التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَأٓتِيَةٞۖ فَٱصۡفَحِ ٱلصَّفۡحَ ٱلۡجَمِيلَ} (85)

فقوله - سبحانه - { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق } توجيه للناس إلى التأمل في مظاهر قدرة الله - تعالى - ، وإلى الحق الأكبر الذي قام عليه هذا الوجود ، بعد أن بين - سبحانه - قبل ذلك ، سنته التي لا تتخلف ، وهى أن حسن العاقبة للمتقين ، وسوء المصير للمكذبين .

والحق : هو الأمر الثابت الذي تقتضيه عدالة الله - تعالى - وحكمته .

والباء فيه للملابسة .

أى : وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما من كائنات لا يعلمها إلا الله ، إلا خلقًا ملتبسًا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل ، وبالعدل الذي لا يخالطه جور وبالحكمة التي تتنزه عن العبث ، وتأبى استمرار الفساد ، واستبقاء ضعف الحق أمام الباطل .

والمراد بالساعة في قوله - تعالى - : { وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ } ساعة البعث والحساب والثواب والعقاب في الآخرة .

أى : وإن ساعة إعطاء كل ذى حق حقه ، ومعاقبة كل ذى باطل على باطله ، لآتية لا ريب فيها ، فمن فاته أخذ حقه في الدنيا فسيأخذه وافيا غير منقوص في الآخرة ، ومن أفلت من عقوبة الدنيا فسينال ما هو أشد وأخزى منها في يوم الحساب .

فالجملة الكريمة انتقال من تهديد المجرمين بعذاب الدنيا ، إلى تهديدهم بعذاب الآخرة ، والمقصود من ذلك تسليته صلى الله عليه وسلم عما أصابه من المكذبين من أذى .

وأكد - سبحانه - هذه الجملة بإن وبلام التوكيد ، ليدل على أن الساعة آتية لا محالة ، وليخرس ألسنة الذين ينكرون وقوعها وحدوثها . . .

وجملة { فاصفح الصفح الجميل } تفريع على ما قبلها .

والصفح الجميل : ترك المؤاخذة على الذنب ، وإغضاء الطرف عن مرتكبه بدون معاتبة .

أى : ما دام الأمر كما ذكرنا لك أيها الرسول الكريم - من أن هذا الكون قد خلقناه بالحق ، ومن أن الساعة آتية لا ريب فيها . . . فاصفح عن هؤلاء المكذبين لك صفحًا جميلاً ، لا عتاب معه ولا حزن ولا غضب . . . حتى يحكم الله بينك وبينهم .

وهذا التعبير فيه ما فيه من تسليته صلى الله عليه وسلم وتكريمه ، لأنه - سبحانه - أمره بالصفح الجميل عن أعدائه ، ومن شأن الذي يصفح عن غيره ، أن يكون أقوى وأعز من هذا الغير - فكأنه - سبحانه - يقول له : اصفح عنهم فعما قريب ستكون لك الكلمة العليا عليهم .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وقوله - سبحانه - : { . . . فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَأٓتِيَةٞۖ فَٱصۡفَحِ ٱلصَّفۡحَ ٱلۡجَمِيلَ} (85)

85

( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ، وإن الساعة لآتية . فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم ) . .

إن هذا التعقيب بتقرير الحق الذي تقوم به السماوات والأرض ، والذي به كان خلقهما وما بينهما ، لتعقيب عظيم الدلالة ، عميق المعنى ، عجيب التعبير . فماذا يشير إليه هذا القول : ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق )? إنه يوحي بأن الحق عميق في تصميم هذا الوجود : عميق في تكوينه . عميق في تدبيره . عميق في مصير هذا الوجود وما فيه ومن فيه .

عميق في تصميم هذا الوجود . فهو لم يخلق عبثا ، ولم يكن جزافا ، ولم يتلبس بتصميمه الأصيل خداع ولا زيف ولا باطل . والباطل طاريء عليه ليس عنصرا من عناصر تصميمه .

عميق في تكوينه . فقوامه من العناصر التي يتألف منها حق لا وهم ولا خداع . والنواميس التي تحكم هذه العناصر وتؤلف بينها حق لا يتزعزع ولا يضطرب ولا يتبدل . ولا يتلبس به هوى أو خلل أو اختلاف .

عميق في تدبيره . فبالحق يدبر ويصرف ، وفق تلك النواميس الصحيحة العادلة التي لا تتبع هوى ولا نزوة ، إنما تتبع الحق والعدل .

عميق في مصيره . فكل نتيجة تتم وفق تلك النواميس الثابتة العادلة ؛ وكل تغيير يقع في السماوات والأرض وما بينهما يتم بالحق وللحق . وكل جزاء يترتب يتبع الحق الذي لا يحابي .

ومن هنا يتصل الحق الذي خلق الله به السماوات والأرض وما بينهما ، بالساعة الآتية لا ريب فيها . فهي آتية لا تتخلف . وهي جزء من الحق الذي قام به الوجود . فهي في ذاتها حقيقة ، وقد جاءت لتحق الحق .

( فاصفح الصفح الجميل ) . .

ولا تشغل قلبك بالحنق والحقد ، فالحق لا بد أن يحق :