ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى وقرره فقال : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ . . . } .
أى : إن هذه المعبودات الباطلة لا تملك من شئ مع الله - تعالى - ، بدليل أنكم إن تدعوهم لنفعكم ، لن يسمعوا دعاءكم ، وإن تستغيثوا بهم عند المصائب والنوائب ، لمن يلبوا استغاثتكم . .
{ وَلَوْ سَمِعُواْ } على سبيل الفرض والتقدير { مَا استجابوا لَكُمْ } لأنهم لا قدرة لهم على هذه الاستجابة لعجزهم عن ذلك .
{ وَيَوْمَ القيامة } الذى تتجلى فيه الحقائق ، وتنكشف الأمور { يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } .
أى : يتبرأون من عبادتكم لهم ، ومن إشراككم إياهم العبادة مع الله - تعالى - ، فضلاً عن عدم استجابتهم لكم إذا دعوتموهم لنصرتكم .
{ وَلاَ يُنَبِّئُكَ } أى : ولا يخبرك بهذه الحقائق التى لا تقبل الشك أو الريب .
{ مِثْلُ خَبِيرٍ } أى : مثل من هو خبير بأحوال النفوس وبظواهرها وببواطنها . وهو الله - عز وجل - فإنه - سبحانه - هو الذى يعلم السر وأخفى .
وبهذا نرى الآيات الكريمة ، قد طوفت بنا فى ٍأرجاء هذا الكون ، وساقت لنا ألوانا من نعم الله - تعالى - على الناس ، كالرياح ، والسحاب ، والأمطار والبحار ، والليل والنهار ، والشمس والقمر . . وهى نعم تدل على وحدانية المنعم بها ، وعلى قدرته - عز وجل - وفى كل ذلك هداية إلى الحق لكل عبد منيب .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } .
قوله : إنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا ما اسْتَجابُوا لَكُمْ يقول تعالى ذكره : إن تدعوا أيها الناس هؤلاء الاَلهة التي تعبدونها من دون الله لا يسمعوا دعاءكم ، لأنها جماد لا تفهم عنكم ما تقولون وَلَوْ سَمِعُوا ما اسْتَجابُوا لَكُمْ يقول : ولو سمعوا دعاءكم إياهم ، وفهموا عنكم أنها قولكم ، بأن جُعل لهم سمع يسمعون به ، ما استجابوا لكم ، لأنها ليست ناطقة ، وليس كلّ سامع قولاً متيسّرا له الجواب عنه . يقول تعالى ذكره للمشركين به الاَلهة والأوثان : فكيف تعبدون من دون الله من هذه صفته ، وهو لا نفع لكم عنده ، ولا قُدرة له على ضرّكم ، وتَدَعون عبادة الذي بيده نفعكم وضرّكم ، وهو الذي خلقكم وأنعم عليكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا ما اسْتَجابُوا لَكُمْ أي ما قَبِلوا ذلك عنكم ، ولا نفعوكم فيه .
وقوله : وَيَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ يقول تعالى ذكره للمشركين من عبدة الأوثان : ويوم القيامة تتبرأ آلهتكم التي تعبدونها من دون الله من أن تكون كانت لله شريكا في الدنيا ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَيَوْمَ القِيامَةِ يكْفُرُونَ بشِرْكِكمْ إياهم ، ولا يرضَوْن ، ولا يُقِرّون به .
وقوله : وَلا يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يقول تعالى ذكره : ولا يخبرك يا محمد عن آلهة هؤلاء المشركين وما يكون من أمرها وأمر عَبَدَتها يوم القيامة ، من تَبَرّئها منهم ، وكفرها بهم ، مثل ذي خبرة بأمرها وأمرهم وذلك الخبير هو الله الذي لا يخفى عليه شيء كان أو يكون سبحانه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا يُنَبّئُكَ مثْلُ خَبِير والله هو الخبير أنه سيكون هذا منهم يوم القيامة .
ثم بين تعالى أمر الأصنام بثلاثة أشياء كلها تعطي بطلانها ، : أولها أنها لاتسمع إن دعيت ، والثاني أنها لا تجيب أن لو سمعت وإنما جاء بهذه لأن لقائل متعسف أن يقول عساها تسمع ، والثالث أنها تتبرأ يوم القيامة من الكفار ، ويكفرون بشركهم أي بأن جعلوهم شركاء لله فأضاف الشرك إليهم من حيث هم قرروه ، فهو مصدر مضاف إلى الفاعل ، وقوله { يكفرون } يحتمل ان يكون بكلام ، وعبارة يقدر الله الأصنام عليها ويخلق لها إدراكاً يقتضيها ، ويحتمل أن يكون بما يظهر هناك من جمودها وبطولها عند حركة كل ناطق ومدافعة كل محتج فيجيء هذا على طريق التجوز كما قال ذو الرمة : [ الطويل ]
وقفت على ربع لمية ناطق . . . يخاطبني آثاره وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه . . . تكلمني أحجاره وملاعبه{[9706]}
وهذا كثير ، وقوله { ولا ينبئك مثل خبير } قال المفسرون قتادة وغيره «الخبير » هنا أراد به تعالى نفسه فهو الخبير الصادق الخبر نبأ بهذا فلا شك في وقوعه ، ويحتمل أن يكون قوله { ولا ينبئك مثل خبير } من تمام ذكر الأصنام ، كأنه قال : ولا يخبرك مثل من يخبر عن نفسه أي لا أصدق في تبريها من شرككم منها فيريد بالخبير على هذا المثل له ، كأنه قال { ولا ينبئك مثل خبير } عن نفسه وهي قد أخبرت عن نفسها بالكفر بهؤلاء .
وجملة { إن تدعوهم } خبر ثان عن { الذين تدعون من دونه } [ فاطر : 13 ] . والمقصد منها تنبيه المشركين إلى عجز أصنامهم بأنها لا تسمع ، وليس ذلك استدلالاً فإنهم كانوا يزعمون أن الأصنام تسمع منهم فلذلك كانوا يكلمونها ويوجهون إليها محامدهم ومدائحهم ، ولكنه تمهيد للجملة المعطوفة على الخبر وهي جملة { ولو سمعوا ما استجابوا لكم } فإنها معطوفة على جملة { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم } ، وليست الواو اعتراضية ، أي ولو سمعوا على سبيل الفرض والتقدير ومجاراة مزاعمكم حين تدعونها فإنها لا تستجيب لدعوتكم ، أي لا ترد عليكم بقبول ، وهذا استدلال سنده المشاهدة ، فطالما دَعُوا الأصنام فلم يسمعوا منها جواباً وطالما دَعَوْها فلم يحصل ما دعوها لتحصيله مع أنها حاضرة بمرأى منهم غير محجوبة ، فعدم إجابتها دليل على أنها لا تسمع ، لأن شأن العظيم أن يستجيب لأوليائه الذين يسعون في مرضاته ، فقد لزمهم إمّا عجزُها وإما أنها لا تفقه إذ ليس في أوليائها مغمز بأنهم غير مُرْضِينَ لهذا . وهذا من أبدع الاستدلال الموطّأ بمقدمة متفق عليها .
وقوله : { ما استجابوا } يجوز أن يكون بمعنى إجابة المنادي بكلمات الجواب . ويجوز أن يكون بمعنى إجابة السائل بتنويله ما سأله . وهذا من استعمال المشترك في معنييه .
ولما كشف حال الأصنام في الدنيا بما فيه تأييس من انتفاعهم بها فيها كمِّل كشف أمرها في الآخرة بأن تلك الأصنام ينطقها الله فتتبرأ من شركهم ، أي تتبرأ من أن تكون دعت له أو رضيت به .
والشرك أضيف إلى فاعله ، أي بشرككم إياهم في الإِلهية مع الله تعالى .
وأجري على الأصنام موصول العاقل وضمائرَ العقلاء { والذين تدعون } [ فاطر : 13 ] إلى قوله : { يكفرون بشرككم } على تنزيل الأصنام منزلة العقلاء مجاراة للمردود عليهم على طريقة التهكم .
وقوله : { ولا ينبئك مثل خبير } تذييل لتحقيق هذه الأخبار بأن المخبِر بها هو الخبير بها وبغيرها ولا يخبرك أحد مثل ما يخبرك هو .
وعُبّر بفعل الإِنباء لأن النبأ هو الخبر عن حدث خطير مهمّ .
والخطاب في قوله : { ينبئك } لكل من يصح منه سماع هذا الكلام لأن هذه الجملة أرسلت مُرسَل الأمثال فلا ينبغي تخصيص مضمونها بمخاطَب معين .
و { خبير } صفة مشبهة مشتقة من خَبُر ، بضم الباء ، فلان الأمرَ ، إذا علمه علماً لا شك فيه . والمراد ب { خبير } جنس الخبير ، فلما أرسل هذا القول مثلاً وكان شأن الأمثال أن تكون موجزة صيغ على أسلوب الإِيجاز فحذف منه متعلِّق فعل ( يُنَبِّىء ) ومتعلِّق وصف { خبير } ، ولم يذكر وجه المماثلة لعلمه من المقام . وجعل { خبير } نكرة مع أن المراد به خبير معيَّن وهو المتكلم فكان حقه التعريف ، فعدل إلى تنكيره لقصد التعميم في سياق النفي لأن إضافة كلمة { مثل } إلى خبير لا تفيده تعريفاً . وجعل نفي فعل الإِنباء كناية عن نفي المنبىء . ولعل التركيب : ولا يوجد أحد ينبئك بهذا الخبر يماثل هذا الخبير الذي أنبأك به ، فإذا أردف مُخبر خبره بهذا المثل كان ذلك كناية عن كون المخبِر بالخبر المخصوص يريد ب { خبير } نفسَه للتلازم بين معنى هذا المثل وبين تمثل المتكلم منه . فالمعنى : ولا ينبئك بهذا الخبر مثلي لأني خَبَرتُه ، فهذا تأويل هذا التركيب وقد أغفل المفسّرون بيان هذا التركيب .
والمِثل بكسر الميم وسكون المثلثة : المساوي ؛ إما في قدر فيكون بمعنى ضِعف ، وإما المساوي في صفة فيكون بمعنى شبيه وهو بوزن فِعل بمعنى فاعل وهو قليل . ومنه قولهم : شِبْه ، ونِدّ ، وخِدْن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم}: لو أن الأصنام سمعوا ما استجابوا لكم.
{ويوم القيامة يكفرون بشرككم}: إن الأصنام يوم القيامة يتبرؤون من عبادتكم إياها فتقول للكفار: ما أمرناكم بعبادتنا، نظيرها في يونس: {فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين} [يونس:29] ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {ولا ينبئك مثل خبير} يعني الرب نفسه سبحانه فلا أحد أخبر منه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"إنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا ما اسْتَجابُوا لَكُمْ" يقول تعالى ذكره: إن تدعوا أيها الناس هؤلاء الآلهة التي تعبدونها من دون الله لا يسمعوا دعاءكم، لأنها جماد لا تفهم عنكم ما تقولون، "وَلَوْ سَمِعُوا ما اسْتَجابُوا لَكُمْ "يقول: ولو سمعوا دعاءكم إياهم، وفهموا عنكم أنها قولكم، بأن جُعل لهم سمع يسمعون به، ما استجابوا لكم، لأنها ليست ناطقة، وليس كلّ سامع قولاً متيسّرا له الجواب عنه. يقول تعالى ذكره للمشركين به الآلهة والأوثان: فكيف تعبدون من دون الله من هذه صفته، وهو لا نفع لكم عنده، ولا قُدرة له على ضرّكم، وتَدَعون عبادة الذي بيده نفعكم وضرّكم، وهو الذي خلقكم وأنعم عليكم...
وقوله: "وَيَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ" يقول تعالى ذكره للمشركين من عبدة الأوثان: ويوم القيامة تتبرأ آلهتكم التي تعبدونها من دون الله من أن تكون كانت لله شريكا في الدنيا...
وقوله: "وَلا يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ" يقول تعالى ذكره: ولا يخبرك يا محمد عن آلهة هؤلاء المشركين وما يكون من أمرها وأمر عَبَدَتها يوم القيامة، من تَبَرّئها منهم، وكفرها بهم، مثل ذي خبرة بأمرها وأمرهم وذلك الخبير هو الله الذي لا يخفى عليه شيء كان أو يكون سبحانه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن تدعوهم} على حقيقة الدعاء {لا يسمعوا دعاءكم} حقيقة.
{ولو سمِعوا ما استجابوا لكم} أي لو سمعوا دعاءكم ما يملكون إجابتكم في دفع ضر وسوء ولا في جر نفع. ويحتمل أن يكون قوله: {إن تدعوهم} أي تعبدوهم {لا يسمعوا دعاءكم} أي لا يجيبوكم إلى ما تقصدون بعبادتكم إياهم، وإن تقولوا ما قبلوا ذلك عنكم ولا نفعكم فيه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم بين تعالى أمر الأصنام بثلاثة أشياء كلها تعطي بطلانها: أولها أنها لا تسمع إن دعيت، والثاني أنها لا تجيب أن لو سمعت؛ وإنما جاء بهذه لأن لقائل متعسف أن يقول عساها تسمع، والثالث أنها تتبرأ يوم القيامة من الكفار، ويكفرون بشركهم أي بأن جعلوهم شركاء لله فأضاف الشرك إليهم من حيث هم قرروه.
إبطالا لما كانوا يقولون إن في عبادة الأصنام عزة من حيث القرب منها والنظر إليها وعرض الحوائج عليها، والله لا يرى ولا يصل إليه أحد فقال هؤلاء لا يسمعون دعاءكم والله يصعد إليه الكلم الطيب، ليسمع ويقبل ثم نزل عن تلك الدرجة، وقال هب أنهم يسمعون كما يظنون، فإنهم كانوا يقولون بأن الأصنام تسمع وتعلم ولكن ما كان يمكنهم أن يقولوا إنهم يجيبون، لأن ذلك إنكار للمحس به وعدم سماعهم إنكار للمعقول؛ والنزاع وإن كان يقع في المعقول فلا يمكن وقوعه في المحس به.
{ويوم القيامة يكفرون بشرككم} لما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع منهم في الآخرة بل أشار إلى وجود الضرر منهم في الآخرة بقوله: {ويوم القيامة يكفرون بشرككم} أي بإشراككم بالله شيئا.
{ولا ينبئك مثل خبير} يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون ذلك خطابا مع النبي صلى الله عليه وسلم ووجهه، هو أن الله تعالى لما أخبر أن الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذب عابده؛ وذلك أمر لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخبار الله تعالى عنه أنهم يكفرون بهم يوم القيامة، وهذا القول مع كون الخبر عنه أمرا عجيبا هو كما قال، لأن المخبر عنه خبير.
وثانيهما: هو أن يكون ذلك خطابا غير مختص بأحد، أي هذا الذي ذكر هو كما قال: {ولا ينبئك} أيها السامع كائنا من كنت {مثل خبير}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ما استجابوا لكم}... ولو فرض أنه يوجد لهم سمع، أو ولو كانوا سامعين -ليدخل فيه من عبد من الأحياء- ما لزم من السماع إجابة، لأنه لا ملازمة بين السمع والنطق، ولا بين السمع والنطق مع القدرة على ما يراد من السامع، فإن البهائم تسمع وتجيب، والمجيبون غيره يجيبون، ولا قدرة لهم على أكثر ما يطلب منهم.
ولما كان التقدير: قد أنبأكم بذلك الخبير، وكانوا لا يقرون بذلك ولا يفهمونه حق فهمه ولا يعملون به، صرف الخطاب عنهم إلى من له الفهم التام والطاعة الكاملة، فقال عاطفاً على هذا الذي هدى إلى تقديره السياق: {ولا ينبئك} أي إنباء بليغاً عظيماً على هذا الوجه بشيء من الأشياء، {مثل خبير} أي بالغ الخبر، فلا يمكن الطعن في شيء مما أخبر به، وأما غيره فلا يخبر خبراً إلا يوجه إليه نقص.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وعدم السماع حينئذ إما لأن المعبود ليس من شأنه ذلك كالأصنام، وإما لأنه في شغل شاغل وبعد بعيد عن عابده كعيسى عليه السلام... أو لأن الله عز وجل حفظ سمعه من أن يصل إليه مثل هذا الدعاء لغاية قبحه وثقله على سمع من هو في غاية العبودية لله سبحانه... فالمراد بالاستجابة الاستجابة بالقول، ويجوز أن يراد بها الاستجابة بالفعل... ولسان الحال أفصح من لسان المقال...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}: لا أحد ينبئك، أصدق من الله العليم الخبير، فاجزم بأن هذا الأمر، الذي نبأ به كأنه رَأْيُ عين، فلا تشك فيه ولا تمتر. فتضمنت هذه الآيات، الأدلة والبراهين الساطعة، الدالة على أنه تعالى المألوه المعبود، الذي لا يستحق شيئا من العبادة سواه، وأن عبادة ما سواه باطلة متعلقة بباطل، لا تفيد عابده شيئا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمقصد منها تنبيه المشركين إلى عجز أصنامهم بأنها لا تسمع، وليس ذلك استدلالاً فإنهم كانوا يزعمون أن الأصنام تسمع منهم، فلذلك كانوا يكلمونها ويوجهون إليها محامدهم ومدائحهم، ولكنه تمهيد للجملة المعطوفة على الخبر وهي جملة {ولو سمعوا ما استجابوا لكم} فإنها معطوفة على جملة {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم}.
وليست الواو اعتراضية، أي ولو سمعوا على سبيل الفرض والتقدير ومجاراة مزاعمكم حين تدعونها فإنها لا تستجيب لدعوتكم، أي لا ترد عليكم بقبول، وهذا استدلال سنده المشاهدة، فطالما دَعُوا الأصنام فلم يسمعوا منها جواباً، وطالما دَعَوْها فلم يحصل ما دعوها لتحصيله مع أنها حاضرة بمرأى منهم غير محجوبة، فعدم إجابتها دليل على أنها لا تسمع، لأن شأن العظيم أن يستجيب لأوليائه الذين يسعون في مرضاته، فقد لزمهم إمّا عجزُها وإما أنها لا تفقه إذ ليس في أوليائها مغمز بأنهم غير مُرْضِينَ لهذا.
وهذا من أبدع الاستدلال الموطّأ بمقدمة متفق عليها...
والخطاب في قوله: {ينبئك} لكل من يصح منه سماع هذا الكلام لأن هذه الجملة أرسلت مُرسَل الأمثال فلا ينبغي تخصيص مضمونها بمخاطَب معين...
قوله {إِن تَدْعُوهُمْ} الدعاء هنا معناه العبادة، فقد كان الواحد منهم يقف أمام صنمه يدعوه ويتوسل إليه ويكلمه.. إلخ، لكن هيهات فهذا حجر لا يسمع، فدعاؤه غباء فضلاً عن كونه كفراً، ومعنى {لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ} أي: الآلهة التي لا تعقل ولا تسمع، كالشجر والحجر وغيره.
لكن، لماذا عبد الكفار الأصنام مثلاً، وهم يعلمون أنها حجارة نحتوها بأيديهم، ويروْنَ أن هَبَّة الريح تُوقع معبودهم، وتُلقيه على الأرض، وتكسر ذراعه، فيحتاج إلى مَنْ يصلحها، شيء عجيب أنْ تُعبد الأصنام من دون الله، لكن السبب هو فطرة التدين في النفس البشرية.
فكل إنسان بطبعه يحب التدين، وآفة التدين أن له مطلوبات، فما المانع أنْ يذهب الإنسانُ إلى تدين يرضي هذه الفطرة، ومع ذلك لا مطلوبات له، من هنا عُبدت الأصنام، وعُبدت الكواكب والأشجار وجُعِلَت آلهة.
ومعنى العبادة: أنْ يطيع العابد أمر معبوده وينتهي عن نَهْيه، فإذا لم يكن هناك أمر ولا نهي، فالعبادة ساقطة باطلة؛ لأنك تعبد إلهاً بلا منهج، وإلا فبماذا أمرتهم هذه الآلهة وعَمَّ نَهَتْهم؟ ماذا أعدَّتْ لمن عبدها؟ وماذا أعدَّتْ لمن كفر بها؟
وقوله تعالى: {وَلَوْ سَمِعُواْ} أي: على فرض أنهم عبدوا بشراً يسمعهم {وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ} يعني: ما وافقوا على عبادتكم لهم، ولرفضوا أن يكونوا آلهة، ومثال ذلك: الذين عبدوا عيسى عليه السلام من دون الله...
فالحجر ذاته يأبى أنْ يُعبد من دون الله، ويعلم في حقيقته قضية التوحيد، ويخِرُّ لله مُسبِّحاً، فما بالك بالبشر؟
لذلك سنرى في موقف القيامة العجب من المعارك والمناقشات بين العابد والمعبود، والتابع والمتبوع، يقول تعالى:
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: 166] وقال حكاية عن الذين ضَلُّوا: {رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت: 29].
وهنا يقول سبحانه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ} [فاطر: 14] أي: هؤلاء الذين توجهتم إليهم بالعبادة واتخذتموهم آلهة سيتبرأون منكم ومن شرككم {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي: عالم ببواطن الأمور، وكأن الله تعالى يقول لك: أنا أخبرك بما سيكون في المستقبل فَخُذْ من صدقي فيما مضى دليلاً على صدقي فيما هو آتٍ، ومن صدقي فيما تشاهد دليلاً على صِدْقي فيما غاب عنك.