التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِي فَٱضۡرِبۡ لَهُمۡ طَرِيقٗا فِي ٱلۡبَحۡرِ يَبَسٗا لَّا تَخَٰفُ دَرَكٗا وَلَا تَخۡشَىٰ} (77)

ثم ساق - سبحانه - جانبا من النعم التى أنعم بها على بنى إسرائيل ، وحذرهم من جحودها ، فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى . . . } .

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي . . } حكاية إجمالية لما انتهى إليه أمر فرعون وقومه ، وقد طوى - سبحانه - ذكر ما جرى عليهم بعد أن تغلب موسى على السحرة . . . وبعد أن مكث موسى يبلغهم دعوة الله - تعالى - مدة طويلة ويطلب منهم إرسالى بنى إسرائيل معه " .

وصدرت الاية الكريمة باللام الموطئة للقسم وبقد تأكيدا لهذا الإيحاء ، وتقريرا له . . .

أى : والله لقد أوحينا إلى عبدنا موسى - عليه السلام - وقلنا له : سر بعبادى من بنى إسرائيل فى أول الليل متجها بهم من مصر إلى البحر الأحمر فإذا ما وصلت إليه ، { فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً } .

أى : فاجعل لهم طريقا فى البحر يابسا ، فالضرب هنا بمعنى الجعل كما فى قولهم : ضرب لهم فى ماله سهما . إذا جعل له سهما .

والمراد بالطريق جنسه فإن الطرق التى حدثت بعد أن ضرب موسى بعصاه البحر . كانت اثنى عشر طريقا بعدد أسباط بنى إسرائيل .

وعبر - سبحانه - عن بنى إسرائيل الذين خرجوا مع موسى بعنوان العبودية لله - تعالى - للإشعار بعطفه - عز وجل - عليهم ورحمته بهم ، وللتنبيه على طغيان فرعون حيث استعبد واستذل عبادا للخالق - سبحانه - وجعلهم عبيدا له .

قال الجمل : " وقوله { يَبَساً } صفة لقوله { طَرِيقاً } وصف به لما يؤول إليه ، لأنه لم يكن يبسا بعد . وإنما مرت عليه الصبا فجففته . وقيل : هو فى الأصل مصدر وصف به للمبالغة ، أو على حذف مضاف ، أو جميع يابس كخادم وخدم وصف به الواحد مبالغة " .

وقوله - سبحانه - : { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى } تذييل قصد به تثبيت فؤاد موسى - عليه السلام - وإدخال الطمأنينة على قلبه .

والدرك : اسم مصدر بمعنى الإدراك . والجملة فى محل نصب على الحال من فاعل " اضرب " .

أى : اضرب لهم كطريقا فى البحر يابسا ، حالة كونك غير خائف من أن يدركك فرعون وجنوده من الخلف ، وغير وجل من أن يغرقكم البحر من أمامكم .

فالآية الكريمة قد اشتملت على كل ما من شأنه أن يغرس الأمان والاطمئنان فى قلب موسى ومن معه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِي فَٱضۡرِبۡ لَهُمۡ طَرِيقٗا فِي ٱلۡبَحۡرِ يَبَسٗا لَّا تَخَٰفُ دَرَكٗا وَلَا تَخۡشَىٰ} (77)

77

( ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ، فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ، لا تخاف دركا ولا تخشى . فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ، وأضل فرعون قومه وما هدى ) . .

ولا يذكر السياق هنا ما الذي كان بعد مواجهة الإيمان للطغيان في موقف السحرة مع فرعون . ولا كيف تصرف معهم بعدما اعتصموا بإيمانهم مستقبلين التهديد والوعيد بقلب المؤمن المتعلق بربه ، المستهين بحياة الأرض وما فيها ومن فيها . إنما يعقب بهذا المشهد . مشهد الانتصار الكامل ليتصل النصر القلبي بالنصر الواقعي . وتتجلى رعاية الله لعباده المؤمنين كاملة حاسمة . . ولنفس الغرض لا يطيل هنا في مشهد الخروج والوقوف أمام البحر - كما يطيل في سور أخرى - بل يبادر بعرض مشهد النصر بلا مقدمات كثيرة . لأن مقدماته كانت في الضمائر والقلوب .

وإن هو إلا الإيحاء لموسى أن يخرج بعباد الله - بني إسرائيل - ليلا . فيضرب لهم طريقا في البحر يبسا بدون تفصيل ولا تطويل - فنعرضه نحن كذلك كما جاء - مطمئنا إلى أن عناية الله ترعاهم فلا يخاف أن يدركه فرعون وجنوده ، ولا يخشى من البحر الذي اتخذ له طريقا يابسا فيه ! ويد القدرة التي أجرت الماء وفق الناموس الذي أرادته قادرة على أن تكشفه بعض الوقت عن طريق يابس فيه !

/خ79

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِي فَٱضۡرِبۡ لَهُمۡ طَرِيقٗا فِي ٱلۡبَحۡرِ يَبَسٗا لَّا تَخَٰفُ دَرَكٗا وَلَا تَخۡشَىٰ} (77)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىَ } .

يقول تعالى ذكره : وَلَقَدْ أوْحَيْنا إلى نبينا مُوسَى إذ تابعنا له الحجج على فرعون ، فأبى أن يستجيب لأمر ربه ، وطغى وتمادى في طغيانه أنْ أسْرِ ليلاً بِعبادِي يعني بعبادي من بني إسرائيل فاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا فِي البَحْرِ يَبَسا يقول : فاتخذ لهم في البحر طريقا يابسا . واليَبَس واليَبْس : يجمع أيباس ، تقول : وقفوا في أيباس من الأرض . واليَبْس المخفف : يجمع يبوس . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله يَبَسا قال : يابسا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن مجاهد ، مثله .

وأما قوله : " لا تَخافُ دَرَكا وَلا تَخْشَى " فإنه يعني : لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك ، ولا تخشى غرقا من بين يديك ووَحَلاً . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : " لا تخافُ دَرَكا وَلا تَخْشَى " يقول : لا تخافُ من آل فرعون دَرَكا وَلا تَخْشى مِنَ البَحْرِ غرقا .

حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " لا تَخافُ دَرَكا وَلا تَخْشَى " يقول : لا تخاف أن يدركك فرعون من بعدك ولا تخشى الغرق أمامك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيْج : قال أصحاب موسى : هذا فرعون قد أدركنا ، وهذا البحر قد غشينا ، فأنزل الله : لا تَخافُ دَرَكا أصحاب فرعون وَلا تَخْشَى من البحر وحلاً .

حدثني أحمد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن بعض أصحابه ، في قوله : " لا تَخافُ دَرَكا وَلا تَخْشَى " قال : الوَحَل .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله لا تَخافُ دَرَكا فقرأته عامّة قرّاء الأمصار غير الأعمش وحمزة : لا تَخافُ دَرَكا على الاستئناف بلا ، كما قال : " وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسألُكَ رِزْقا " فرفع ، وأكثر ما جاء في هذا الأمر الجواب مع «لا » . وقرأ ذلك الأعمش وحمزة «لا تَخَفْ دَرَكا » فجزما لا تخاف على الجزاء ، ورفعا وَلا تَخْشَى على الاستئناف ، كما قال جلّ ثناؤه : " يُوَلّوكُمُ الأدْبارَ ثُمّ لا يُنْصَرُونَ " فاستأنف بثم ، ولو نوى بقوله : ولاَ تَخْشَى الجزم ، وفيه الياء ، كان جائزا ، كما قال الراجز :

*** هُزّي إلَيْكِ الجِذْعَ يَجْنِيكِ الجَنى ***

وأعجب القراءتين إليّ أن أقرأ بها : لا تخافُ على وجه الرفع ، لأن ذلك أفصح اللغتين ، وإن كانت الأخرى جائزة . وكان بعض نحويي البصرة يقول : معنى قوله : لا تَخافُ دَرَكا اضرب لهم طريقا لا تخاف فيه دركا ، قال : وحذف فيه ، كما تقول : زيد أكرمت ، وأنت تريد : أكرمته ، وكما تقول : وَاتّقُوا يَوْما لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا أي لا تجزى فيه . وأما نحويو الكوفة فإنهم ينكرون حذف فيه إلا في المواقيت ، لأنه يصلح فيها أن يقال : قمت اليوم وفي اليوم ، ولا يجيزون ذلك في الأسماء .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِي فَٱضۡرِبۡ لَهُمۡ طَرِيقٗا فِي ٱلۡبَحۡرِ يَبَسٗا لَّا تَخَٰفُ دَرَكٗا وَلَا تَخۡشَىٰ} (77)

{ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي } أي من مصر . { فاضرب لهم طريقا } فاجعل لهم ، من قولهم ضرب له في ماله سهما أو فاتخذ من ضرب اللبن إذا عمله . { في البحر يبسا } يابسا مصدر وصف به يقال يبس يبسا ويبسا كسقم سقما وسقما ، ولذلك وصف به المؤنث فقيل شاة يبس للتي جف لبنها ، وقرئ { يبسا } وهو إما مخفف منه أو وصف على فعل كصعب أو جمع يابس كصحب وصف به الواحد مبالغة كقوله :

كأن قتود رحلي حين ضمت *** حوالب غرزا ومعي جياعا

أو لتعدده معنى فإنه جعل لكل سبط منهم طريقا . { لا تخاف دركا } حال من المأمور أي آمنا من أن يدرككم العدو ، أوصفة ثانية والعائد محذوف ، وقرأ حمزة " لا تخفف " على أنه جواب الأمر . { ولا تخشى } استئناف أي وأنت لا تخشى ، أو عطف عليه والألف فيه للإطلاق كقوله { وتظنون بالله الظنونا } أو حال بالواو والمعنى ولا تخشى الغرق .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِي فَٱضۡرِبۡ لَهُمۡ طَرِيقٗا فِي ٱلۡبَحۡرِ يَبَسٗا لَّا تَخَٰفُ دَرَكٗا وَلَا تَخۡشَىٰ} (77)

هذا استئناف إخبار عن موسى من أمر موسى وبينه وبين مقال السحرة المتقدم مدة من الزمان حدثت فيها لموسى وفرعون حوادث ، وذلك أن فرعون لما انقضى أمر السحرة وغلب موسى وقوي أمره وعده فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل فأقام موسى على وعده حتى غدره فرعون ونكث وأعلمه أنه لا يرسلهم معه ، فبعث الله حينئذ الآيات المذكورة في غير هذه الآيات الجراد والقمل إلى آخرها كلما جاءت آية وعد فرعون أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف القول فإذا انكشف نكث حتى تأتي أخرى ، فلما كانت الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى أن يخرج بني إسرائيل من مصر في الليل هارباً ، و «السرى » سير الليل ، و { أن } في قوله { أن أسر } يجوز أن تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب كقوله عز وجل : { وانطلق الملأ منهم أن امشوا }{[8135]} [ ص : 10 ] ويجوز أن تكون الناصبة للأفعال وتكون في موضع نصب ب { أوحينا } وقوله تعالى { بعبادي } إضافة تشريف لبني إسرائيل ، وكل الخلق عباد الله ، ولكن هذا كقوله تعالى : { ونفخت فيه من روحي }{[8136]} [ الحجر : 29 ] ، وروي من قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أشعرهم موسى عليه السلام بليلة الخروج استعاروا من معارفهم من القبط حلياً وثياباً وكل أحد ما اتفق له .

ويروى أن موسى أذن لهم في ذلك وقال لهم : «إن الله سينفلكموها » ، ويروى أنهم فعلوا ذلك دون إذنه عليه السلام وهو الأشبه به وسيأتي في جمع الحلي ما يؤيد ذلك ، ويروى أن بني إسرائيل عجنوا زادهم ليلة سراهم ووضعوه ليختمر فأعجلهم موسى عليه السلام في الخروج فطبخوه فطيراً في سنتهم في ذلك العام إلى هلم ، ويروى أن موسى عليه السلام نهض ببني إسرائيل وهو ستمائة ألف إنسان فسار بهم من مصر يريد بحر القلزم واتصل الخبر بفرعون فجمع جنوده وحشرهم ونهض وراءه فأوحي إلى موسى أن يقصد { البحر } فخرج بنو إسرائيل فرأوا أن العذاب من ورائهم والبحر من أمامهم وموسى يثق بصنع الله تعالى فلما رآهم فرعون قد هبطوا نحو البحر طمع فيهم ، وكان مقصدهم إلى موضع منقطع فيه الفحوص{[8137]} والطرق الواسعة ، واختلف الناس في عدد جند فرعون فقيل كان في خيله سبعون ألف أدهم ونسبة ذلك من سائر الألوان ، وقيل أكثر من هذا مما اختصرته لقلة صحته ، فلما وصل موسى البحر وقارب فرعون لحاقه وقوي فزع بني إسرائيل أوحى الله تعالى إلى موسى { أن اضرب بعصاك البحر } [ الشعراء : 63 ] ، ويروى أن الوحي إليه بذلك كان متقدماً وهو ظاهر الآية ، ويروى أنه إنما أوحي إليه في موطن وقوعه واتصل الكلام في هذه الآية على جهة وصف الحال وضم بعض الأمور إلى بعض فضرب موسى عليه السلام البحر فانفلق اثنتي عشرة فرقة ، طرقاً واسعة بينها حيطان ماء واقف فدخل موسى عليه السلام بعد أن بعث الله تعالى ريح الصبا ، فجففت تلك الطرق حتى يبست ، ودخل بنو إسرائيل ووصل فرعون إلى المدخل وبنو إسرائيل كلهم في البحر فرأى الماء على تلك الحال فجزع قومه واستعظموا الأمر ، فقال لهم إنما انفلق لي من هيبتي ، وهاهنا كمل إضلاله لهم وحمله الله تعالى على الدخول وجاء جبريل عليه السلام راكباً على فرس أنثى فدخل ، فأتبعها فرس فرعون وتتابع الناس حتى تكاملوا في البحر فانطبق عليهم ، فسمع بنو إسرائيل انطباق البحر وهم قد خرجوا بأجمعهم من البحر فعجبوا وأخبرهم موسى أن فرعون وقومه قد هلكوا فيه ، فطلبوا مصداق ذلك ، فلفظ البحر الناس وألقى الله تعالى فرعون على فجوة من الأرض بدرعه المعروفة له .

قال القاضي أبو محمد : فهذا اختصار قصص هذه الآية بحسب ألفاظها وقد مضى أمر غرق فرعون بأوعب من هذا في موضع اقتضاه . وقوله تعالى : { يبساً } مصدر وصف به ، وقرأ بعض الناس «يابساً » وأشار إلى ذكره الزجاج ، وقرأ حمزة وحده «لا تخف دركاً » وذلك إما على جواب الأمر وإما على نهي مستأنف ، وقرأ الجمهور «لا تخاف » وذلك على أن يكون «لا تخاف » حالاً من { موسى } عليه السلام ، ويحتمل أن يكون صفة الطريق بتقدير لا يخاف فيه أي يكون بهذه الصفة ومعنى هذا القول «لا تخاف دركاً »{[8138]} من فرعون وجنوده { ولا تخشى } غرقاً من البحر .


[8135]:من الآية (6) من سورة (ص).
[8136]:من الآية (29) من سورة (الحجر) وتكررت في الآية (72) من سورة (ص).
[8137]:فحص الأرض: حفرها.
[8138]:الدرك والدرك: اسمان من الإدراك، وقد قرئ أيضا بسكون الدال كما قرئ بفتحها.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِي فَٱضۡرِبۡ لَهُمۡ طَرِيقٗا فِي ٱلۡبَحۡرِ يَبَسٗا لَّا تَخَٰفُ دَرَكٗا وَلَا تَخۡشَىٰ} (77)

افتتاح الجملة بحرف التحقيق للاهتمام بالقصة ليلقي السامعون إليها أذهانهم . وتغيير الأسلوب في ابتداء هذه الجملة مؤذن بأن قصصاً طويت بين ذكر القصتين ، فلو اقتصر على حرف العطف لتوهّم أن حكاية القصة الأولى لم تزل متصلة فتُوهم أن الأمر بالخروج وقع موالياً لانتهاء مَحْضَر السحرة ، مع أن بين ذلك قصصاً كثيرة ذُكرت في سورة الأعراف وغيرها ، فإن الخروج وقع بعد ظهور آيات كثيرة لإرهاب فرعون كلما همّ بإطلاق بني إسرائيل للخروج . ثمّ نكَل إلى أن أذن لهم بأخَرَة فخرجوا ثمّ ندم على ذلك فأتبعهم .

فجملة { ولقَدْ أوْحَيْنَا إلى موسى } ابتدائية ، والواو عاطفة قصة على قصة وليست عاطفة بعض أجزاء قصة على بعض آخر .

و { اسْرِ } أمرٌ من السُرَى بضم السين وفتح الراء وتقدّم في سورة الإسراء أنه يقال : سَرَى وأسرى . وإنما أمره الله بذلك تجنّباً لنكول فرعون عليهم . والإضافة في قوله { بِعِبَادي } لتشريفهم وتقريبهم والإيماءِ إلى تخليصهم من استعباد القبط وأنهم ليسُوا عبيداً لفرعون .

والضرب : هنا بمعنى الجَعْل كقولهم : ضَرَب الذهبَ دنانير . وفي الحديث : " واضربوا إليّ معكم بسهم " ، وليس هو كقوله { أن اضْرِب بعصاك البحر } [ الشعراء : 63 ] لأنّ الضرب هنالك متعد إلى البحر وهنا نصَب طريقا .

واليَبَس بفتح المثناة والموحدة . ويقال : بسكون الموحدة : وصف بمعنى اليابس . وأصله مصدر كالعَدَم والعُدْم ، وصف به للمبالغة ولذلك لا يؤنث فقالوا : ناقة يَبَس إذا جفّ لبنها .

و { لا تخافُ } مرفوع في قراءة الجمهور ، وعدٌ لموسى اقتصر على وعده دون بقية قومه لأنه قدوتهم فإذا لم يخف هو تشجعوا وقوي يقينهم ، فهو خبر مراد به البُشرى . والجملة في موضع الحال .

وقرأ حمزة وحده لا تَخَفْ على جواب الأمر الذي في قوله فاضرب ، وكلمة { تَخَفْ } مكتوبة في المصاحف بدون ألف لتكون قراءتها بالوجهين لكثرة نظائر هذه الكلمة ذات الألف في وسطها في رسم المصحف ويسميه المؤدبون « المحذوفَ » .

وأما قوله { وَلاَ تخشى } فالإجماع على قراءته بألف في آخره . فوجه قراءة حمزة فيها مع أنّه قرأ بجزم المعطوف عليه أن تكون الألف للإطلاق لأجل الفواصل مثل ألف { فأضلونا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] وألف { وتظنون بالله الظُنونا } [ الأحزاب : 10 ] ، أو أن تكون الواو في قوله { ولا تخشى للاستئناف لا للعطف .

و الدّرَك بفتحتين اسم مصدر الإدراك ، أي لا تخاف أن يدركك فرعون .

والخشية : شدّة الخوف . وحذف مفعوله لإفادة العموم ، أي لا تخشى شيئاً ، وهو عامّ مراد به الخصوص ، أي لا تخشى شيئاً مما يخشى من العدوّ ولا من الغرق .