التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرۡدُودُونَ فِي ٱلۡحَافِرَةِ} (10)

وقوله - سبحانه - : { يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة . أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } حكاية لما كان يقوله هؤلاء الكافرون فى الدنيا ، من إنكار للبعث ، ومن استهزاء لمن كان يذكرهم به ، ومن استبعاد شديد لحصوله . .

والمراد بالحافرة : العودة إلى الحياة مرة أخرى بعد موتهم وتحولهم إلى عظام بالية .

قال صاحب الكشاف : { فِي الحافرة } أى : فى الحالة الأولى يعنون : الحياة بعد الموت .

فإن قلت : ما حقيقة هذه الكلمة ؟ قلت : يقال : رجع فلان فى حافرته ، أى : فى طريقه التى جاء فيها فحفرها . أى : أثر فيها بمشيه فيها : جعل أثر قدميه حفرا . . ثم قيل لمن كان فى أمر فخرج منه ثم عاد إليه ، رجع إلى حافرته ، أى : طريقته وحالته الأولى .

وقوله : { نَّخِرَةً } صفة مشتقة من قولهم : نَخِر العظم - بفتح النون وكسر الخاء - إذا بَلِى وصار سهل التفتيت والكسر . وقرأ حمزة والكسائى " ناخرة " بمعنى بالية فارغة جوفاء ، يسمع منها عند هبوب الريح نخير ، أى : صوت .

أى : أن هؤلاء المشركين كانوا يقولون فى الدنيا - على سبيل التعجيب والاستهزاء والإِنكار لأمر البعث والحساب : أنرد إلى الحياة مرة أخرى بعد موتنا وبعد أن نصير فى قبورنا عظاما بالية . وعبر - سبحانه - عن قولهم هذا بالمضارع " يقولون " لاستحضار حالتهم الغريبة ، حيث أنكروا ما قام الدليل على عدم إنكاره ، وللإِشعار بأن هذا الإِنكار كان متجددا ومستمرا منهم .

وقد ساق - سبحانه - أقوالهم هذه بأسلوب الاستفهام ، للإِيذان بأنهم كانوا يقولون ما يقولون فى شأن البعث على سبيل التهكم والتعجب ممن يحدثهم عنه ، كما هو شأن المستفهم عن شئ الذى لا يقصد معرفة الحقيقة ، وإنما يقصد التعجيب والإِنكار .

وجملة { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } مؤكدة للجملة السابقة عليها ، التى يستبعدون فيها أمر البعث بأقوى أسلوب .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرۡدُودُونَ فِي ٱلۡحَافِرَةِ} (10)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَقُولُونَ أَإِنّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَإِذَا كُنّا عِظَاماً نّخِرَةً * قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرّةٌ خَاسِرَةٌ * فَإِنّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسّاهِرَةِ } .

يقول تعالى ذكره : يقول هؤلاء المكذّبون بالبعث من مشركي قريش إذا قيل لهم : إنكم مبعوثون من بعد الموت : أئنا لمردودون إلى حالنا الأولى قبل الممات ، فراجعون أحياء كما كنا قبل هلاكنا ، وقبل مماتنا ؟ وهو من قولهم : رجع فلان على حافرته : إذا رجع من حيث جاء ومنه قول الشاعر :

أحافِرَةٌ عَلى صَلَعٍ وشَيْبٍ *** مَعاذَ اللّهِ مِنْ سَفَهٍ وطَيْشِ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : الْحافِرَةُ : يقول : الحياة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله أئِنّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ يقول : أئنا لنحيا بعد موتنا ، ونُبعث من مكاننا هذا ؟

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يقول : أئِنّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ : أئِنّا لمَبْعُوثُونَ خَلْقا جَدِيدا ؟

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فِي الْحافِرةِ قال : أي مردودون خَلقا جديدا .

حدثنا أبو كُريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس أو محمد بن كعب القُرَظيّ أئِنّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ قال : في الحياة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن السديّ أئِنّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ قال : في الحياة .

وقال آخرون : الحافرة : الأرض المحفورة التي حُفرت فيها قبورهم ، فجعلوا ذلك نظير قوله : مِنْ ماءٍ دَافِقٍ يعني مدفوق ، وقالوا : الحافرة بمعنى المحفورة ، ومعنى الكلام عندهم : أئنا لمردودون في قبورنا أمواتا ؟

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الْحافِرَةِ قال : الأرض ، نُبعث خلقا جديدا ، قال : البعث .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أئِنّا لَمَرْدُودونَ فِي الْحافِرَةِ قال : الأرض ، نُبعث خلقا جديدا .

وقال آخرون : الحافرة : النار . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول في قول الله : أئِنّا لَمَرْدُودونَ فِي الْحافِرَةِ : قال : الحافرة : النار ، وقرأ قول الله : تِلكَ إذا كَرّةٌ خاسِرَةٌ قال : ما أكثر أسماءها ، هي النار ، وهي الجحيم ، وهي سَقَرُ ، وهي جَهَنم ، وهي الهاوية ، وهي الحافرة ، وهي لَظًى ، وهي الحُطَمة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرۡدُودُونَ فِي ٱلۡحَافِرَةِ} (10)

يقولون أئنا لمردودون في الحافرة في الحالة الأولى يعنون الحياة بعد الموت من قولهم رجع فلان في حافرته أي طريقه التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشيه على النسبة كقوله تعالى في عيشة راضية أو تشبيه القائل بالفاعل وقرئ في الحفرة بمعنى المحفورة يقال حفرت أسنانه فحفرت حفرا وهي حفرة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرۡدُودُونَ فِي ٱلۡحَافِرَةِ} (10)

استئناف إمَّا ابتدائيّ بعد جملة القَسَم وجوابه ، لإفادة أن هؤلاء هم الذين سيكونون أصحاب القلوب الواجفة والأبصار الخاشعة يوم ترجف الراجفة .

وإما استئناف بياني لأن القَسَم وما بعده من الوعيد يثير سؤالاً في نفس السامع عن الداعي لهذا القسم فأجيب ب { يقولون أئنا لمرددون في الحافرة } ، أي منكرون البعث ، ولذلك سلك في حكاية هذا القول أسلوب الغيبة شأنَ المتحدِّث عن غير حاضر .

وضمير { يقولون } عائد إلى معلوم من السياق وهم الذين شُهروا بهذه المقالة ولا يخفون على المطلع على أحوالهم ومخاطباتهم وهم المشركون في تكذيبهم بالبعث .

والمُساق إليه الكلام كل من يتأتى منه سماعه من المسلمين وغيرهم .

ويجوز أن يكون الكلام مسوقاً إلى منكري البعث على طريقة الالتفاف .

وحُكي مقالهم بصيغة المضارع لإِفادة أنهم مستمرون عليه وأنه متجدد فيهم لا يرعوون عنه .

وللإِشعار بما في المضارع من استحضار حالتهم بتكرير هذا القول ليكون ذلك كناية عن التعجيب من قولهم هذا كقوله تعالى : { فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] .

وقد علم السامع أنهم ما كرروا هذا القول إلا وقد قالوه فيما مضى .

وهذه المقالة صادرة منهم وهم في الدنيا فليس ضمير { يقولون } بعائد إلى { قلوب } من قوله تعالى : { قلوب يومئذ واجفة } [ النازعات : 8 ] .

وكانت عادتهم أن يلقوا الكلام الذي ينكرون فيه البعث بأسلوب الاستفهام إظهاراً لأنفسهم في مظهر المتردد السائل لقصد التهكم والتعجب من الأمر المستفهم عنه . والمقصود : التكذيب لزعمهم أن حجة استحالة البعث ناهضة .

وجُعل الاستفهام التعجيبي داخلاً على جملة اسمية مؤكدة ب ( إنَّ ) وبلام الابتداء وتلك ثلاثة مؤكدات مقوية للخبر لإِفادة أنهم أتوا بما يُفيد التعجب من الخبر ومن شدة يقين المسلمين به ، فهم يتعجبون من تصديق هذا الخبر فضلاً عن تحقيقه والإِيقان به .

والمَردُود : الشيء المرجَّع إلى صاحبه بعد الانتفاع به مثل العارية ورَدِّ ثمن المبيع عند التفاسخ أو التقابل ، أي لَمُرْجَعون إلى الحياة ، أي إنا لمبعوثون من قبورنا .

والمراد ب { الحافرة } : الحالة القديمة ، يعني الحياة .

وإطلاقات { الحافرة } كثيرة في كلام العرب لا تتميز الحقيقة منها عن المجاز ، والأظهر ما في « الكشاف » : يقال رجَع فلان إلى حافرته ، أي في طريقه التي جاء فيها فحَفَرها ، أي أثّر فيها بمشْيه فيها جعل أثر قدميه حفراً أي لأن قدميه جعلتا فيها أثراً مثل الحفر ، وأشار إلى أن وصف الطريق بأنها حافرة على معنى ذات حفر ، وجُوز أن يكون على المجاز العقلي كقولهم : عيشة راضية ، أي راض عائشُها ، ويقولون : رجع إلى الحافرة ، تمثيلاً لمن كان في حالة ففارقها ، ثم رجع إليها فصار : رَجَعَ في الحافرة ، ورُدّ إلى الحافرة ، جارياً مجرى المثل .

ومنه قول الشاعر وهو عمران بن حطّان حسبما ظن ابن السيِّد البطليوسي في شرح « أدب الكتاب » :

أحافرةً على صَلَع وشَيْب *** مَعَاذ اللَّهِ مِن سَفَهٍ وعار

ومن الأمثال قولهم : « النقد عند الحافرة » ، أي إعطاء سبق الرهان للسابق عند وصوله إلى الأمد المعين للرّهان . يريد : أرجوعا إلى الحافرة .