، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ . وأصل النسخ من «نَسْخَ الكتاب » وهو نَقْلُه من نُسخة إلى أخرى غيرها ، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيره . فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية فسواء إذا نسخ حكمها فغُير وبُدّل فرضها ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها أوفر حَظها فتُرك ، أو مُحي أثرها ، فُعفّي ونُسي ، إذ هي حينئذٍ في كلتا حالتيها منسوخة . والحكم الحادث المبدل به الحكم الأوّل والمنقول إليه فرض العباد هو الناسخ ، يقال منه : نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا ، والنسخة الاسم . وبمثل الذي قلنا في ذلك كان الحسن البصري يقول .
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : حدثنا خالد بن الحارث ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن أنه قال في قوله : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها نأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا }قال : إن نبيّكم صلى الله عليه وسلم أقرىء قرآنا ثم نسيه فلم يكن شيئا ، ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { ما نَنْسَخْ } فقال بعضهم بما :
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن عمار ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ } أما نسخُها فقَبْضُها . وقال آخرون بما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } بقول : ما نبدّل من آية . وقال آخرون بما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن أصحاب عبد الله بن مسعود أنهم قالوا : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ }نثبت خطها ونبدل حكمها .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { ما نَنْسَخُ مِنْ آيَةٍ }نثبت خطها ، ونبدل حكمها ، حُدثت به عن أصحاب ابن مسعود .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثني بكر بن شوذب ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أصحاب ابن مسعود : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ }نثبت خطها .
القول في تأويل قوله تعالى : أوْ نُنْسِها .
اختلفت القراءة في قوله ذلك ، فقرأها قرّاء أهل المدينة والكوفة : أوْ نُنْسِها ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل ، أحدهما : أن يكون تأويله : ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها . وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله : «ما نُنْسِكَ من آية أو ننسخها نجيء بمثلها » ، فذلك تأويل النسيان . وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها }كان ينسخ الآية بالآية بعدها ، ويقرأ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك ثم تُنسى وتُرفع .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها }قال : كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء وينسخ ما شاء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان عبيد بن عمير يقول :
حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : حدثنا خالد بن الحارث ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن أنه قال في قوله : { أوْ نُنْسِها }قال : إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرىء قرآنا ، ثم نسيه .
وكذلك كان سعد بن أبي وقاص يتأوّل الآية إلا أنه كان يقروها : { أو تَنْسَها } بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنه عني أو تَنْسَها أنت يا محمد . ذكر الأخبار بذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يعلى بن عطاء ، عن القاسم ، قال : سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ تَنْسَها ، قلت له : فإن سعيد بن المسيب يقرؤها : «أَو تُنْسَها » قال : فقال سعد : إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب ، قال الله : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى } ، { وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : حدثنا يعلى بن عطاء ، قال : حدثنا القاسم بن ربيعة بن قائف الثقفي ، قال : سمعت ابن أبي وقاص يذكر نحوه .
حدثنا محمد بن المثنى وآدم العسقلاني قالا جميعا ، عن شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، قال : سمعت القاسم بن ربيعة الثقفي يقول : قلت لسعد بن أبي وقاص : إني سمعت ابن المسيب يقرأ : «ما نَنَسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ تُنْسَها » فقال سعد : إن الله لم ينزل القرآن على المسيب ولا على ابنه ، إنما هي : «ما ننسخ من آية أو تَنْسَها » يا محمد . ثم قرأ : { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى } ، { وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها }يقول : نُنسها : نرفعها وكان الله تبارك وتعالى أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها .
والوجه الاَخر منهما أن يكون بمعنى الترك ، من قول الله جل ثناؤه : { نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ } يعني به تركوا الله فتركهم . فيكون تأويل الآية حينئذٍ على هذا التأويل : ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدّل فرضها نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها . وعلى هذا التأويل تأوّل جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { أوْ نُنْسِها } يقول : أو نتركها لا نبدّلها .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { أوْ نُنْسِها } نتركها لا ننسخها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها } قال : الناسخ والمنسوخ .
قال : وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك ما :
حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { نُنْسِها } نمحها .
وقرأ ذلك آخرون : «أو ننسأها » بفتح النون وهمزة بعد السين بمعنى نؤخرها ، من قولك : نسأت هذا الأمر أنسؤه نسأً ونساءً إذا أخرته ، وهو من قولهم : بعته بنسَاءٍ ، يعني بتأخير . ومن ذلك قول طَرَفَة بن العبد :
لعَمْرُكَ إِنّ المَوْتَ ما أنْسأ الفَتى *** لكالطّوَلِ المُرْخَى وثِنْياهُ باليَدِ
وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ، وقرأه جماعة من قرّاء الكوفيين والبصريين ، وتأوّله كذلك جماعة من أهل التأويل ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء في قوله : «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نَنْسأها » قال نؤخرها .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، قال : سمعت ابن أبي نجيح ، يقول في قول الله : «أوْ نَنْسأها » قال : نُرْجئها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : «أوْ نَنْسأها » نرجئها ونؤخرها .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا فضيل ، عن عطية : «أوْ نَنْسأها » قال : نؤخرها فلا ننسخها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير عن عبيد الأزدي ، عن عبيد بن عمير «أوْ نَنْسأها » إرجاؤها وتأخيرها . هكذا حدثنا القاسم عن عبد الله بن كثير ، عن عبيد الأزدي . وإنما هو عن عليّ الأزدي .
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن عليّ الأزدي ، عن عبيد بن عمير أنه قرأها : «نَنْسأها » .
قال : فتأويل من قرأ ذلك كذلك : ما نبدّل من آية أنزلناها إليك يا محمد ، فنبطل حكمها ونثبت خطها ، أو نؤخرها فنرجئها ونقرّها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها نأت بخير منها أو مثلها .
وقد قرأ بعضهم ذلك : «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أو تُنْسَها » وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ أوْ نُنْسِها إلا أن معنى «أو تُنْسَها » أنت يا محمد .
وقد قرأ بعضهم : «ما نُنْسِخْ مِنْ آيَةٍ » بضم النون وكسر السين ، بمعنى : ما نُنسخك يا محمد نحن من آية ، من أنسختك فأنا أُنسخك . وذلك خطأ من القراءة عندنا لخروجه عما جاءت به الحجة من القراءة بالنقل المستفيض . وكذلك قراءة من قرأ «تُنسَها » أو «تَنْسَها » لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قرّاء الأمة . وأولى القراءات في قوله : ( أوْ نُنْسِها ) بالصواب من قرأ : أو نُنْسِها ، بمعنى نتركها لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدّل حكما أو غيره أو لم يبدّله ولم يغيره ، فهو آتيه بخير منه أو بمثله . فالذي هو أولى بالآية إذ كان ذلك معناها ، أن يكون إذ قدّم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدّل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع ، إذا هو لم يبدّل ذلك ولم يغير . فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله : ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قوله : أو نترك نسخها ، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس . مع أن ذلك إذا قرىء كذلك بالمعنى الذي وصفت ، فهو يشتمل على معنى الإنساء الذي هو بمعنى الترك ، ومعنى النّساء الذي هو بمعنى التأخير ، إذْ كان كل متروك فمؤخر على حال مّا هو متروك . وقد أنكر قوم قراءة من قرأ : «أوْ تُنْسَها » إذا عني به النسيان ، وقالوا : غير جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ إلا أن يكون نسي منه شيئا ثم ذكره . قالوا : وبعد ، فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرءوه وحفظوه من أصحابه بجائز على جميعهم أن ينسوه .
قالوا : وفي قول الله جل ثناؤه : { وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنّ بِالّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ } ما ينبىء عن أن الله تعالى ذكره لم يُنْسِ نبيه شيئا مما آتاه من العلم .
قال أبو جعفر : وهذا قول يشهد على بطوله وفساده الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنحو الذي قلنا .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا أنس بن مالك : إن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة قرأنا بهم وفيهم كتابا : «بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا » . ثم إن ذلك رفع .
فالذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرءون : «لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب » ثم رُفع وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب . وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح ولا بحجة خبر أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنزله إليه . فإذا كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين ، فغير جائز لقائل أن يقول ذلك غير جائز .
وأما قوله : { وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنّ بالّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ } فإنه جلّ ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه ، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه ، فلم يذهب به والحمد لله بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه ، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه ، وقد قال الله تعالى ذكره : سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إِلاّ ما شاءَ اللّهُ فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء ، فالذي ذهب منه الذي استثناه الله . فأما نحن فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى ، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله .
القول في تأويل قوله تعالى : { نأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها } ، فقال بعضهم بما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس :
{ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها } يقول : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم . وقال آخرون بما :
حدثني به الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها } يقول : آية فيها تخفيف ، فيها رحمة ، فيها أمر ، فيها نهي .
وقال آخرون : نأت بخير من التي نسخناها ، أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا يقول : نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها أو مثل التي تركناها . فالهاء والألف اللتان في قوله : مِنْهَا عائدتان على هذه المقالة على الآية في قوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } والهاء والألف اللتان في قوله : أوْ مِثلِها عائدتان على الهاء والألف اللتين في قوله : أوْ نُنْسِها . وقال آخرون بما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان عبيد بن عمير يقول : نُنْسِها نرفعها من عندكم ، نأت بمثلها أو خير منها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : أوْ نُنْسِها نرفعها نأت بخير منها أو بمثلها .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا بكر بن شوذب ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أصحاب ابن مسعود ، مثله .
والصواب من القول في معنى ذلك عندنا : ما نبدّل من حكم آية فنغيره أو نترك تبديله فنقرّه بحاله ، نأت بخير منها لكم من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها ، إما في العاجل لخفته عليكم ، من أجل أنه وضع فرض كان عليكم فأسقط ثقله عنكم ، وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل ، ثم نسخ ذلك فوضع عنهم ، فكان ذلك خيرا لهم في عاجلهم لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم . وإما في الاَجل لعظم ثوابه من أجل مشقة حمله وثقل عبئه على الأبدان ، كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة ، فنُسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كلّ حَوْل ، فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات . غير أن ذلك وإن كان كذلك ، فالثواب عليه أجزل والأجر عليه أكثر ، لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات ، فذلك وإن كان على الأبدان أشقّ فهو خير من الأوّل في الاَجل لفضل ثوابه وعظم أجره الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات . فذلك معنى قوله : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه ، أو في الاَجل لعظم ثوابه وكثرة أجره . أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه ، نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس إلى فرضها شطر المسجد الحرام . فالتوجه شطر بيت المقدس ، وإن خالف التوجه شطر المسجد ، فكلفة التوجه شطر أيهما توجه شطره واحدة لأن الذي على المتوجه شطر البيت المقدّس من مؤنة توجهه شطره ، نظير الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة سواء . فذلك هو معنى المثل الذي قال جل ثناؤه : { أوْ مِثْلِها } .
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها } ما ننسخ من حكم آية أو نُنْسِه . غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها اكتفي بدلالة ذكر الآية من ذكر حكمها . وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا ، كقوله : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ } بمعنى حُبّ العجل ونحو ذلك . فتأويل الآية إذا : ما نغير من حكم آية فنبدّله أو نتركه فلا نبدّله ، نأت بخير لكم أيها المؤمنون حكما منها ، أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب .
فإن قال قائل : فإنا قد علمنا أن العجل لا يُشْرَبُ في القلوب وأنه لا يلتبس على من سمع قوله : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ } أن معناه : وأشربوا في قلوبهم حُبّ العجل ، فما الذي يدلّ على أن قوله : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْها } لذلك نظير ؟
قيل : الذي دلّ على أن ذلك كذلك قوله : { نأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها } وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء لأن جميعه كلام الله ، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال بعضها أفضل من بعض وبعضها خير من بعض .
القول في تأويل قوله تعالى : { ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك وأنفع لك ولهم ، إما عاجلاً في الدنيا وإما آجلاً في الاَخرة . أو بأن أبدّل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم عاجلاً في الدنيا وآجلاً في الاَخرة وشبيهه في الخفة عليك وعليهم . فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير . ومعنى قوله : قَدِير في هذا الموضع : قويّ ، يقال منه : «قد قَدَرْت على كذا وكذا » . إذا قويت عليه «أقدْرُ عليه وأَقْدُرُ عليه قُدْرة وقِدْرانا ومَقْدِرةً » . وبنو مُرّة من غطفان تقول : «قَدِرْت عليه » بكسر الدال . فأما من التقدير من قول القائل : «قَدَرْتُ الشيء » فإنه يقال منه : «قَدَرْتُه أَقْدِرُه قَدْرا وقَدَرا » .
{ ما ننسخ من آية أو ننسها } نزلت لما قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه . والنسخ في اللغة : إزالة الصورة عن الشيء وإثباتها في غيره ، كنسخ الظل للشمس والنقل ، ومنه التناسخ . ثم استعمل لكل واحد منهما كقولك : نسخت الريح الأثر ، ونسخت الكتاب . ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها ، أو الحكم المستفاد منها ، أو بهما جميعا . وإنساؤها إذهابها عن القلوب ، وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية . وقرأ ابن عامر ما ننسخ من أنسخ أي نأمرك أو جبريل بنسخها ، أو نجدها منسوخة . وابن كثير وأبو عمرو " ننسأها " أي نؤخرها من النسء . وقرئ " ننسها " أي ننس أحدا إياها ، و " ننسها " أي أنت ، و " تنسها " على البناء للمفعول ، و " ننسكها " بإضمار المفعولين { نأت بخير منها أو مثلها } أي بما هو خير للعباد في النفع والثواب ، أو مثلها في الثواب . وقرأ أبو عمرو بقلب الهمزة ألفا . { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ ، أو بما هو خير منه . والآية دلت على جواز النسخ وتأخير الإنزال إذ الأصل اختصاص أن وما يتضمنها بالأمور المحتملة ، وذلك لأن الأحكام شرعت ، والآيات نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلا من الله ورحمة ، وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص ، كأسباب المعاش فإن النافع في عصر قد يضر في عصر غيره . واحتج بها من منع النسخ بلا بدل ، أو ببدل أثقل . ونسخ الكتاب بالسنة ، فإن الناسخ هو المأتي به بدلا والسنة ليست كذلك والكل ضعيف ، إذ قد يكون عدم الحكم ، أو الأثقل أصلح . والنسخ قد يعرف بغيره ، والسنة مما أتى به الله تعالى ، وليس المراد بالخير والمثل ما يكون كذلك في اللفظ . والمعتزلة على حدوث القرآن فإن التغير والتفاوت من لوازمه . وأجيب : بأنهما من عوارض الأمور المتعلقة بالمعنى القائم بالذات القديم .
{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }( 106 )
وقوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها } الآية( {[1057]} ) ، النسخ في كلام العرب على وجهين : أحدهما النقل كنقل كتاب من آخر ، والثاني الإزالة ، فأما الأول فلا مدخل له في هذه الآية ، وورد في كتاب الله تعالى في قوله تعالى : { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون }( {[1058]} )
[ الجاثية : 29 ] ، وأما الثاني الذي هو الإزالة فهو الذي في هذه الآية ، وهو منقسم في اللغة على ضربين : أحدهما يثبت الناسخ بعد المنسوخ( {[1059]} ) كقولهم نسخت الشمس الظل ، والآخر لا يثبت كقولهم «نسخت الريح الأثر » ، وورد النسخ في الشرع حسب هذين الضربين ، والناسخ حقيقة هو الله تعالى ، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخاً( {[1060]} ) إذ به يقع النسخ ، وحد الناسخ عند حذاق أهل السنة : الخطاب( {[1061]} ) الدال على ارتفاع الحكم الثابت ، بالخطاب المتقدم على وجهٍ لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه . ( {[1062]} )
والنسخ جائز على الله تعالى عقلاً لأنه ليس يلزم عنه محال ولا تغيير صفة من صفاته تعالى ، وليست الأوامر متعلقة بالإرادة فيلزم من النسخ أن الإرادة تغيرت ، ولا النسخ لطروّ علم ، بل الله تعالى يعلم إلى أي وقت ينتهي أمره بالحكم الأول ويعلم نسخه بالثاني . والبداء( {[1063]} ) لا يجوز على الله تعالى لأنه لا يكونه إلا لطروّ علم أو لتغير إرادة ، وذلك محال في جهة الله تعالى ، وجعلت اليهود النسخ والبداء واحداً ، ولذلك لم يجوزوه فضلُّوا .
والمنسوخ عند أئمتنا : الحكم الثابت نفسه : لا ما ذهبت إليه المعتزلة ، من أنه مثل الحكم الثابت فيما يستقبل( {[1064]} ) ، والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مرادة( {[1065]} ) ، وأن الحسن صفة نفسية للحسن ، ومراد الله تعالى حسن ، وقد قامت الأدلة على أن الأوامر لا ترتبط بالإرادة ، وعلى أن الحسن القبح في الأحكام إنما هو من جهة الشرع لا بصفة نفسية . ( {[1066]} )
والتخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به( {[1067]} ) ، لأن المخصص لم يتناوله العموم قط ، ولو ثبت قطعاً تناول العموم لشيء ما ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخاً لا تخصيصاً . والنسخ لا يجوز في الإخبار ، وإنما هو مختص بالأوامر والنواهي( {[1068]} ) ، وردّ بعض المعترضين الأمر خبراً بأن قال : أليس معناه : «واجب عليكم أن تفعلوا كذا » ؟ فهذا خبر ، والجواب أن يقال : إن في ضمن المعنى إلا أن أنسخه عنكم وأرفعه ، فكما تضمن لفظ الأمر ذلك الإخبار كذلك تضمن هذا الاستثناء .
وصور النسخ تختلف ، فقد ينسخ الأثقل إلى الأخف كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين( {[1069]} ) ، وقد ينسخ الأخف إلى الأثقل كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان( {[1070]} ) ، وقد ينسخ المثل بمثلة ثقلاً وخفة كالقبلة ، وقد ينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى ، والنسخ التام أن تنسخ التلاوة والحكم وذلك كثير ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : «كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر » ، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم ، وقد ينسخ الحكم دون التلاوة كصدقة النجوى ، وكقوله تعالى : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا }( {[1071]} ) [ الممتحنة : 11 ] ، والتلاوة والحكم حكمان ، فجائز نسخ أحدهما دون الآخر .
وينسخ القرآن بالقرآن ، والسنة بالسنة( {[1072]} ) ، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي ، وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد ، وهذا كله متفق عليه ، وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة( {[1073]} ) ، وذلك موجود في قوله صلى الله عليه وسلم : «لا وصية لوارث » ، وهو ظاهر مسائل مالك رحمه الله ، وأبى ذلك الشافعي رحمه الله ، والحجة عليه من قوله إسقاطه الجلد في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم ، فإنه لا مسقط لذلك إلا السنة . فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك حذاق الأئمة على أن السنة تنسخ بالقرآن ، وذلك موجود في القبلة فإن الصلاة إلى الشام لم تكن قط في كتاب الله ، وفي قوله تعالى : { فلا ترجعوهن إلى الكفار }( {[1074]} ) [ الممتحنة : 10 ] ، فإن رجوعهن إنما كان يصلح النبي صلى الله عليه وسلم لقريش ، والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلاً( {[1075]} ) ، واختلفوا هل وقع شرعاً ، فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء في التحول إلى القبلة( {[1076]} ) ، وأبى ذلك قوم ، ولا يصح نسخ نص بقياس إذ من شروط القياس أن لا يخالف نصاً ، وهذا كله في مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما بعد موته واستقرار الشرع فأجمعت أنه لا نسخ .
ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ لأنه إنما ينعقد بعد النبي صلى عليه وسلم ، فإذا وجدنا إجماعاً يخالف نصاً فنعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن .
وقال بعض المتكلمين : «النسخ الثابت متقرر في جهة كل أحد علم الناسخ أو لم يعلمه » ، والذي عليه الحذاق أنه من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول ، فإذا بلغه الناسخ طرأ عليه حكم النسخ ، والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله ، وهو موجود في كتاب الله تعالى في قصة الذبيح .
وقرأ جمهور الناس «ما نَنْسخ » بفتح النون ، من نسخ ، وقرأت طائفة «نُنسخ » ، بضم النون من «أنسخ » ، وبها قرأ ابن عامر وحده من السبعة ، قال أبو علي الفارسي : ليست لغة لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى ، لا هي للتعدية لأن( {[1077]} ) المعنى يجيء ما نكتب من آية أي ما ننزل فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً ، وليس الأمر كذلك ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخاً ، كما تقول : أحمدت الرجل وأبخلته بمعنى وجدته محموداً أو بخيلاً ، قال أبو علي : وليس نجده منسوخاً إلا بأن ننسخه فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : وقد خرج قرأة هذه القرءاة المعنى على وجهين( {[1078]} ) أحدهما أن يكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله أي ذلك فعلنا فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله ، فيجيء الضميران في { منها } و
{ مثلها } عائدين على الضمير في { ننسأها }( {[1079]} ) ، والمعنى الآخر أن يكون { ننسخ } من النسخ بمعنى الإزالة ويكون التقدير ما ننسخك أي نبيح لك نسخه ، كأنه لما نسخها الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ ، فسمى تلك الإباحة إنساخاً ، و { ما } شرطية وهي مفعولة ب { ننسخ } ، و { ننسخ } جزم بالشرط .
واختلف القراء في قراءة قوله { ننسها } ، فقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم وابن عامر وجمهور من الناس «نُنْسِها » بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين وترك الهمزة ، وهذه من أنسى المنقول من نسي ، وقرأت ذلك فرقة كما تقدم إلا أنها همزت بعد السين ، فهذه بمعنى التأخير ، تقول العرب أنسأت الدين وغيره أنسؤه إنساء إذا أخرته ، وقرأت طائفة «أو نَنْسَها » بفتح النون الأولى وسكون الثانية وفتح السين ، وهذه بمعنى الترك ، ذكرها مكي ولم ينسبها ، وذكرها أبو عبيد البكري في كتاب اللآلي( {[1080]} ) عن سعد بن أبي وقاص ، وأراه وهمَ ، وقرأ سعد بن أبي وقاص( {[1081]} ) «أو تُنْسَها » بتاء على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ونون بعدها ساكنة وفتح السين ، هكذا قال أبو الفتح وأبو عمرو الداني ، فقيل لسعد إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال : إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب ، وتلا
{ سنقرئك فلا تنسى }( {[1082]} ) [ الأعلى : 6 ] ، { واذكر ربك إذا نسيت }( {[1083]} ) [ الكهف : 24 ] ، وقرأ سعيد بن المسيب فيما ذكر عنه أيضاً «أو تُنْسَها » بضم التاء أولاً وفتح السين وسكون النون بينهما ، وهذه من النسيان ، وقرأ الضحاك بن مزاحم وأبو رجاء «نُنَسِّها » بضم النون الأولى وفتح الثانية وسين مكسورة مشددة ، وهذه أيضاً من النسيان .
وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس وإبراهيم النخغي وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعبيد ابن عمير وابن كثير وأبو عمرو «نَنْسَأها » بنون مفتوحة وأخرى بعدها ساكنة وسين مفتوحة وألف بعدها مهموزة ، وهذه من التأخير ، تقول العرب : نسأت الإبل عن الحوض أَنْسَؤُها نَسْأَ أي أخرتها ، وكذلك يقال : أنسأ الإبل إذا زاد في ظمئها يوماً أو يومين أو أكثر من ذلك بمعنى أخرها عن الورد ، وقرأت فرقة مثل هذه القراءة إلا أنها بتاء مفتوحة أولاً على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وإسناد الفعل إليه ، وقرأ أبو حيوة مثل ذلك إلا أنه ضم التاء أولاً ، وقرأ أبي بن كعب «أو نُنْسِك » بضم النون الأولى وسكون الثانية وسين مكسورة وكاف مخاطبة ، وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة «أو ننسكها » مثل قراءة أبيّ إلا أنه زاد ضمير الآية .
وقرأ الأعمش «ما ننسك من آية أو ننسخها نجىء بمثلها » وهكذا ثبتت في مصحف عبد الله بن مسعود .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذه القراءات( {[1084]} ) لا تخلو كل واحدة منها أن تكون من النسء أو الإنساء بمعنى التأخير ، أو تكون من النسيان .
والنسيان في كلام العرب يجيء في الإغلب ضد الذكر ، وقد يجيء بمعنى الترك ، فالمعاني الثلاثة مقولة في هذه القراءات ، فما كان منها يترتب في لفظة النسيان( {[1085]} ) الذي هو ضد الذكر .
فمعنى الآية : ما ننسخ من آية أو نقدر نسيانك لها فتنساها حتى ترتفع جملة وتذهب فإنا نأتي بما هو خير منها لكم أو مثله في المنفعة .
وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى الترك فإن الآية معه تترتب فيها أربعة معان :
أحدها : ما ننسخ على وجوه النسخ( {[1086]} ) أو نترك غير منزل عليك فإنا لا بد أن ننزل رفقاً بكم خيراً من ذلك أو مثله حتى لا ينقص الدين عن حد كماله .
والمعنى الثاني أو نترك تلاوته وإن رفعنا حكمه فيجيء النسخ على هذا رفع التلاوة والحكم( {[1087]} ) .
والمعنى الثالث أو نترك حكمه وإن رفعنا تلاوته فالنسخ أيضاً ، على هذا رفع التلاوة والحكم .
والمعنى الرابع أو نتركها غير منسوخة الحكم ولا التلاوة ، فالنسخ على هذا المعنى هو على جميع وجوهه ، ويجيء الضميران في { منها أو مثلها } عائدين على المنسوخة فقط( {[1088]} ) ، وكان الكلام إن نسخنا أو أبقينا فإنا نأتي بخير من المنسوخة أو مثلها .
وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى التأخير فإن الآية معه تترتب فيها المعاني الأربعة التي في الترك ، أولها ما ننسخ أو نؤخر إنزاله( {[1089]} ) ، والثاني ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر حكمه وإن أبقينا تلاوته ، والثالث ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر تلاوته وإن أبقينا حكمه ، والرابع ما ننسخ أو نؤخره مثبتاً لا ننسخه( {[1090]} ) ، ويعود الضميران كما ذكرنا في الترك( {[1091]} ) ، وبعض هذه المعاني أقوى من بعض ، لكن ذكرنا جميعها لأنها تحتمل ، وقد قال «جميعها » العلماء إما نصاً وإما إشارة فكملناها .
وقال الزجاج : إن القراءة «أو نُنْسِها » بضم النون وسكون الثانية وكسر السين لا يتوجه فيها معنى الترك لأنه لا يقال أنسأ بمعنى ترك ، وقال أبو علي وغيره : ذلك متجه لأنه بمعنى نجعلك تتركها( {[1092]} ) ، وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقال : إن هذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولا نسي قرآناً ، وقال أبو علي وغيره : ذلك جائز وقد وقع ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بتنسئة ، واحتج الزجاج بقوله تعالى : { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك }( {[1093]} ) [ الإسراء : 86 ] ، أي لم نفعل ، قال أبو علي معناه لم نذهب بالجميع .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : على معنى إزالة النعمة كما توعد ، وقد حكى الطبري القول عن أقدم من الزجاج ، ورد عليه ، والصحيح( {[1094]} ) في هذا أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله ، تعالى أن ينساه ولم يرد أن يثبت قرآناً جائز .
فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه قبل التبليغ وبعد التبليغ ما لم يحفظه أحد من أصحابه ، وأما بعد أن يحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر( {[1095]} ) لأنه قد بلغ وأدى الأمانة ، ومنه الحديث حين أسقط آية ، فلما فرغ من الصلاة قال : أفي القوم أبيّ ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : فلم لم تذكرني ؟ قال : حسبت أنها رفعت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لم ترفع ولكني نسيتها . ( {[1096]} )
ولفظة خير في الآية صفة تفضيل ، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف ، وفي آجل إن كانت أثقل ، وبمثلها إن كانت مستوية ، وقال قوم «خير » في الآية مصدر و «من » لابتداء الغاية .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : ويقلق هذا القول لقوله تعالى { أو مثلها } إلا أن يعطف المثل على الضمير في { منها } دون إعادة حرف الجر ، وذلك( {[1097]} ) معترض .
وقوله تعالى : { ألم تعلم أن } ظاهره الاستفهام ومعناه التقرير( {[1098]} ) ، والتقرير محتاج إلى معادل كالاستفهام المحض ، فالمعادل هنا على قول جماعة { أم تريدون } [ البقرة : 18 ] ، وقال قوم { أم } هنا منقطعة ، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره أم علمتم ، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة أمته ، وأما إن كان هو المخاطب وحده فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي .
ومعنى الآية أن الله تعالى ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء ويفعل في أحكامه ما يشاء ، هو قدير على ذلك وعلى كل شيء ، وهذا( {[1099]} ) لإنكار اليهود النسخ .
وقوله تعالى { على كل شيء } لفظ عموم معناه الخصوص ، إذ لم تدخل فيه الصفات القديمة بدلالة العقل ولا المحالات لأنها ليست بأشياء ، والشيء في كلام الموجود( {[1100]} ) ، و { قدير } اسم فاعل على المبالغة من «قَدَر » بفتح العين «يقدِر » بكسرها . ومن العرب من يقول قَدِرَ بكسر العين يقدَر بفتحها .
{ مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } .
مناسبة هذه الآية للآيات قبلها أن اليهود اعتذروا عن إعراضهم عن الإيمان بالنبيء صلى الله عليه وسلم بقولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ] وأرادوا به أنهم يكفرون بغيره ، وهم في عذرهم ذلك يدعون أن شريعتهم لا تنسخ ويقولون إن محمداً وصف التوراة بأنها حق وأنه جاء مصدقاً لها فكيف يكون شرعه مبطلاً للتوراة ويموهون على الناس بما سموه البداء وهو لزوم أن يكون الله تعالى غير عالم بما يحسن تشريعه وأنه يبدو له الأمر ثم يعرض عنه ويبذل شريعة بشريعة .
وقد قدمنا أن الله تعالى رد عليهم عذرهم وفضحهم بأنهم ليسوا متمسكين بشرعهم حتى يتصلبوا فيه وذلك من قوله : { قل فلم يقتلون أنبئاء الله من قبل } [ البقرة : 91 ] وقوله : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة } [ البقرة : 94 ] إلخ وبأنهم لا داعي لهم غير الحسد بقوله : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب } إلى قوله : { ذو الفضل العظيم } [ البقرة : 105 ] المنبىء أن العلة هي الحسد ، فلما بين الرد عليهم في ذلك كله أراد نقض تلك السفسطة أو الشبهة التي راموا ترويجها على الناس بمنع النسخ . والمقصد الأصلي من هذا هو تعليم المسلمين أصلاً من أصول الشرائع وهو أصل النسخ الذي يطرأ على شريعة بشريعة بعدها ويطرأ على بعض أحكام شريعة بأحكام تبطلها من تلك الشريعة . ولكون هذا هو المقصد الأصلي عدل عن مخاطبة اليهود بالرد عليهم . ووجه الخطاب إلى المسلمين كما دل عليه قوله : { ألم تعلم } وعطفه عليه بقوله : { أم تريدون أن تسألوا رسولكم } [ البقرة : 108 ] ولقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ } ولم يقل من شريعة . وفي هذا إعراض عن مخاطبة اليهود لأن تعليم المسلمين أهم وذلك يستتبع الرد عى اليهود بطريق المساواة لأنه إذا ظهرت حكمة تغيير بعض الأحكام لمصلحة تظهر حكمة تغيير بعض الشرائع .
وقد ذكر بعض المفسرين لهاته الآية سبب نزول ، ففي « الكشاف » و« المعالم » : نزلت لما قال اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ، وفي « تفسير القرطبي » أن اليهود طعنوا في تغيير القبلة وقالوا إن محمداً يأمر أصحابه بشيء وينهاهم عنه فما كان هذا القرآن إلا من جهته ولذلك يخالف بعضه بعضاً .
وقرأ الجمهور ( ننسخ ) بفتح النون الأولى وفتح السين وهو أصل مضارع نسخ ، وقرأه ابن عامر بضم النون الأولى وكسر السين على أنه مضارع أنسخ مهموزاً بهمزة التعدية أي نأمر بنسخ آية .
و ( ما ) شرطية وأصلها الموصولة أشربت معنى الشرط فلذلك كانت اسماً للشرط يستحق إعراب المفاعيل وتبين بما يفسر إبهامها وهي أيضاً توجب إبهاماً في أزمان الربط لأن الربط وهو التعليق لما نيط بمبهم صار مبهماً فلا تدل على زمن معين من أزمان تعليق الجواب على الشرط وربطه به .
و ( من آية ) بيان لما . والآية في الأصل الدليل والشاهد على أمر . قال الحرث بن حلزة :
مَن لنا عنده مِن الخير آيا *** تٌ ثلاثٌ في كلِّهن القضاءُ
ووزنها فعلة بتحريك العين عند الخليل وعينها ياء أو واو قلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها والنسبة إليها آييّ أو آوي . ثم أطلقت الآية على المعجزة لأنها دليل صدق الرسول قال تعالى : { وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً } [ الإسراء : 59 ] . وتطلق الآية على القطعة من القرآن المشتملة على حكم شرعي أو موعظة أو نحو ذلك وهو إطلاق قرآني قال تعالى : { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون } [ النحل : 101 ] ويؤيد هذا أن من معاني الآية في كلام العرب الأمارة التي يعطيها المرسل للرسول ليصدقه المرسل إليه وكانوا إذا أرسلوا وصاية أو خبراً مع رسول أرفقوه بأمارة يسمونها آية لا سيما الأسير إذا أرسل إلى قومه برسالة كما فعل ناشب الأعور حين كان أسيراً في بني سعد بن مالك وأرسل إلى قومه بلعنبر رسالة وأراد تحذيرهم بما يبيته لهم أعداؤهم الذين أسروه فقال للرسول : قل لهم كذا بآية ما أكلت معكم حيساً . وقال سحيم العبد :
ألِكني إليها عمرَك اللَّهَ يا فتى *** بآية ما جاءت إلينا تَهاديا
ولذا أيضاً سموا الرسالة آية تسمية للشيء باسم مجاوره عرفاً .
والمراد بالآية هنا حكم الآية سواء أزيل لفظها أم أبقى لفظها لأن المقصود بيان حكمة إبطال الأحكام لا إزالة ألفاظ القرآن .
والنسخ إزالة الشي بشيء آخر قاله الراغب ، فهو عبارة عن إزالة صورة أو ذات وإثبات غيرها عوضها تقول نسخت الشمس الظل لأن شعاعها أزال الظل وخلفه في موضعه ونسخ الظل الشمس كذلك لأن خيال الجسم الذي حال بين الجسم المستنير وبين شعاع الشمس الذي أناره قد خلف الشعاع في موضعه ويقال نسخت ما في الخلية من النحل والعسل إلى خلية أخرى ، وقد يطلق على الإزالة فقط دون تعويض كقولهم نسخت الريح الأثر وعلى الإثبات لكن على إثبات خاص وهو إثبات المزيل ، وأما أن يطلق على مجرد الإثبات فلا أحسبه صحيحاً في اللغة وإن أوهمه ظاهر كلام الراغب وجعل منه قولهم نسخت الكتاب إذا خططت أمثال حروفه في صحيفتك إذ وجدوه إثباتاً محضاً لكن هذا توهم لأن إطلاق النسخ على محاكاة حروف الكتاب إطلاق مجازي بالصورة أو تمثيلية بتشبيه الحالة بحالة من يزيل الحروف من الكتاب الأصلي إلى الكتاب المنتسخ ثم جاءت من ذلك النسخة قال تعالى : { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } [ الجاثية : 29 ] وقال : { وفي نسختها هدى ورحمة } [ الأعراف : 154 ] وأما قولهم الولد نسخة من أبيه فمجاز على مجاز . ولا يطلق النسخ على الزوال بدون إزالة فلا تقول نسخ الليل النهار لأن الليل ليس بأمر وجودي بل هو الظلمة الأصلية الحاصلة من انعدام الجرم المنير .
والمراد من النسخ هنا الإزالة وإثبات العوض بدليل قوله : { نأت بخير منها أو مثلها } وهو المعروف عند الأصولين بأنه رفع الحكم الشرعي بخطاب فخرج التشريع المستأنف إذ ليس برفع ، وخرج بقولنا الحكم الشرعي رفع البراءة الأصلية بالشرع المستأنف . إذ البراءة الأصلية ليست حكماً شرعياً بل هي البقاء على عدم التكليف الذي كان الناس عليه قبل مجيء الشرع بحيث إن الشريعة لا تتعرض للتنصيص على إباحة المباحات إلا في مظنة اعتقاد تحريمها أو في موضع حصر المحرمات أو الواجبات .
فالأول نحو قوله : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } [ البقرة : 198 ] في التجارة في الحج حيث ظن المسلمون تحريم التجارة في عشر ذي الحجة كما كانت عليه الجاهلية بعد الانصراف من ذي المجاز كما سيأتي .
ومثال الثاني قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] بعد ذكر النساء المحرمات وقوله : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } [ البقرة : 187 ] لحصر وجوب الإمساك في خصوص زمن النهار .
وفهم من قولهم في التعريف رفع الحكم أن ذلك الحكم كان ثابتاً لولا رفعه وقد صرح به بعضهم ولذلك اخترنا زيادة قيد في التعريف وهو رفع الحكم الشرعي المعلوم دوامه بخطاب يرفعه ليخرج عن تعريف النسخ رفع الحكم الشرعي المغيّى بغاية عند انتهاء غايته ورفع الحكم المستفاد من أمر لا دليل فيه على التكرار .
وحيث تبينت حكمة نسخ الآيات علم منه حكمة نسخ الشرائع بعضها ببعض وهو الذي أنكروه وأنكروا كون الإسلام قد نسخ التوراة وزعموا أن دوام التوراة مانع من الإيمان بالإسلام كما قالوا { نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ] وهو أحوال : الأول مجيء شريعة لقوم مجيئاً مؤقتاً لمدة حياة الرسول المرسل بها فإذا توفي ارتفعت الشريعة كشريعة نوح وإبراهيم وشريعة يوسف وشريعة شعيب قال تعالى : { ولقد جاءكم يوسف } إلى قوله : { إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً } [ غافر : 34 ] وبقي الناس في فترة وكان لكل أحد يريد الاهتداء أن يتبع تلك الشريعة أو بعضها كما كانوا يتبعون شريعة إبراهيم فإذا جاءت شريعة بعدها فليست الثانية بناسخة للأولى في الحقيقة ولكنها نسخ يخير الناس في متابعتها الذي كان لهم في زمن الفترة كما إذا كانت عَبْس مثلاً يجوز لها اتباع شريعة إبراهيم فلما جاءهم خالد بن سنان بشريعته تعين عليهم اتباعه .
الثاني أن تجيء شريعة لقوم مأمورين بالدوام عليها كشرع موسى ثم تجيء بعدها شريعة ليست رافعة لتلك الشريعة بأسرها ولكنها ترفع بعض أحكامها وتثبت بعضاً كشريعة عيسى فهذه شريعة ناسخة في الجملة لأنها تنسخ بعضاً وتفسر بعضاً ، فالمسيح رسول نسخ بعض التوراة وهو ما نص على نسخه وأما غيره فباق على أحكام التوراة فهو في معظمها مبين ومذكر ومفسر كمن سبقه من أنبياء بني إسرائيل مثل أشعياء وأرمياء وزكرياء الأول ودانيال وأضرابهم ولا يخالف هذا النوع نسخ أحكام شريعة واحدة إلا بكونه بواسطة رسول ثان .
الثالث مجيء شريعة بعد أخرى بحيث تبطل الثانية الأولى إبطالاً عاماً بحيث تعد تلك الشريعة باطلة سواء في ذلك الأحكام التي نصت الشريعة الثانية فيها بشيء يخالف ما في الأولى أم فيما سكتت الشريعة الثانية عنه وهذا هو الإسلام بالنسبة لما تقدمه من الشرائع فإنه رفع الشرائع كلها بحيث لا يجوز لأحد من المسلمين أن يتلقى شيئاً من الشرائع السالفة فيما لم يتكلم الإسلارم فيه بشيء بل يأخذ أحكام ذلك بالاستنباط والقياس وغير ذلك من طرق أصول الإسلام ، وقد اختلف في أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ ، لكن ذلك الخلاف ناظر إلى دليل آخر وهو قوله تعالى : { فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] .
وقوله : { أو ننسها } قرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وأبو جعفر وخلف ( ننسها ) بنون مضمومة في أوله وبسين مكسورة ثم هاء . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ( ننسأها ) بنون مفتوحة في أوله وبسين مفتوحة وبعدها همزة ساكنة ثم هاء فعلى قراءة ترك الهمز فهو من النسيان والهمزة للتعدية ومفعوله محذوف للعموم أي ننس الناس إياها وذلك بأمر النبيء صلى الله عليه وسلم بترك قراءتها حتى ينساها المسلمون ، وعلى قراءة الهمز فالمعنى أو نؤخرها أي نؤخر تلاوتها أو نؤخر العمل بها والمراد إبطال العمل بقراءتها أو بحكمها فكنى عنه بالنسء وهو قسم آخر مقابل للنسخ وهو أن لا يذكر الرسول الناس بالعمل بحكم مشروع ولا يأمر من يتركه بقضائه حتى ينسى الناس العمل به فيكون ذلك إبطالاً للحكم لأنه لو كان قائماً لما سكت الرسول عن إعادة الأمر به ولما أقر تاركه عند موجب العمل به ولم أجد لهذا مثالاً في القرآن ونظيره في السنة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة في جداره " عند من يقول إن النهي فيه للتحريم وهو قول أبي هريرة ولذلك كان يذكر هذا الحديث ويقول مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أظهركم . ومعنى النسء مشعر بتأخير يعقبه إبرام وحينئذ فالمعنى بقاء الحكم مدة غير منسوخ أو بقاء الآية من القرآن مدة غير منسوخة . أو يكون المراد إنساء الآية بمعنى تأخير مجيئها مع إرادة الله تعالى وقوع ذلك بعد حين والاحتمالات المفروضة في نسخ حكم من الشريعة تتأتى في نسخ شريعة بشريعة وإنسائها أو نسئها .
وقوله : { نأت بخير منها أو مثلها } جواب الشرط وجعله جواباً مشعر بأن هذين الحالين وهما النسخ والإنساء أو النسء لا يفارقان حالين وهما الإتيان في وقت النسخ ووقت الإنساء بشيء هو خير من المنسوخ أو مثله أو خير من المنسي أو المنسوء أو مثله فالمأتي به مع النسخ هو الناسخ من شريعة أو حكم والمأتي به مع الإنساء من النسيان هو الناسخ أيضاً من شريعة أو حكم أو هو ما يجيء من الأحكام غير ناسخ ولكنه حكم مخالف ينزل بعد الآخر والمأتي به مع النسء أي التأخير هو ما يقارن الحكم الباقي من الأحكام النازلة في مدة عدم النسخ .
وقد أجملت جهة الخيرية والمثلية لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن فتجده مراداً إذ الخيرية تكون من حيث الاشتمال على ما يناسب مصلحة الناس ، أوما يدفع عنهم مضرة ، أو ما فيه جلب عواقب حميدة ، أو ما فيه ثواب جزيل ، أوما فيه رفق بالمكلفين ورحمة بهم في مواضع الشدة وإن كان حملهم على الشدة قد يكون أكثر مصلحة . وليس المراد أن كل صورة من الصور المفروضة في حالات النسخ والإنساء أو النسء هي مشتملة على الخير والمثل معاً وإنما المراد أن كل صورة منهما لا تخلو من الاشتمال على الخير منها أو المثل لها فلذلك جيء بأو في قوله : { بخير منها أو مثلها } فهي مفيدة لأحد الشيئين مع جواز الجمع .
وتحقيق هاته الصور بأيديكم ، ولنضرب لذلك أمثالاً ترشد إلى المقصود وتغني عن البقية مع عدم التزام الدرج على القول الأصح فنقول :
( 1 ) نسخ شريعة مع الإتيان بخير منها كنسخ التوراة والإنجيل بالإسلام .
( 2 ) نسخ شريعة مع الإتيان بمثلها كنسخ شريعة هود بشريعة صالح فإن لكل فائدة مماثلة للأخرى في تحديد أحوال أمتين متقاربتي العوائد والأخلاق فهود نهاهم أن يبنوا بكل ريع آية يعبثون وصالح لم ينه عن ذلك ونهى عن التعرض للناقة بسوء .
( 3 ) نسخ حكم في شريعة بخير منه مثل نسخ كراهة الخمر الثابتة بقوله : { قل فيهما إثم كبير ومنافع } [ البقرة : 219 ] بتحريمها بتاتاً فهذه الناسخة خير من جهة المصلحة دون الرفق وقد يكون الناسخ خيراً في الرفق كنسخ تحريم الأكل والشرب وقربان النساء في ليل رمضان بعد وقت الإفطار عند الغروب إذا نام الصائم قبل أن يتعشى بقوله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم إلى قوله : { من الفجر } [ البقرة : 187 ] قال في الحديث في « صحيح البخاري » ففرح المسلمون بنزولها .
( 4 ) نسخ حكم في الشريعة بحكم مثله كنسخ الوصية للوالدين والأقربين بتعيين الفرائض والكل نافع للكل في إعطائه مالاً ، وكنسخ فرض خمسين صلاة بخمس صلوات مع جعل ثواب الخمسين للخمس فقد تماثلتا من جهة الثواب ، وكنسخ آية { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين } [ البقرة : 184 ] بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [ البقرة : 185 ] إلى قوله : { وأن تصوموا خير لكم } [ البقرة : 184 ] فأثبت كون الصوم خيراً من الفدية .
( 5 ) إنساء بمعنى التأخير لشريعة مع مجيء خير منها ، تأخير ظهور دين الإسلام في حين الإتيان بشرائع سبقته كل واحدة منها هي خير بالنسبة للأمة التي شرعت لها والعصر الذي شرعت فيه فإن الشرائع تأتي للناس بما يناسب أحوالهم حتى يتهيأ البشر كلهم لقبول الشريعة الخاتمة التي هي الدين عند الله فالخيرية هنا ببعض معانيها وهي نسبية .
( 6 ) إنساء شريعة بمعنى تأخير مجيئها مع إرادة الله تعالى وقوعه بعد حين ومع الإتيان بمثلها كتأخير شريعة عيسى في وقت الإتيان بشريعة موسى وهي خير منها من حيث الاشتمال على معظم المصالح وما تحتاج إليه الأمة .
( 7 ) إنساء بمعنى تأخير الحكم المراد مع الإتيان بخير منه كتأخير تحريم الخمر وهو مراد مع الإتيان بكراهته أو تحريمه في أوقات الصلوات فقط فإن المأتي به خير من التحريم من حيث الرفق بالناس في حملهم على مفارقة شيء افتتنوا بمحبته .
( 8 ) إنساء شريعة بمعنى بقائها غير منسوخة إلى أمد معلوم مع الإتيان بخير منها أي أوسع وأعم مصلحة وأكثر ثواباً لكن في أمة أخرى أو بمثلها كذلك .
( 9 ) إنساء آية من القرآن بمعنى بقائها غير منسوخة إلى أمد معلوم مع الإتيان بخير منها في باب آخر أي أعم مصلحة أو بمثلها في باب آخر أي مثلها مصلحة أو ثواباً مثل تحريم الخمر في وقت الصلوات وينزل في تلك المدة تحريم البيع في وقت صلاة الجمعة .
( 10 ) نسيان شريعة بمعنى اضمحلالها كشريعة آدم ونوح مع مجيء شريعة موسى وهي أفضل وأوسع وشريعة إدريس مثلاً وهي مثل شريعة نوح .
( 11 ) نسيان حكم شريعة مع مجيء خير منه أو مثله ، كان فيما نزل عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس معلومات ثم نسيا معاً وجاءت آية { وأخواتكم من الرضاعة } [ النساء : 23 ] على الإطلاق والكل متماثل في إثبات الرضاعة ولا مشقة على المكلفين في رضعة أوعشر لقرب المقدار .
وقيل : المراد من النسيان الترك وهو حينئذ يرجع معناه وصوره إلى معنى وصور الإنساء بمعنى التأخير .
والمقصد من قوله تعالى : { نأت بخير منها أو مثلها } إظهار منتهى الحكمة والرد عليهم بأنهم لا يهمهم أن تنسخ شريعة بشريعة أو حكم في شريعة بحكم آخر ولا يقدح ذلك في علم الله تعالى ولا في حكمته ولا ربوبيته لأنه ما نسخ شرعاً أو حكماً ولا تركه إلا وهو قد عوض الناس ما هو أنفع لهم منه حينئذ أو ما هو مثله من حيث الوقت والحال ، وما أخر حكماً في زمن ثم أظهره بعد ذلك إلا وقد عوض الناس في إبان تأخيره ما يسد مسده بحسب أحوالهم ، وذلك مظهر الربوبية فإنه يرب الخلق ويحملهم على مصالحهم مع الرفق بهم والرحمة ، ومراد الله تعالى في تلك الأزمنة والأحوال كلها واحد وهو حفظ نظام العالم وضبط تصرف الناس فيه على وجه يعصم أحوالهم من الاختلال بحسب العصور والأمم والأحوال إلى أن جاء بالشريعة الخاتمة وهي مراد الله تعالى من الناس ولذلك قال :
{ إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وقال أيضاً : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } [ الشورى : 13 ] الآية .
والظاهر أن الإتيان بخير أو بمثل راجع إلى كل من النسخ والإنساء فيكون الإتيان بخير من المنسوخة أو المنساة أو بمثلها وليس الكلام من اللف والنشر . فقوله تعالى : { نأت بخير منها أو مثلها } هو إما إتيان تعويض أو إتيان تعزيز . وتوزيع هذا الضابط على الصور المتقدمة غير عزيز . والمعنى أنا لم نترك الخلق في وقت سدى ، وأن ليس في النسخ ما يتوهم منه البداء .
وفي الآية إيجاز بديع في التقسيم قد جمع هاته الصور التي سمعتموها وصوراً تنشق منها لا أسألكموها لأنه ما فرضت منها صورة بعد هذا إلا عرفتموها .
ومما يقف منه الشعر ولا ينبغي أن يوجه إليه النظر ما قاله بعض المفسرين في قوله تعالى : { ننسها } أنه إنساء الله تعالى المسلمين للآية أو للسورة ، أي إذهابها عن قلوبهم أو إنساؤه النبيء صلى الله عليه وسلم إياها فيكون نسيان الناس كلهم لها في وقت واحد دليلاً على النسخ واستدلوا لذلك بحديث أخرجه الطبراني بسنده إلى ابن عمر قال « قرأ رجلان سورة أقرأهما إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فغديا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال لهما : " إنها مما نسخ وأنسي فالهوا عنها " قال ابن كثير هذا الحديث في سنده سليمان بن أرقم وهو ضعيف وقال ابن عطية هذا حديث منكر أغرب به الطبراني وكيف خفي مثله على أئمة الحديث . والصحيح أن نسيان النبيء ما أراد الله نسخه ولم يرد أن يثبته قرآناً جائز ، أي لكنه لم يقع فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبيء معصوم عنه قبل التبليغ ، وأما بعد التبليغ وحفظ المسلمين له فجائز وقد روي أنه أسقط آية من سورة في الصلاة فلما فرغ قال لأبيّ لم لم تذكرني قال حسبت أنها رفعت قال : لا ولكني نسيتها اهـ .
والحق عندي أن النسيان العارض الذي يُتذكر بعده جائز ولا تحمل عليه الآية لمنافاته لظاهر قوله : { نأت بخير منها أو مثلها } وأما النسيان المستمر للقرآن فأحسب أنه لا يجوز . وقوله تعالى : { سنقرئك فلا تنسى } [ الأعلى : 6 ] دليل عليه وقوله : { إلا ما شاء الله } [ الأعلى : 7 ] هو من باب التوسعة في الوعد وسيأتي بيان ذلك في سورة الأعلى . وأما ما ورد في « صحيح مسلم » عن أنس قال : كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول ببراءة فانسيتها غير أني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثاً وما يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب اهـ .
فهو غريب وتأويله أن هنالك سورة نسخت قراءتها وأحكامها ، ونسيان المسلمين لما نسخ لفظه من القرآن غير عجيب على أنه حديث غريب اهـ .
وقد دلت هذه الآية على أن النسخ واقع ، وقد اتفق علماء الإسلام على جواز النسخ ووقوعه ولم يخالف في ذلك إلا أبو مسلم الأصفهاني محمد بن بحر فقيل : إن خلافه لفظي وتفصيل الأدلة في كتب أصول الفقه .
وقد قسموا نسخ أدلة الأحكام ومدلولاتها إلى أقسام : نسخ التلاوة والحكم معاً وهو الأصل ومثلوه بما روى عن أبي بكر كان فيما أنزل لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ، ونسخ الحكم وبقاء التلاوة وهذا واقع لأن إبقاء التلاوة يقصد منه بقاء الإعجاز ببلاغة الآية ومثاله آية : { إن يكن منكم عشرون صابرون } [ الأنفال : 65 ] إلى آخر الآيات . ونسخ التلاوة وبقاء الحكم ومثلوه بما روي عن عمر : كان فيما يتلى الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما وعندي أنه لا فائدة في نسخ التلاوة وبقاء الحكم وقد تأولوا قول عمر كان فيما يتلى أنه كان يتلى بين الناس تشهيراً بحكمه . وقد كان كثير من الصحابة يرى أن الآية إذا نسخ حكمها لا تبقى كتابتها في المصحف ففي البخاري في التفسير قال ابن الزبير قلت لعثمان : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً } [ البقرة : 234 ] نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها قال : يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه من مكانه .
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
مسوق لبيان حكمة النسخ والإتيان بالخير والمثل بياناً غير مفصل على طريقة الأسلوب الحكيم ، وذلك أنه بعد أن فرغ من التنبيه على أن النسخ الذي استبعدوه وتذرعوا به لتكذيب الرسول هو غير مفارق لتعويض المنسوخ بخير منه أو مثله أو تعزيز المبقى بمثله أريد أن ينتقل من ذلك إلى كشف ما بقي من الشبهة وهي أن يقول المنكر وما هي الفائدة في النسخ حتى يحتاج للتعويض ؟ وكان مقتضى الظاهر أن يتصدى لبيان اختلاف المصالح ومناسبتها للأحوال والأعصار ولبيان تفاصيل الخيرية والمثلية في كل ناسخ ومنسوخ . ولما كان التصدي لذلك أمراً لم تتهيأ له عقول السامعين لعسر إدراكهم مراتب المصالح وتفاوتها ، لأن ذلك مما يحتاج إلى تأصيل قواعد من أصول شرعية وسياسية ، عدل بهم عن بيان ذلك وأجملت لهم المصلحة بالحوالة على قدرة الله تعالى التي لا يشذ عنها ممكن مراد ، وعلى سعة ملكه المشعر بعظيم علمه ، وعلى حاجة المخلوقات إليه إذ ليس لهم رب سواه ولا ولي دونه وكفى بذلك دليلاً على أنه يحملهم على مصالحهم في سائر الأحوال .
ومما يزيد هذا العدول توجيهاً أن التصدي للبيان يفتح باب الجدال في إثبات المصلحة وتفاوت ذلك بحسب اختلاف القرائح والفهوم .
ولأن أسباب التشريع والنسخ أقسام ، منه ما ظهر وجهه بالنص فيمكن إفهامهم إياه نحو قوله : { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العدواة والبغضاء في الخمر والميسر } [ المائدة : 91 ] الآية بعد قوله : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] الآية ونحو { وعلم أن فيكم ضعفاً } [ الأنفال : 66 ] الآية . ومنها ما يعسر إفهامهم إياه لأنه يحتاج إلى علم وتفصيل من شأن المشرعين وعلماء الأصول كالأشياء التي عرفت بالقياس وأصول التشريع . ومنها ما لم يطلع على حكمته في ذلك الزمان أو فيما يليه ، ولما كان معظم هاته التفاصيل يعسر أو يتعذر إفهامهم إياه وقع العدول المذكور . ولكون هاته الجملة تتنزل منزلة البيان للأولى فصلت عنها .
والخطاب في { تعلم } ليس مراداً منه ظاهره الواحد وهو النبيء صلى الله عليه وسلم بل هو إما خطاب لغير معين خارج على طريقة المجاز بتشبيه من ليس حاضراً للخطاب وهو الغائب منزلة المخاطب في كونه بحيث يصير مخاطباً لشهرة هذا الأمر والمقصد من ذلك ليعم كل مخاطب صالح له وهو كل من يظن به أو يتوهم منه أنه لا يعلم أن الله على كل شيء قدير ولو بعدم جريانه على موجب علمه ، وإلى هذه الطريقة مال القطب والطيبي من شراح « الكشاف » وعليها يشمل هذا الخطاب ابتداء اليهود والمشركين ومن عسى أن يشتبه عليه الأمر وتروج عليه الشبهة من ضعفاء المسلمين ، أما غيرهم فغني عن التقرير في الظاهر وإنما أدخل فيه ليسمع غيره .
وإما مراد به ظاهره وهو الواحد فيكون المخاطب هوالنبيء صلى الله عليه وسلم لكن المقصود منه المسلمون فينتقل من خطاب النبيء إلى مخاطبة أمته انتقالاً كنائياً لأن علم الأمة من لوازم علم الرسول من حيث إنه رسول لزوماً عرفياً فكل حكم تعلق به بعنوان الرسالة فالمراد منه أمته لأن ما يثبت له من المعلومات في باب العقائد والتشريع فهو حاصل لهم فتارة يراد من الخطاب توجه مضمون الخطاب إليه ولأمته وتارة يقصد منه توجه المضمون لأمته فقط على قاعدة الكناية في جواز إرادة المعنى الأصلي مع الكنائي ، وههنا لا يصلح توجه المضمون للرسول لأنه لا يقرر على الاعتراف بأن الله على كل شيء قدير فضلاً عن أن ينكر عنه وإنما التقرير للأمة ، والمقصد من تلك الكناية التعريض باليهود . وإنما سلك هذا الطريق دون أن يؤتى بضمير الجماعة المخاطبين لما في سلوك طريق الكناية من البلاغة والمبالغة مع الإيجاز في لفظ الضمير .
والاستفهام تقريري على الوجهين وهو شأن الاستفهام الداخل على النفي كما تقدم عند قوله : { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض } [ البقرة : 33 ] أي إنكم تعلمون أن الله قدير وتعلمون أنه مالك السماوات والأرض بما يجري فيهما من الأحوال ، فهو ملكه أيضاً فهو يصرف الخلق كيف يشاء . وقد أشار في « الكشاف » إلى أنه تقريري وصرح به القطب في « شرحه » ولم يسمع في كلام العرب استفهام دخل على النفي إلا وهو مراد به التقرير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ما ننسخ من آية أو ننسها}، يعني: نبدل من آية فنحولها، فيها تقديم.
{نأت بخير منها}... نأت من الوحي مكانها أفضل منها لكم وأنفع لكم.
{أو مثلها}... أو نأت بمثل ما نسخنا "أو ننسها"، يقول: أو نتركها كما هي، فلا ننسخها...
الناسخ من القرآن: الأمر ينزله الله من بعد الأمر يخالفه، كما حول القبلة، قال {فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاهَا} وقال: (سَيَقُولُ اَلسُّفَهَاء مِنَ اَلنَّاسِ مَا وَلّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ اَلتِي كَانُوا عَلَيْهَا} وأشباه له كثيرة في غير موضع.
قال: ولا ينسخ كتاب الله إلا كتابه لقول الله: {مَا نَنسَخْ مِنَ ءايَةٍ اَوْ نُنسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} فأبان أن نسخ القرآن لا يكون إلا بقرآن مثله. وأبان الله جل ثناؤه أنه فرض على رسوله اتباع أمره فقال: {اَتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} وشهد له باتباعه فقال جل ثناؤه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اِللَّهِ} فأعلم خلقه أنه يهديهم إلى صراطه. قال: فتقام سنة رسول الله مع كتاب الله جل ثناؤه مقام البيان عدد فرضه، كبيان ما أراد بما أنزل عاما، العَامَّ أراد به أو الخاص، وما أنزل فرضا وأدبا إباحة وإرشادا، [إلا أنه لا شيء] من سنة رسول الله يخالف كتاب الله في حال، لأن الله جل ثناؤه قد أعلم خلقه أن رسوله يهدي إلى صراط مستقيم صراط الله، ولا أن شيئا من سنن رسول الله ناسخ لكتاب الله، لأنه قد أعلم خلقه أنه إنما ينسخ القرآن بقرآن مثله، والسنة تبع للقرآن. (اختلاف الحديث: 483-484)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} إلى غيره؛ فنبدله ونغيره. وذلك أن يحوّل الحلال حراما والحرام حلالاً، والمباح محظورا والمحظور مباحا، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. وأصل النسخ من «نَسْخَ الكتاب» وهو نَقْلُه من نُسخة إلى أخرى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيره. فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية فسواء إذا نسخ حكمها فغُير وبُدّل فرضها ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها أوفر حَظها فتُرك، أو مُحي أثرها، فُعفّي ونُسي، إذ هي حينئذٍ في كلتا حالتيها منسوخة. والحكم الحادث المبدل به الحكم الأوّل والمنقول إليه فرض العباد هو الناسخ، يقال منه: نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا، والنسخة الاسم...
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {ما نَنْسَخْ}؛
فقال بعضهم: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}: ما نبدّل من آية.
وقال آخرون: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}: نثبت خطها ونبدل حكمها.
اختلفت القراءة في قوله ذلك، فقرأها قرّاء أهل المدينة والكوفة: "أوْ نُنْسِها "ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل، أحدهما: أن يكون تأويله: ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها. وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله: «ما نُنْسِكَ من آية أو ننسخها نجيء بمثلها»، فذلك تأويل النسيان. وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل... عن قتادة قوله: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها}: كان ينسخ الآية بالآية بعدها، ويقرأ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك ثم تُنسى وتُرفع... كان عبيد بن عمير يقول: {نُنْسِها}: نرفعها من عندكم...
والوجه الاَخر منهما أن يكون بمعنى الترك، من قول الله جل ثناؤه: {نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ} يعني به تركوا الله فتركهم. فيكون تأويل الآية حينئذٍ على هذا التأويل: ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدّل فرضها، نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها... عن ابن عباس في قوله: {أوْ نُنْسِها} يقول: أو نتركها لا نبدّلها...
وقرأ ذلك آخرون: «أو ننسأها» بفتح النون وهمزة بعد السين بمعنى نؤخرها، من قولك: نسأت هذا الأمر أنسؤه نسأً ونساءً إذا أخرته، وهو من قولهم: بعته بنسَاءٍ، يعني بتأخير...
وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين، وقرأه جماعة من قرّاء الكوفيين والبصريين، وتأوّله كذلك جماعة من أهل التأويل... عن عطاء في قوله: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نَنْسأها» قال: نؤخرها... [وعن] ابن أبي نجيح، يقول في قول الله: «أوْ نَنْسأها» قال: نُرْجئها...
قال: فتأويل من قرأ ذلك كذلك: ما نبدّل من آية أنزلناها إليك يا محمد، فنبطل حكمها ونثبت خطها، أو نؤخرها فنرجئها ونقرّها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها، نأت بخير منها أو مثلها...
وأولى القراءات في قوله: (أوْ نُنْسِها) بالصواب من قرأ: "أو نُنْسِها"، بمعنى نتركها لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدّل حكما أو غيره أو لم يبدّله ولم يغيره، فهو آتيه بخير منه أو بمثله. فالذي هو أولى بالآية إذ كان ذلك معناها، أن يكون إذ قدّم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدّل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع، إذا هو لم يبدّل ذلك ولم يغير. فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: "ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ "قوله: أو نترك نسخها، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس. مع أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت، فهو يشتمل على معنى الإنساء الذي هو بمعنى الترك، ومعنى النّساء الذي هو بمعنى التأخير، إذْ كان كل متروك فمؤخر على حال مّا هو متروك. وقد أنكر قوم قراءة من قرأ: «أوْ تُنْسَها» إذا عني به النسيان، وقالوا: غير جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ إلا أن يكون نسي منه شيئا ثم ذكره. قالوا: وبعد، فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرأوه وحفظوه من أصحابه بجائز على جميعهم أن ينسوه. قالوا: وفي قول الله جل ثناؤه: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنّ بِالّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ} ما ينبئ عن أن الله تعالى ذكره لم يُنْسِ نبيه شيئا مما آتاه من العلم.
قال أبو جعفر: وهذا قول يشهد على بطوله وفساده الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنحو الذي قلنا.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك: إن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة قرأنا بهم وفيهم كتابا: «بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا». ثم إن ذلك رفع.
فالذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرءون: «لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» ثم رُفع وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب. وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح ولا بحجة خبر أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنزله إليه. فإذا كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين، فغير جائز لقائل أن يقول ذلك غير جائز.
وأما قوله: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنّ بالّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ} فإنه جلّ ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه، فلم يذهب به والحمد لله بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه، وقد قال الله تعالى ذكره: "سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إِلاّ ما شاءَ اللّهُ" فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء، فالذي ذهب منه الذي استثناه الله. فأما نحن فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله.
{نأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها}.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها}، فقال بعضهم:... عن ابن عباس: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها} يقول: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وقال آخرون:...عن قتادة في قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها} يقول: آية فيها تخفيف، فيها رحمة، فيها أمر، فيها نهي.
وقال آخرون: نأت بخير من التي نسخناها، أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها. وقال آخرون:...كان عبيد بن عمير يقول: "نُنْسِها": نرفعها من عندكم، نأت بمثلها أو خير منها.
والصواب من القول في معنى ذلك عندنا: ما نبدّل من حكم آية فنغيره أو نترك تبديله فنقرّه بحاله، نأت بخير منها لكم من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها، إما في العاجل لخفته عليكم، من أجل أنه وضع فرض كان عليكم فأسقط ثقله عنكم، وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل، ثم نسخ ذلك فوضع عنهم، فكان ذلك خيرا لهم في عاجلهم لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم. وإما في الاَجل لعظم ثوابه من أجل مشقة حمله وثقل عبئه على الأبدان، كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة، فنُسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كلّ حَوْل، فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات، غير أن ذلك وإن كان كذلك، فالثواب عليه أجزل والأجر عليه أكثر، لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات، فذلك وإن كان على الأبدان أشقّ فهو خير من الأوّل في الاَجل لفضل ثوابه وعظم أجره الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات. فذلك معنى قوله: "نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها" لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه، أو في الاَجل لعظم ثوابه وكثرة أجره. أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه، نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس إلى فرضها شطر المسجد الحرام. فالتوجه شطر بيت المقدس، وإن خالف التوجه شطر المسجد، فكلفة التوجه شطر أيهما توجه شطره واحدة لأن الذي على المتوجه شطر البيت المقدّس من مؤنة توجهه شطره، نظير الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة سواء. فذلك هو معنى المثل الذي قال جل ثناؤه: {أوْ مِثْلِها}.
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها} ما ننسخ من حكم آية أو نُنْسِه. غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها اكتفي بدلالة ذكر الآية من ذكر حكمها. وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا، كقوله: {وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ} بمعنى حُبّ العجل ونحو ذلك. فتأويل الآية إذا: ما نغير من حكم آية فنبدّله أو نتركه فلا نبدّله، نأت بخير لكم أيها المؤمنون حكما منها، أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب.
فإن قال قائل: فإنا قد علمنا أن العجل لا يُشْرَبُ في القلوب وأنه لا يلتبس على من سمع قوله: {وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ} أن معناه: وأشربوا في قلوبهم حُبّ العجل، فما الذي يدلّ على أن قوله: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْها} لذلك نظير؟
قيل: الذي دلّ على أن ذلك كذلك قوله: {نأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها} وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء لأن جميعه كلام الله، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال بعضها أفضل من بعض وبعضها خير من بعض.
{ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك وأنفع لك ولهم، إما عاجلاً في الدنيا وإما آجلاً في الاَخرة. أو بأن أبدّل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم عاجلاً في الدنيا وآجلاً في الاَخرة وشبيهه في الخفة عليك وعليهم. فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير. ومعنى قوله: "قَدِير" في هذا الموضع: قويّ.
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من طعن اليهود في الإسلام، فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا وغدا يرجع عنه، فنزلت هذه الآية.
[و] النسخ في أصل اللغة بمعنى إبطال الشيء... [و] الأقوى أن نعول في الإثبات على قوله تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية} وقوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} والله تعالى أعلم...
واعلم أن الناس استنبطوا من هذه الآية أكثر مسائل النسخ.
أما قوله تعالى: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} فتنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره على قدرته تعالى على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته، وأنه لا دافع لما أراد ولا مانع لما اختار.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{قدير} استدلال على جواز النسخ لأنه من المقدورات، خلافا لليهود- لعنهم الله- فإنهم أحالوه على الله، وهو جائز عقلا، وواقع شرعا فكما نسخت شريعتهم ما قبلها، نسخها ما بعدها.
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
{ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} أي على النسخ والتبديل، والمعنى ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين وأنفع لك ولهم عاجلاً وآجلاً.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما حرم سبحانه قوله {راعنا} بعد حله وكان ذلك من باب النسخ، وأنهى ما يتعلق به بالوصف بالفضل العظيم بعد التخصيص الذي من مقتضاه نقل ما يكون من المنافع من ملك أو دين أو قوة أو علم من ناس إلى ناس، وكان اليهود يرون أن دينهم لا ينسخ، فكان النسخ لذلك من مطاعنهم في هذا الدين وفي كون هذا الكتاب هدى للمتقين، لأنه على زعمهم لا يجوز على الله، قالوا: لأنه يلزم منه البداء -أي بفتح الموحدة مقصوراً- وهو أن يبدو الشيء أي يظهر بعد أن لم يكن، وذلك لا يجوز على الله تعالى... لما كان ذلك قال تعالى جواباً عن طعنهم سابقاً له في مظهر العظمة معلماً أنه قد ألبس العرب المحسودين ما كان قد زين به أهل الكتاب دهوراً فابتذلوه ودنسوا محياه ورذلوه وغيروه وبدّلوه إشارة إلى أن الحسد لكونه اعتراضاً على المنعم يكون سبباً لإلباس المحسود ثوب الحاسد...
{ما ننسخ} والنسخ قال الحرالي: نقل بادٍ من أثر أو كتاب ونحوه من محله بمعاقب يذهبه. أو باقتباس يغني عن غيبته، وهو وارد الظهور في المعنيين في موارد الخطاب؛ والمعاقبة في هذا أظهر -...
[وقد] ساقها بغير عطف لشدة التباسها بما قبلها لاختصاصنا لأجل التمشية على حسب المصالح بالفضل والرحمة، لأنه إن كان المراد نسخ جميع الشرائع الماضية بكتابنا فلما فيه من التشريف بالانفراد بالذكر وعدم التبعية والتخفيف للأحمال التي كانت، وإن كان المراد نسخ ما شرع لنا فللنظر في المصالح الدنيوية والأخروية بحسب ما حدث من الأسباب...
{من آية} أي فنرفع حكمها، أو تلاوتها بعد إنزالها، أو نأمر بذلك على أنها من النسخ على قراءة ابن عامر، سواء [أكانت] في شرع من قبل كاستقبال بيت المقدس [أم] لم تكن... وفي صيغة نفعل إشعار بأن من تقدم ربما نسخ عنهم ما لم يعوضوا به مثلاً ولا خيراً، ففي طيه ترغيب للذين آمنوا في كتابهم الخاص بهم وأن يكون لهم عند النسخ حسن قبول فرحاً بجديد أو اغتباطاً بما هو خير من المنسوخ، ليكون حالهم عند تناسخ الآيات مقابل حال الآبين من قبوله المستمسكين بالسابق المتقاصرين عن خير لاحق وجدِّته -قاله الحرالي...
{أو ننسأها} أي نؤخرها، أي نترك إنزالها عليكم أصلاً، وكذا معنى {أو نُنسها} من أنسى في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو، أي نأمر بترك إنزالها...
{نأت بخير منها أو مثلها} كما فعلنا في {راعنا} وغيرها...
أو يكون المعنى {ما ننسخ من آية} فنزيل حكمها أو لفظها عاجلاً كما فعلنا في {راعنا} أو {ننسأها} بأن نؤخر نسخها أو نتركه- على قراءة {ننسها} زمناً ثم ننسخها كالقبلة {نأت} عند نسخها {بخير منها أو مثلها}،
وقال الحرالي: وهو الحق إن شاء الله تعالى... والنسء تأخير عن وقت إلى وقت، ففيه مدار بين السابق واللاحق بخلاف النسخ، لأن النسخ معقب للسابق والنسء مداول للمؤخر، وهو نمط من الخطاب عليٌ خفي المنحى، لم يكد يتضح معناه لأكثر العلماء... لخفاء الفرقان بين ما شأنه المعاقبة وما شأنه المداولة...
ومن أمثاله ما وقع في النسء من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الأضاحي فتقبله الذين آمنوا نسخاً، وإنما كان إنساء وتأخيراً لحكم الاستمتاع بها بعد ثلاث إلى وقت زوال الدافّة التي كانت دفت عليهم من البوادي... فقال:"إنما نهيتكم من أجل الدافة"، ففي متسع فقهه أن أحكاماً تؤخر فتشابه النسخ من وجه ثم تعاد فتخالفه من هذا الوجه من حيث إن حكمة المنسوخ منقطعة وحكمة المنَسء متراجعة...
ومنه المقاتلة للعدو عند وجدان المنة والقوة والمهادنة عند الضعف عن المقاومة هو من أحكام المنسئ، وكل ما شأنه أن يمتنع في وقت لمعنى مّا ثم يعود في وقت لزوال ذلك المعنى فهو من المنَسئ الذي أهمل علمه أكثر الناظرين وربما أضافوا أكثره إلى نمط النسخ لخفاء الفرقان بينهما؛ فبحق أن هذه الآية من جوامع آي الفرقان، فهذا حكم النسء والإنساء وهو في العلم بمنزلة تعاقب الفصول بما اشتملت عليه من الأشياء المتعاقبة في وجه المتداولة في الجملة...
وأما النسيان والتنسية فمعناه أخفى من النسيء وهو ما يظهره الله من البيانات على سبيل إدخال النسيان على من ليس شأنه أن ينسأ كالسنن التي أبداها النبي صلى الله عليه وسلم عن تنسيته كما ورد من قوله: إني لأُنَسَّى لأسُنَّ. وقال عليه الصلاة والسلام في إفصاح القول فيه: بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت، بل هو نُسي. ومنه قيامه من اثنتين وسلامه من اثنتين حتى أظهر الله سنة ذلك لأمته، وكانت تلك الصلاة بسهوها ليست بدونها من غير سهو بل هي مثلها أو خير؛ ومن نحوه منامه عن الصلاة حتى أظهر الله توقيت الصلاة بالذكر كما كان قد أظهرها بالوقت الزماني، فصار لها وقتان: وقت نور عياني من مدارها مع الشمس، ووقت نور وجداني من مدارها مع الذكر، ولصحة وقوعها للوقتين كانت الموقتة بالذكر أداء بحسبه، قضاء بحسب فوت الوقت الزماني.
فللّه تعالى على هذه الأمة فضل عظيم فيما يكمل لها على طريق النسخ وعلى سبيل النسء وعلى جهة النسيان الذي ليس عن تراخ ولا إهمال وإنما يوقعه إجباراً مع إجماع العزم، وفي كل ذلك إنباء بأن ما وقع من الأمر بعد هذا النسيان خير من موقع ذلك الأمر الذي كان يقع على إجماع ورعاية لتستوي أحوال هذه الأمة في جميع تقلبات [أنفاسها]، كل ذلك من اختصاص رحمته وفضله العظيم...
واستدل سبحانه على إتيانه بذلك بقدرته، والقدرة الشاملة التامة مستلزمة للعلم أي وليس هو كغيره من الملوك إذا أمر بشيء خاف غائلة أتباعه ورعاياه في نقضه، واستدل على القدرة بأن له جميع الملك وأنه ليس لأحد معه أمر، وحاصل ذلك أنه لما ذكر سبحانه هذا الكتاب وأكد أمره مراراً وكان ناسخاً لفروع شريعتهم ولا سيما ما فيها من الآصار والأغلال أشار سبحانه إلى أن من أعظم ضلالهم وغيهم ومحالهم، ادعاؤهم أن النسخ لا يجوز على الله، فمنعوا من {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء: 23] مما هو موجود في كتابهم كما أمر آنفاً، ومما سوغوه لأنفسهم بالتحريف والتبديل، ولزم من ذلك تكذيب كل رسول أتاهم بما لا تهوى أنفسهم، وفعلوا خلاف حال المؤمنين المصدقين بما أنزل إلى نبيهم وما أنزل إلى غيره، وضمن ذلك عيبهم بالقدح في الدين بالأمر بالشيء اليوم والنهي عنه غداً، وأنه لو كان من عند الله لما تغير لأنه عالم بالعواقب، ولا يخلو إما أن يعلم أن الأمر بذلك الشيء مصلحة فلا ينهى عنه بعدُ، أو مفسدة فلا يأمر به اليوم، جوابهم عن ذلك معرضاً عن خطابهم تعريضاً بغباوتهم إلى خطاب أعلم الخلق بقوله: {ألم تعلم أن الله} أي الحائز لجميع أوصاف الكمال {على كل شيء قدير} على وجه الاستفهام المتضمن للإنكار والتقرير المشار فيه للتوعد والتهديد، فيخلق بقدرته من الأسباب ما يصير الشيء في وقت مصلحة وفي وقت آخر مفسدة لحكم ومصالح دبرها لتصرم هذا العالم...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الراغب: فإن قيل: إن الذي تُرك ولم يُنسخ ليس هو مثله بل هو هو، فكيف قال: {بمثلها}؟ قيل: الحكم الذي أنزل في القرآن – وكان ثابتا في الشرع الذي قبلنا- يصحّ أن يقال هو هو، إذا اعتبر بنفسه ولم يعتبر بكسوته التي هي اللفظ. ويصح أن يقال هو مثله إذا لم يعتبر بنفسه فقط بل اعتبر باللفظ. ونحو ذلك أن يقال: ماء البئر هو ماء النهر- إذا اعتبر جنس الماء، وتارة يقال: مثل ماء النهر- إذا اعتبر قرار الماء. اه. على أن إرادة العين بالمثل شائعة -كما في قولهم: مثلك لا يبخل-
{ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} فهو يقدر على الخير، وما هو خير منه، وعلى مثله في الخير. قال الراغب: أي لا تحسبنّ أن تغييري لحكم، حالا فحالا، وأني لم آت بالثاني في الابتداء – هو العجز، فإن من علم قدرته على كل شيء لا يظن ذلك. وإنما تغيّر ذلك يرجع إلى مصلحة العباد، وأن الأليق بهم، في الوقت المتقدم، الحكم المتقدم. وفي الوقت المتأخر، الحكم المتأخر...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(الأستاذ الإمام): للمفسرين في تفسير هذه الآية طريقان.
أحدهما: أنها على حد قوله تعالى {16: 101 "و إذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر "فالنسخ هنا بمعنى التبديل أي إذا جعلنا آية بدلا من آية فإننا نجعل هذا البدل خيرا من المبدل منه أو مثله على الأقل، فالآية عند هؤلاء في نسخ التلاوة، وقالوا إن المراد بالنسيان هو أن يأمر الله تعالى بعدم تلاوة الآية فتنسى بالمرة. (قال) وهذا بمعنى التبديل، فما هي الفائدة في عطفه عليه بأو؟ وهل هو إلا تكرار يجل كلام الله عنه؟
وثانيهما: أن المراد نسخ حكم الآية وهو عام يشمل نسخ الحكم وحده ونسخه مع التلاوة، وهذا هو القول المختار للجمهور، وقالوا في توجيهه: إنه لا معنى لنسخ الآية في ذاتها ولا حاجة إليه وإنما الأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، فإذا شرع حكم في وقت لشدة الحاجة إليه ثم زالت الحاجة في وقت آخر فمن الحكمة أن ينسخ الحكم ويبدل بما يوافق الوقت الآخر فيكون خيرا من الأول أو مثله في فائدته من حيث قيام المصلحة به.
وقالوا إن المراد بالإنساء إزالة الآية من ذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف في هذا أيكون بعد التبليغ أم قبله؟ فقيل بعده كما ورد في أصحاب بئر معونة وقيل قبله حتى أن السيوطي روى في أسباب النزول أن الآية كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلا فينساها نهارا فحزن لذلك فنزلت الآية. قال الأستاذ الإمام: ولا شك عندي في أن هذه الرواية مكذوبة وأن مثل هذا النسيان محال على الأنبياء عليهم السلام لأنهم معصومون في التبليغ والآيات الكريمة ناطقة بذلك كقوله تعالى {إن علينا جمعه وقرآنه} وقوله {أنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقد قال المحدثون والأصوليون: أن من علامة وضع الحديث مخالفته للدليل القاطع عقليا كان أو نقليا كأصول الاعتقاد وهذه المسألة منها فإن هذا النسيان ينافي العصمة المجمع عليها. وقالوا في تفسير قوله تعالى بعد ما ذكر {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} إنه ورد مورد الاستدلال على القدرة على النسخ بالمعنى الذي قالوه أي أنه لا يستنكر على الله كما زعم اليهود لأنه مما تناله قدرته ثم استدل على ذلك بقوله {ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض} الآية...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول، لأن فضله تعالى يزداد خصوصا على هذه الأمة، التي سهل عليها دينها غاية التسهيل... وأخبر أن من قدح في النسخ، فقد قدح في ملكه وقدرته فقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}... فإذا كان مالكا لكم، متصرفا فيكم، تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه، فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير، كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام. فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية، فما له والاعتراض؟... وهو أيضا، ولي عباده، ونصيرهم، فيتولاهم في تحصيل منافعهم، وينصرهم في دفع مضارهم، فمن ولايته لهم، أن يشرع لهم من الأحكام، ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وسواء [أكانت] المناسبة هي مناسبة تحويل القبلة -كما يدل سياق هذه الآيات وما بعدها- أم كانت مناسبة أخرى من تعديل بعض الأوامر والتشريعات والتكاليف، التي كانت تتابع نمو الجماعة المسلمة، وأحوالها المتطورة. أم كانت خاصة بتعديل بعض الأحكام التي وردت في التوراة مع تصديق القرآن في عمومه للتوراة.. سواء [أكانت] هذه أم هذه أم هذه، أم هي جميعا المناسبة التي اتخذها اليهود ذريعة للتشكيك في صلب العقيدة.. فإن القرآن يبين هنا بيانا حاسما في شأن النسخ والتعديل؛ وفي القضاء على تلك الشبهات التي أثارتها يهود، على عادتها وخطتها في محاربة هذه العقيدة بشتى الأساليب...
فالتعديل الجزئي وفق مقتضيات الأحوال -في فترة الرسالة- هو لصالح البشرية، ولتحقيق خير أكبر تقتضيه أطوار حياتها. والله خالق الناس، ومرسل الرسل، ومنزل الآيات، هو الذي يقدر هذا. فإذا نسخ آية ألقاها في عالم النسيان -سواء [أكانت] آية مقروءة تشتمل حكما من الأحكام، [أم] آية بمعنى علامة وخارقة تجيء لمناسبة حاضرة وتطوى كالمعجزات المادية التي جاء بها الرسل- فإنه يأتي بخير منها أو مثلها! ولا يعجزه شيء، وهو مالك كل شيء، وصاحب الأمر كله في السماوات وفي الأرض...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مناسبة هذه الآية للآيات قبلها أن اليهود اعتذروا عن إعراضهم عن الإيمان بالنبيء صلى الله عليه وسلم بقولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة: 91] وأرادوا به أنهم يكفرون بغيره، وهم في عذرهم ذلك يدعون أن شريعتهم لا تنسخ ويقولون إن محمداً وصف التوراة بأنها حق وأنه جاء مصدقاً لها فكيف يكون شرعه مبطلاً للتوراة ويموهون على الناس بما سموه البداء وهو لزوم أن يكون الله تعالى غير عالم بما يحسن تشريعه وأنه يبدو له الأمر ثم يعرض عنه ويبدل شريعة بشريعة. وقد قدمنا أن الله تعالى رد عليهم عذرهم وفضحهم بأنهم ليسوا متمسكين بشرعهم حتى يتصلبوا فيه وذلك من قوله: {قل فلم يقتلون أنبئاء الله من قبل} [البقرة: 91] وقوله:
{قل إن كانت لكم الدار الآخرة} [البقرة: 94] إلخ وبأنهم لا داعي لهم غير الحسد بقوله: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب} إلى قوله: {ذو الفضل العظيم} [البقرة: 105] المنبئ أن العلة هي الحسد، فلما بين الرد عليهم في ذلك كله أراد نقض تلك السفسطة أو الشبهة التي راموا ترويجها على الناس بمنع النسخ.
والمقصد الأصلي من هذا هو تعليم المسلمين أصلاً من أصول الشرائع وهو أصل النسخ الذي يطرأ على شريعة بشريعة بعدها ويطرأ على بعض أحكام شريعة بأحكام تبطلها من تلك الشريعة. ولكون هذا هو المقصد الأصلي عدل عن مخاطبة اليهود بالرد عليهم. ووجه الخطاب إلى المسلمين كما دل عليه قوله: {ألم تعلم} وعطفه عليه بقوله: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم} [البقرة: 108] ولقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ} ولم يقل من شريعة. وفي هذا إعراض عن مخاطبة اليهود لأن تعليم المسلمين أهم وذلك يستتبع الرد عى اليهود بطريق المساواة لأنه إذا ظهرت حكمة تغيير بعض الأحكام لمصلحة تظهر حكمة تغيير بعض الشرائع.
والآية في الأصل الدليل والشاهد على أمر ثم أطلقت الآية على المعجزة لأنها دليل صدق الرسول قال تعالى: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً} [الإسراء: 59]. وتطلق الآية على القطعة من القرآن المشتملة على حكم شرعي أو موعظة أو نحو ذلك وهو إطلاق قرآني قال تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون} [النحل: 101]
ويؤيد هذا أن من معاني الآية في كلام العرب الأمارة التي يعطيها المرسل للرسول ليصدقه المرسل إليه وكانوا إذا أرسلوا وصاية أو خبراً مع رسول أرفقوه بأمارة يسمونها آية لا سيما الأسير إذا أرسل إلى قومه برسالة كما فعل ناشب الأعور حين كان أسيراً في بني سعد بن مالك وأرسل إلى قومه... رسالة وأراد تحذيرهم بما يبيته لهم أعداؤهم الذين أسروه فقال للرسول: قل لهم كذا بآية ما أكلت معكم حيساً.ولذا أيضاً سموا الرسالة آية تسمية للشيء باسم مجاوره عرفاً.
والمراد بالآية هنا حكم الآية سواء أزيل لفظها أم أبقى لفظها لأن المقصود بيان حكمة إبطال الأحكام لا إزالة ألفاظ القرآن.
وقد أجملت جهة الخيرية والمثلية لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن فتجده مراداً إذ الخيرية تكون من حيث الاشتمال على ما يناسب مصلحة الناس، أوما يدفع عنهم مضرة، أو ما فيه جلب عواقب حميدة، أو ما فيه ثواب جزيل، أوما فيه رفق بالمكلفين ورحمة بهم في مواضع الشدة وإن كان حملهم على الشدة قد يكون أكثر مصلحة. وليس المراد أن كل صورة من الصور المفروضة في حالات النسخ والإنساء أو النسء هي مشتملة على الخير والمثل معاً وإنما المراد أن كل صورة منهما لا تخلو من الاشتمال على الخير منها أو المثل لها فلذلك جيء ب"أو" في قوله: {بخير منها أو مثلها} فهي مفيدة لأحد الشيئين مع جواز الجمع.
وتحقيق هاته الصور بأيديكم، ولنضرب لذلك أمثالاً ترشد إلى المقصود وتغني عن البقية مع عدم التزام الدرج على القول الأصح فنقول:
(1) نسخ شريعة مع الإتيان بخير منها كنسخ التوراة والإنجيل بالإسلام.
(2) نسخ شريعة مع الإتيان بمثلها كنسخ شريعة هود بشريعة صالح فإن لكل فائدة مماثلة للأخرى في تحديد أحوال أمتين متقاربتي العوائد والأخلاق فهود نهاهم أن يبنوا بكل ريع آية يعبثون وصالح لم ينه عن ذلك ونهى عن التعرض للناقة بسوء.
(3) نسخ حكم في شريعة بخير منه مثل نسخ كراهة الخمر الثابتة بقوله: {قل فيهما إثم كبير ومنافع} [البقرة: 219] بتحريمها بتاتاً فهذه الناسخة خير من جهة المصلحة دون الرفق وقد يكون الناسخ خيراً في الرفق كنسخ تحريم الأكل والشرب وقربان النساء في ليل رمضان بعد وقت الإفطار عند الغروب إذا نام الصائم قبل أن يتعشى بقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم إلى قوله: {من الفجر} [البقرة: 187] قال في الحديث في « صحيح البخاري» ففرح المسلمون بنزولها.
(4) نسخ حكم في الشريعة بحكم مثله كنسخ الوصية للوالدين والأقربين بتعيين الفرائض والكل نافع للكل في إعطائه مالاً، وكنسخ فرض خمسين صلاة بخمس صلوات مع جعل ثواب الخمسين للخمس فقد تماثلتا من جهة الثواب، وكنسخ آية {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين} [البقرة: 184] بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] إلى قوله: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة: 184] فأثبت كون الصوم خيراً من الفدية.
(5) إنساء بمعنى التأخير لشريعة مع مجيء خير منها، تأخير ظهور دين الإسلام في حين الإتيان بشرائع سبقته كل واحدة منها هي خير بالنسبة للأمة التي شرعت لها والعصر الذي شرعت فيه فإن الشرائع تأتي للناس بما يناسب أحوالهم حتى يتهيأ البشر كلهم لقبول الشريعة الخاتمة التي هي الدين عند الله فالخيرية هنا ببعض معانيها وهي نسبية.
(6) إنساء شريعة بمعنى تأخير مجيئها مع إرادة الله تعالى وقوعه بعد حين ومع الإتيان بمثلها كتأخير شريعة عيسى في وقت الإتيان بشريعة موسى وهي خير منها من حيث الاشتمال على معظم المصالح وما تحتاج إليه الأمة.
(7) إنساء بمعنى تأخير الحكم المراد مع الإتيان بخير منه كتأخير تحريم الخمر وهو مراد مع الإتيان بكراهته أو تحريمه في أوقات الصلوات فقط فإن المأتي به خير من التحريم من حيث الرفق بالناس في حملهم على مفارقة شيء افتتنوا بمحبته.
(8) إنساء شريعة بمعنى بقائها غير منسوخة إلى أمد معلوم مع الإتيان بخير منها أي أوسع وأعم مصلحة وأكثر ثواباً لكن في أمة أخرى أو بمثلها كذلك.
(9) إنساء آية من القرآن بمعنى بقائها غير منسوخة إلى أمد معلوم مع الإتيان بخير منها في باب آخر أي أعم مصلحة أو بمثلها في باب آخر أي مثلها مصلحة أو ثواباً مثل تحريم الخمر في وقت الصلوات وينزل في تلك المدة تحريم البيع في وقت صلاة الجمعة.
(10) نسيان شريعة بمعنى اضمحلالها كشريعة آدم ونوح مع مجيء شريعة موسى وهي أفضل وأوسع وشريعة إدريس مثلاً وهي مثل شريعة نوح.
(11) نسيان حكم شريعة مع مجيء خير منه أو مثله، كان فيما نزل عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس معلومات ثم نسيا معاً وجاءت آية {وأخواتكم من الرضاعة} [النساء: 23] على الإطلاق والكل متماثل في إثبات الرضاعة ولا مشقة على المكلفين في رضعة أوعشر لقرب المقدار. وقيل: المراد من النسيان الترك وهو حينئذ يرجع معناه وصوره إلى معنى وصور الإنساء بمعنى التأخير.
والمقصد من قوله تعالى: {نأت بخير منها أو مثلها} إظهار منتهى الحكمة والرد عليهم بأنهم لا يهمهم أن تنسخ شريعة بشريعة أو حكم في شريعة بحكم آخر ولا يقدح ذلك في علم الله تعالى ولا في حكمته ولا ربوبيته لأنه ما نسخ شرعاً أو حكماً ولا تركه إلا وهو قد عوض الناس ما هو أنفع لهم منه حينئذ أو ما هو مثله من حيث الوقت والحال، وما أخر حكماً في زمن ثم أظهره بعد ذلك إلا وقد عوض الناس في إبان تأخيره ما يسد مسده بحسب أحوالهم، وذلك مظهر الربوبية فإنه يرب الخلق ويحملهم على مصالحهم مع الرفق بهم والرحمة، ومراد الله تعالى في تلك الأزمنة والأحوال كلها واحد وهو حفظ نظام العالم وضبط تصرف الناس فيه على وجه يعصم أحوالهم من الاختلال بحسب العصور والأمم والأحوال إلى أن جاء بالشريعة الخاتمة وهي مراد الله تعالى من الناس ولذلك قال: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] وقال أيضاً: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً} [الشورى: 13] الآية.
والظاهر أن الإتيان بخير أو بمثل راجع إلى كل من النسخ والإنساء فيكون الإتيان بخير من المنسوخة أو المنساة أو بمثلها وليس الكلام من اللف والنشر.
فقوله تعالى: {نأت بخير منها أو مثلها} هو إما إتيان تعويض أو إتيان تعزيز. وتوزيع هذا الضابط على الصور المتقدمة غير عزيز. والمعنى أنا لم نترك الخلق في وقت سدى، وأن ليس في النسخ ما يتوهم منه البداء.
وفي الآية إيجاز بديع في التقسيم قد جمع هاته الصور التي سمعتموها وصوراً تنشق منها لا أسألكموها لأنه ما فرضت منها صورة بعد هذا إلا عرفتموها.
ومما يقف منه الشعر ولا ينبغي أن يوجه إليه النظر ما قاله بعض المفسرين في قوله تعالى: {ننسها} أنه إنساء الله تعالى المسلمين للآية أو للسورة، أي إذهابها عن قلوبهم أو إنساؤه النبيء صلى الله عليه وسلم إياها فيكون نسيان الناس كلهم لها في وقت واحد دليلاً على النسخ واستدلوا لذلك بحديث أخرجه الطبراني بسنده إلى ابن عمر قال « قرأ رجلان سورة أقرأهما إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فغديا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال لهما: "إنها مما نسخ وأنسي فالهوا عنها" قال ابن كثير هذا الحديث في سنده سليمان بن أرقم وهو ضعيف وقال ابن عطية هذا حديث منكر أغرب به الطبراني وكيف خفي مثله على أئمة الحديث.
والصحيح أن نسيان النبيء ما أراد الله نسخه ولم يرد أن يثبته قرآناً جائز، أي لكنه لم يقع فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبيء معصوم عنه قبل التبليغ، وأما بعد التبليغ وحفظ المسلمين له فجائز وقد روي أنه أسقط آية من سورة في الصلاة فلما فرغ قال لأبيّ لم لم تذكرني قال حسبت أنها رفعت قال: لا ولكني نسيتها اهـ. والحق عندي أن النسيان العارض الذي يُتذكر بعده جائز ولا تحمل عليه الآية لمنافاته لظاهر قوله: {نأت بخير منها أو مثلها} وأما النسيان المستمر للقرآن فأحسب أنه لا يجوز. وقوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6] دليل عليه وقوله: {إلا ما شاء الله} [الأعلى: 7] هو من باب التوسعة في الوعد وسيأتي بيان ذلك في سورة الأعلى. وأما ما ورد في « صحيح مسلم» عن أنس قال: كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول ببراءة فانسيتها غير أني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثاً وما يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب اهـ. فهو غريب وتأويله أن هنالك سورة نسخت قراءتها وأحكامها، ونسيان المسلمين لما نسخ لفظه من القرآن غير عجيب على أنه حديث غريب اهـ.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن النسخ في ذاته لا في القرآن بالذات لا ينكره أحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يربي المؤمنين، ويدع الدين الحق في قلوبهم، وقد مكث بينهم ثلاثة وعشرين عاما يربيهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، وما كانوا ليقبلوا ذلك التهذيب الكامل الذي ينقلهم من الجاهلية إلى العلم والتفكير، والعمل التقي الطاهر دفعة واحدة؛ بل لابد أن يأخذهم في رفق وأناة يقر أمورا على رجاء التغيير، حتى تشرب قلوبهم حب الإسلام، وحب آدابه...
وليس معنى ذلك أن الله تعالى كان يجهل الحقائق ثم علم وهو ما يسمى بالبداء، والله تعالى منزه عنه تبارك وتعالى، وإنما معناه أن الله عالم بكل شيء، ولكن نبيه كان كالمربي الذي يتدرج بتعليمه حتى يشب ويعلو فكره، فتتكامل الشريعة نزولا إذ تكامل عقله إدراكا وبيانا. لذلك كان النسخ وكانت الأحكام التي تجيء في السنة موضع التناسخ الثابت بالحديث...
ولكن هل يجيء النسخ في القرآن، قال جمهور العلماء ذلك مستدلين بقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} ولكن نقول: إن الآية الكريمة كما في بيان الشرط وجوابه، تدل على الإمكان لا على الوقوع فعلا، وإن هذا على أساس تفسير الآية بمعنى الآية القرآنية المشتملة على حكم تكليفي، ولكن كلمة الآية تدل معانيها على الآية الكونية، والمعجزات الكونية والحسية التي يجيء بها الرسل كإحياء عيسى عليه السلام الموتى بإذن الله تعالى، وإحياء الموتى من قبورهم، وتصويره كهيئة الطير فينفخ فيه فتكون طيرا بإذن الله تعالى، وكعصا موسى عليه السلام التي فلقت البحر وفجرت الماء من الحجر، وكإرسال الجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات.
وإن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آيات أي معجزات دالة على رسالته كمعجزات عيسى وموسى ويظهر أن اليهود طلبوا مثلها، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} أي ما ننزل آية لنبي أو رسول أو نؤجلها إلا أتينا بخير منها أو مثلها، وفي ذلك إشارة إلى أن معجزة القرآن خير من المعجزات التي سبقت كمعجزة موسى وعيسى؛ لأن معجزاتهم حوادث تنقضي، وتنتهي بانتهاء وقتها ولا تؤثر إلا في نفوس من عاينوا، وشاهدوا، أما معجزة القرآن، فإنها باقية خالدة تتحدى الأجيال كلها إلى يوم القيامة.
وإننا نميل إلى تفسير الآية بالمعجزة، وذلك للأمور الآتية:
أولا – تعقيب النسخ والتغيير بقوله تعالى: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} فإن ذلك يتناسب بوضوح مع الآية بمعنى المعجزة القاهرة التي تدل (على قدرة الله وصدق رسوله)، والمعجزة الكونية، ولا تظهر مناسبة مع آية التكليف.
وثانيا – قوله تعالى: {ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض} فذكر هذا النص السامي يدل قياسا أن النسخ أو الترك يكون لآية كونية بخير منها، تكون أبقى وأعظم أثرا.
ثالثا – أنه كان لوم على طلب آية أخرى، فقد قال تعالى: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} هذه الآيات كلها جاءت تالية لآية النسخ وهي في تواليها تناسب أن تكون الآية المنسوخة معجزة من معجزات الرسالة الإلهية، ومعجزات النبيين.
ورابعا – أن النسخ يقتضي ألا يمكن الجمع بين الناسخ والمنسوخ، وليس في القرآن آية تتعارض، ولا يمكن التوفيق بينها، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
من [البدهيات] المتعارفة أن الإنسانية قد مرت بعدة أطوار، وأن الله تعالى بفضل ربوبيته، وفيض رحمته، لم يزل يبعث لهداية الإنسان الأنبياء والرسل، فوجا إثر فوج، ما بين الفترة والأخرى، وكلفه على لسانهم في كل مرحلة من مراحل حياته بالتكاليف المناسبة لتلك المرحلة، أخذا بيد الإنسان، الذي اقتضت حكمته أن يستخلفه في الأرض، إلى طريق الرشاد، وتدريجا له في مدارج التكليف من حال إلى حال، على قدر إدراكه، وحسب استطاعته، وتبعا لحاجته، وهكذا كلما بلغ الإنسان درجة أرقى في التطور رفع عنه الحق سبحانه وتعالى من التكاليف ما لم يعد مناسبا، وكلفه بشرع جديد هو أكثر ملائمة لواقعه الجديد. فلما استدار الزمان بحلول موعد البعثة المحمدية، وأذن الله بدخول الإنسان في بداية مرحلة الرشد، وإعداده لدرجة أعلى من الوعي والنضج، بعث الله خاتم الأنبياء بخاتمة الشرائع التي لا شريعة بعدها، والتي جاءت بنسخ ما قبلها مما لا يتفق معها.
ومن ثم كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عامة إلى الناس كافة، للدخول تحت حكمها، والتزام القيام بتكاليفها، ومن ثم كان رفضه البات لعذر بني إسرائيل في التخلف عن ركب الإسلام، بدعوى استحالة النسخ وزعم (الالتزام)
وعلاوة على ذلك فإن في قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}. إشارة خفيفة وتمهيدا مبدئيا لأمر إلهي آخر، سيوحي به الحق سبحانه وتعالى إلى رسوله والمؤمنين خلال فترة قريبة غير بعيدة، ألا وهو الأمر بالتخلي عن استقبال بيت المقدس في الصلاة، بعد استقباله منذ بدء الهجرة حوالي سبعة عشر شهرا، والتحول عنه إلى استقبال البيت الحرام، مما ستوضحه آيات أخرى في الحصص القادمة. نعم جاءت في حصتنا اليوم آية كريمة تمهد الجو لهذا الحادث المهم، الذي سيخصص للمسلمين قبلة يستقلون بها عن بقية الملل، والآية التي أومأنا إليها تشير للأمر المنتظر بمنتهى الإجمال والإيجاز، وهي قوله تعالى: {وَلِلَهِ المَشرِقُ والمَغرِبُ، فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ اللهِ، إِنَّ اللهِ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)}. ومن هنا يتجه الخطاب القرآني فجأة إلى المؤمنين محذرا إياهم من تقليد بني إسرائيل في إلقاء أسئلتهم المحرجة، القائمة على روح الجدل والتعنت، فيقول: {أَمْ تُرِيدُونَ أن تَسئَلُوا رَسُولَكُم كَمَا سُئِلَ مُوسى مِن قَبلُ}. والتشبه هنا واقع بالأسئلة التي وجهها إلى موسى بنو إسرائيل في شأن البقرة وذبحها، طبقا لما حكته عنهم الآيات السالفة. وتأتي في نفس المقام آية أخرى تستنكر أن يقف بعض البسطاء ممن لا يعلمون، موقفا مشابها لموقف بني إسرائيل، تقليدا لأساليبهم الملتوية في العناد والتردد، إذ تقول حكاية عن هذا الفريق "الإسرائيلي الاتجاه ": {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ}. ثم تعقب على هذا القول كاشفة عن مصدره، ومبينة لسببه، إذ تقول: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}. وواضح أن تشابه القلوب، أي تشابه العواطف والمشاعر، عامل من عوامل التشابه في الأفكار والآراء والارتسامات، والذين قالوا مثل هذا القول من قبلهم هم بنو إسرائيل، قالوه لموسى كما حكته عنهم آية سابقة: {وَإذ قُلتُم يَا مُوسى لَن نُومِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهرَةً}. وهكذا يكافح الإسلام كل ما يتسرب إلى مجتمعه من شبه بني إسرائيل وضلالاتهم ودعاياتهم...