ثم أكد الله - تعالى - كذب هؤلاء اليهود الذين قالوا : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } بجملة أخرى فيها الرد الذى يخرس ألسنتهم ، ويدحض مزاعمهم فقال - تعالى - : { بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } .
و { بلى } حرف يذكر فى الجواب لإثبات المنفى فى كلام سابق ، ولقد حكى القرآن قبل ذلك أن اليهود قد نفوا أن يكون عليهم فى الأميين سبيل .
فجاء - سبحانه - بهذا الرد الذى يثبت ما نفوه ، ويبطل ما زعموه .
والمعنى : ليس الأمر كما زعمتم أيها اليهود من أنه ليس عليكم فى الأميين سبيل ، بل الحق أن علكيم فيهم سبيل . وأنكم معذبون بسبب كفركم واستحلالكم لأموالهم بدون حق ومثابون إن آمنتم بالله ورسوله ووفيتم بعهودكم ، وصنتم أنفسكم من كل ما يغضب الله - تعالى - .
وقد علل - سبحانه - هذا الحكم العادل بجملة مستأنفة عامة فقال : { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } .
أي كل من أوفى بعهد الله فآمن بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم واستقام على دينه ، واتقى ما نهى الله عنه من ترك الخيانة والغدر وما إلى ذلك من المحرمات ، فإن الله يحبه ويرضى عنه ، ومن لم يفعل ذلك فإن الله يبغضه ولا يحبه ويعذبه العذاب الأليم .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد بينت أن محبة الله لعبده تتوفر بأمرين :
أولهما : الوفاء بالعهد . فكل ما يلتزمه الإنسان من عهود فالوفاء بها واجب . وفى مقدمة هذه العهود ، العهد الذى أخذه الله على عباده بتوحيده والإيمان برسله وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم .
وثانيهما : تقوى الله بمعنى أن يجتنب ما نهى الله عنه وحرمه عليه ، ولا يفعل إلا ما أحله الله وأذن له فيه .
وقد خلا اليهود من هذين الأمرين ، لأنهم لم يفوا بعهودهم ، ولم يتقوا نالله ، فسلبت عنهم محبته ، واستحقوا غضبه - سبحانه - ونقمته .
قال صاحب الكشاف : قوله - تعالى - { بلى } إثبات لما نفوه من السبيل عليهم فى الأميين ، أى بلى عليهم سبيل فيهم . وقوله { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى } جملة مستأنفة مقررة للجملة التى سدّت { بلى } مسدها . والضمير فى { بِعَهْدِهِ } راجع إلى { مَنْ أوفى } على أن كل من أوفى بما عاهد عليه واتقى الله بأن ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه .
فإن قلت : فهذا عام يخيل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة لكسبوا محبة الله . قلت : أجل ، لأنهم إذا وفوا بالعهود ، وفوا أول شىء بالعهد الأعظم وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم .
ولو اتقوا الله فى ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه ، ويجوز أن يرجع الضمير فى " بعهده " إلى الله ، على أن كل من وفى بعهد الله واتقاه فإن الله يحبه ويدخل فى ذلك الإيمان وغيره من الصالحات ، وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء .
فإن قلت : فأين الضمير الراجع من الجزاء إل من ؟ قلت : عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير " .
وبهذا يكون القرآن قد كشف عن مكر اليهود وخداعهم ، ورد عليهم فيما افتروه من أقوال باطلة ، وأثبت أنهم يكذبون فيما يدعون عن تعمد وإصرار ، وبين أن أداء الأمانة واجب على كل إنسان ، وأن كل من وفى بعهود الله واتقاه فهو أهل لمحبته ورضاه .
هنا نجد القرآن الكريم يقرر قاعدته الخلقية الواحدة ، وميزانه الخلقي الواحد . ويربط نظرته هذه بالله وتقواه :
( بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين . إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم . ولهم عذاب أليم ) . .
فهي قاعدة واحدة من راعاها وفاء بعهد الله وشعورا بتقواه أحبه الله وأكرمه . ومن اشترى بعهد الله وبأيمانه ثمنا قليلا - من عرض هذه الحياة الدنيا أو بالدنيا كلها وهي متاع قليل - فلا نصيب له في الآخرة . ولا رعاية له عند الله ولا قبول ، ولا زكاة له ولا طهارة . وإنما هو العذاب الأليم .
ونلمح هنا أن الوفاء بالعهد مرتبط بالتقوى . ومن ثم لا يتغير في التعامل مع عدو أو صديق . فليس هو مسألة مصلحة . إنما هو مسألة تعامل مع الله أبدا . دونما نظر إلى من يتعامل معهم .
وهذه هي نظرية الإسلام الأخلاقية بصفة عامة . في الوفاء بالعهد وفي سواه من الأخلاق : التعامل هو أولا تعامل مع الله ، يلحظ فيه جناب الله ، ويتجنب به سخطه ويطلب به رضاه . فالباعث الأخلاقي ليس هو المصلحة ؛ وليس هو عرف الجماعة ، ولا مقتضيات ظروفها القائمة . فإن الجماعة قد تضل وتنحرف ، وتروج فيها المقاييس الباطلة . فلا بد من مقياس ثابت ترجع إليه الجماعة كما يرجع إليه الفرد على السواء . ولا بد أن يكون لهذا المقياس فوق ثباته قوة يستمدها من جهة أعلى . . أعلى من اصطلاح الناس ومن مقتضيات حياتهم المتغيرة . . ومن ثم ينبغي أن تستمد القيم والمقاييس من الله ؛ بمعرفة ما يرضيه من الأخلاق والتطلع إلى رضاه والشعور بتقواه . . بهذا يضمن الإسلام تطلع البشرية الدائم إلى أفق أعلى من الأرض ؛ واستمدادها القيم والموازين من ذلك الأفق الثابت السامق الوضيء .
{ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتّقَى فَإِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ }
وهذا إخبار من الله عزّ وجلّ عمّا لمن أدّى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاءَ الله ومراقبَته عنده . فقال جل ثناؤه : ليس الأمر كما يقول هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود ، من أنه ليس عليهم في أموال الأميين حرج ولا إثم ، ثم قال بلى ، ولكن من أوفى بعهده واتقى ، يعني ولكن الذي أوفى بعهده ، وذلك وصيته إياهم ، التي أوصاهم بها في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به . والهاء في قوله : { مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ } عائدة على اسم الله في قوله : { وَيَقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ } يقول : بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه ، فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدّق به . بما جاء به من الله من أداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها ، وغير ذلك من أمر الله ونهيه ، و{ وَاتّقَى } يقول : واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به وسائر معاصيه التي حرّمها عليه ، فاجتنب ذلك مراقبة وعيد الله ، وخوف عقابه { فإنّ اللّهَ يُحِبّ المُتقينَ } يعني : فإن الله يحبّ الذين يتقونه فيخافون عقابه ، ويحذرون عذابه ، فيجتنبون ما نهاهم عنه ، وحرّمه عليهم ، ويطيعونه فيما أمرهم به . وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يقول : هو اتقاء الشرك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتّقَى } يقول : اتقى الشرك¹ { إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتّقِينَ } يقول : الذين يتقون الشرك .
وقد بينا اختلاف أهل التأويل في ذلك والصواب من القول فيه بالأدلة الدالة عليه فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية عن إعادته .
{ بلى } إثبات لما نفوه أي بلى عليهم فيهم سبيل . { من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } استئناف مقرر للجملة التي سدت { بلى } مسدها ، والضمير المجرور لمن أو لله وعموم المتقين ناب عن الراجع من الجزاء إلى { من } ، وأشعر بأن التقوى ملاك الأمر وهو يعم الوفاء وغيره من أداء الواجبات والاجتناب عن المناهي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.