ثم ذكرهم - سبحانه - بفضله عليهم وتأييده لهم يوم غزوة بدر فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } .
وبدر : اسم لماء بين مكة والمدينة ، التقى عنده المسلمون والمشركون من قريش فى السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وكان عدد المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، وكان عدد المشركين قريبا من ألف رجل ، ومع ذلك كان النصر حليفا للمسلمين . والأذلة - كما يقول الزمخشرى : جمع قلة ، وجاء بجمع القلة ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلين . وذلتهم : ما كان بهم من ضعف الحال ، وقلة السلاح والمال والمركوب ، وذلك أنهم خرجوا على النواضح يعتقب لانفر منهم على البعير الواحد ، وما كان معهم إلا فرس واحد . وقلتهم : أنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، وكان عدوهم فى حال كثرة زهاء ألف مقاتل ومعهم مائة فرس ، ومعهم الشكة والشوكة - أى السلاح والقوة - .
وإذن فليس المراد بكونهم أذلة أنهم كانوا أضعاف النفوس . أو كانوا راضين بالهوان . وإنما المراد أنهم كانوا قليلى العدد والعدد ، فقراء فى الأموال وفى وسائل القتال .
وفى هذا التذكير لهم بما حدث فى غزوة بدر ، تنبيه لهم إلى وجوب تفويض أمورهم إلى خالقهم ، وإلى أن القلة المؤمنة التقية الصابرة كثيراً ما تنتصر على الكثرة الفاسقة الظالمة ، ولذا فقد ختم - سبحانه - بقوله : { فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
أى فاتقوا الله بأن تستشعروا هيبته ، وتجتنبوا ما نهاكم عنه ، وتفعلوا ما أمركم به لعلعكم بذلك تكونون قد قمتم بواجب شكر ما أنعم به عليكم من نعم لا تحصى .
هكذا يبدأ الحديث عن المعركة التي لم ينتصر فيها المسلمون - وقد كادوا - وهي قد بدأت بتغليب الاعتبارات الشخصية على العقيدة عند المنافق عبد الله بن أبي ؛ وتابعه في حركته أتباعه الذين غلبوا اعتباره الشخصي على عقيدتهم . وبالضعف الذي كاد يدرك طائفتين صالحتين من المسلمين . ثم انتهت بالمخالفة عن الخطة العسكرية تحت مطارق الطمع في الغنيمة ! فلم تغن النماذج العالية التي تجلت في المعركة ، عن المصير الذي انتهت إليه ، بسبب ذلك الخلل في الصف ، وبسبب ذلك الغبش في التصور . .
وقبل أن يمضي في الاستعراض والتعقيب على أحداث المعركة التي انتهت بالهزيمة ، يذكرهم بالمعركة التي انتهت بالنصر - معركة بدر - لتكون هذه أمام تلك ، مجالا للموازنة وتأمل الأسباب والنتائج ؛ ومعرفة مواطن الضعف ومواطن القوة ، وأسباب النصر وأسباب الهزيمة . ثم - بعد ذلك - ليكون اليقين من أن النصر والهزيمة كليهما قدر من أقدار الله ؛ لحكمة تتحقق من وراء النصر كما تتحقق من وراء الهزيمة سواء . وأن مرد الأمر في النهاية إلى الله على كلا الحالين ، وفي جميع الأحوال :
( ولقد نصركم الله ببدر - وأنتم أذلة - فاتقوا الله لعلكم تشكرون . إذ تقول للمؤمنين : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ؟ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا ، يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين . وما جعله الله إلا بشرى لكم ، ولتطمئن قلوبكم به . وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم . ليقطع طرفا من الذين كفروا ، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين - ليس لك من الأمر شيء - أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون . ولله ما في السماوات وما في الأرض ، يغفر لمن يشاء ، ويعذب من يشاء والله غفور رحيم ) . .
والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة - كما أسلفنا - فقد تم بغير أداة من الأدوات المادية المألوفة للنصر . لم تكن الكفتان فيها - بين المؤمنين والمشركين - متوازنتين ولا قريبتين من التوازن . كان المشركون حوالي ألف ، خرجوا نفيرا لاستغاثة أبي سفيان ، لحماية القافلة التي كانت معه ، مزودين بالعدة والعتاد ، والحرص على الأموال ، والحمية للكرامة . وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة ، لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة ، إنما خرجوا لرحلة هينة . لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليها ؛ فلم يكن معهم - على قلة العدد - إلا القليل من العدة . وكان وراءهم في المدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم ، ومنافقون لهم مكانتهم ، ويهود يتربصون بهم . . وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في وسط خضم من الكفر والشرك في الجزيرة . ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة أنهم مهاجرون مطاردون من مكة ، وأنصار آووا هؤلاء المهاجرين ولكنهم ما يزالون نبته غير مستقرة في هذه البيئة !
فبهذا كله يذكرهم الله - سبحانه - ويرد ذلك النصر إلى سببه الأول في وسط هذه الظروف :
( ولقد نصركم الله ببدر . وأنتم أذلة . فاتقوا الله لعلكم تشكرون ) . .
إن الله هو الذي نصرهم ؛ ونصرهم لحكمة نص عليها في مجموعة هذه الآيات . وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم . فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله ، الذي يملك النصر والهزيمة ؛ والذي يملك القوة وحده والسلطان . فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر ؛ وأن تجعله شكرا وافيا لائقا بنعمة الله عليهم على كل حال .
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ فَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإن تصبروا وتتقوا ، لا يضرّكم كيدهم شيئا ، وينصركم ربكم ، { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه بَبدْرٍ } على أعدائكم { وأَنْتُمْ } يومئذٍ { أذِلّةٌ } يعني قليلون ، في غير منعة من الناس ، حتى أظهركم الله على عدوّكم مع كثرة عددهم ، وقلة عددكم ، وأنتم اليوم أكثر عددا منكم حينئذٍ ، فإن تصبروا لأمر الله ينصركم كما نصركم ذلك اليوم { فاتّقُوا الله } يقول تعالى ذكره : فاتقوا ربكم بطاعته واجتناب محارمه { لَعلّكُمْ تَشْكُرُونَ } يقول : لتشكروه على ما منّ به عليكم من النصر على أعدائكم ، وإظهار دينكم ، ولما هداكم له من الحقّ الذي ضلّ عنه مخالفوكم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ولَقَدْ نَصَركُمْ اللّهُ بِبَدْرٍ وأنْتُمْ أذِلّةٌ } يقول : وأنتم أقلّ عددا ، وأضعف قوّة . { فاتّقُوا اللّه لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي فاتقون ، فإنه شكر نعمتي .
واختلف في المعنى الذي من أجله سمي بدر بدرا ، فقال بعضهم : سمي بذلك لأنه كان ماء لرجل يسمى بدرا ، فسمي باسم صاحبه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن زكريا ، عن الشعبي ، قال : كانت بدر لرجل يقال له بدر ، فسميت به .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا زكريا ، عن الشعبي أنه قال : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ } قال : كانت بدر بئرا لرجل يقال له بدر ، فسميت به .
وأنكر ذلك آخرون وقالوا : ذلك اسم سميت به البقعة كما سمي سائر البلدان بأسمائها ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحرث بن محمد ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : حدثنا محمد بن عمر الواقدي ، قال : حدثنا منصور ، عن أبي الأسود ، عن زكريا ، عن الشعبي ، قال : إنما سمي بدرا لأنه كان ماء لرجل من جهينة يقال له بدر . وقال الحرث : قال ابن سعد : قال الواقدي : فذكرت ذلك لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح ، فأنكراه ، وقالا : فلأيّ شيء سميت الصفراء ؟ ولأيّ شيء سميت الحمراء ؟ ولأيّ شيء سمي رابغ ؟ هذا ليس بشيء ، إنما هو اسم الموضع . قال : وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري ، فقال : سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون : هو ماؤنا ومنزلنا ، وما ملكه أحد قط يقال له بدر ، وما هو من بلاد جهينة إنما هي بلاد غفار . قال الواقدي : فهذا المعروف عندنا .
حُدثت عن الحسن بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : بدر ماء عن يمين طريق مكة بين مكة والمدينة .
وأما قوله : { أذِلّةٌ } فإنه جمع ذليل ، كما الأعزّة جمع عزيز ، والألبّة جمع لبيب . وإنما سماهم الله عزّ وجلّ أذلة لقلة عددهم ، لأنهم كانوا ثلثمائة نفس وبضعة عشر ، وعدوّهم ما بين التسعمائة إلى الألف ، على ما قد بينا فيما مضى ، فجعلهم لقلة عددهم أذلة .
وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وأنْتُمْ أذِلّةٌ فاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } وبدر : ماء بين مكة والمدينة ، التقى عليه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم والمشركون ، وكان أوّل قتال قاتله نبيّ الله صلى الله عليه وسلم . وذكر لنا أنه قال لأصحابه يومئذٍ : «أنْتُمْ اليَوْمَ بعدّةِ أصحَابِ طالُوتَ يَوْمَ لَقِيَ جالُوتَ » : فكانُوا ثَلَثَمِائةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً ، وَالمُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ ألْفٌ أوْ رَاهَقُوا ذَلِكَ .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وأنْتُمْ أذِلّةٌ فاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } قال : يقول : وأنتم أذلة قليل ، وهم يومئذٍ بضعة عشر وثلثمائة .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، نحو قول قتادة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وأنْتُمْ أذِلّةٌ } أقلّ عددا وأضعف قوّة .
وأما قوله : { فاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُم تَشْكُرُونَ } فإن تأويله كالذي قد بينت كما :
حدثنا ابن حميد ، قال حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { فَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } : أي فاتقوني ، فإنه شكر نعمي .
{ ولقد نصركم الله ببدر } تذكير ببعض ما أفادهم التوكل . وبدر ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدرا فسمي به . { وأنتم أذلة } حال من الضمير ، وإنما قال أذلة ولم يقل ذلائل تنبيها على قلتهم مع ذلتهم لضعف الحال وقلة المراكب والسلاح . { فاتقوا الله } في الثبات { لعلكم تشكرون } بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصره ، أو لعلكم بنعم الله عليكم فتشكرون فوضع الشكر موضع الأنعام لأنه سببه .