التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗۖ وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (41)

قال - تعالى - :

أخرج ابن جرير عن قتادة قال : قوله - تعالى - : { والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ . . } هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم ، حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوأهم الله - تعالى - المدينة فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين . وعن ابن عباس : هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة ، بعد أن ظلمهم المشركون ، .

والذى نراه أن الآية الكريمة تشمل هؤلاء ، وتشمل غيرهم ممن هاجر من بلده إلى غيرها ، رجاء ثواب الله ، وخدمة لدينه .

والمهاجرة فى الأصل تطلق على المفارقة والمتاركة للديار وغيرها ، واستعملت شرعا فى المهاجرة من دار الكفر إلى دار الإِيمان ، أو من دار الكفر إلى غيرها لنشر دعوة الإِسلام .

وقوله { لنبوئنهم } من التبوؤ بمعنى الإِحلال والإِسكان والإِنزال يقال بوأ فلان فلانا منزلا ، إذا أسكنه فيه ، وهيأه له .

{ وحسنة } صفة لموصوف محذوف أى : لنبوئنهم تبوئة حسنة ، أو دارا حسنة .

والمراد بهذه الحسنة ما يشمل نزولهم فى المدينة ، ونصرهم على أعدائهم ، وإبدال خوفهم أمنا .

قال القرطبى فى المراد بالحسنة هنا ستة أقوال : " نزول المدينة ؛ قاله ابن عباس والحسن . . الثانى : الرزق الحسن . قاله مجاهد . الثالث : النصر على عدوهم ، قاله الضحاك ، الرابع : لسان صدق ، حكاه ابن جريج . الخامس : ما استولوا عليه من البلاد . . السادس : ما بقى لهم فى الدنيا من ثناء ، وما صار فيها لأولادهم من الشرف .

ثم قال : وكل ذلك قد اجتمع لهم بفضل الله - تعالى - " .

والمعنى : والذين هاجروا فى سبيل الله ، وفارقوا قومهم وأوطانهم وأموالهم وأولادهم . . من أجل إعلاء كلمته ، بعد أن تحملوا الكثير من أذى المشركين وظلمهم وطغيانهم .

هؤلاء الذين فعلوا ذلك من أجل نصرة ديننا ، لنسكننهم فى الدنيا مساكن حسنة يرضونها ، ولنعطينهم عطاء حسنا يسعدهم ، ولننصرنهم على أعدائهم نصرا مؤزرا .

وقوله { فى الله } أى : فى سبيله ، ومن أجل نصرة دينه . فحرف " فى " مستعمل للتعليل ، كما فى قوله صلى الله عليه وسلم : " دخلت امرأة النار فى هرة حبستها . . . " .

والمقصود أن هذا الأجر الجزيل إنما هو للمهاجرين من أجل إعلاء كلمة الله ، ومن أجل نصرة الحق ، وليس لمن هاجر لنشر الظلم أو الفساد فى الأرض .

وأسند فعل { ظلموا } إلى المجهول ، لظهور الفاعل من السياق وهو المشركون .

وفى ذلك إشارة إلى أن هؤلاء المهاجرين لم يفارقوا ديارهم ، إلا بعد أن أصابهم ظلم أعدائهم لهم ، كتعذيبهم إياهم ، وتضييقهم عليهم ، إلى غير ذلك من صنوف الأذى .

وأكد - سبحانه - الجزاء الحسن اذى وعدهم به باللام وبنون التوكيد { لنبوئنهم . } ، زيادة فى إدخال السرور والطمأنينة على قلوبهم ، وجبرا لكل ما اشتملت عليه الهجرة من مصاعب وآلام وأضرار .

إذ الحسنة - كما قلنا - تشمل كل حسن أعطاه الله - تعالى - للمهاجرين فى هذه الدنيا .

أما فى الآخرة فأجرهم أعظم ، وثوابهم أجزل ، كما قال - تعالى - : { وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .

والضمير فى قوله { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يعود على أعدائهم الظالمين .

أى : ولثواب الله - تعالى - لهم فى الآخرة على هجرتهم من أجل إعلاء كلمته ، أكبر وأعظم ، ولو كان أعداؤهم الظالمون يعلمون ذلك لدخلوا فى دين الإِسلام ، ولأقلعوا عن ظلمهم لهؤلاء المهاجرين .

وكأن جملة { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جوابا عن سؤال تقديره : كيف لم يقتد بهم من بقى على الكفر مع هذا الثواب الذى أعده الله لهؤلاء المهاجرين ؟

فكان الجواب : لو كان هؤلاء الكافرين يعلمون ذلك لأقلعوا عن كفرهم .

ويصح أن يكون الضمير يعود على المهاجرين ، فيكون المعنى : لو كانوا يعلمون علم مشاهدة ومعاينة ما أعده الله لهم ، لما حزنوا على مفارقة الأوطان والأولاد والأموال ، ولازدادوا حبا وشوقا واجتهادا فى المهاجرة .

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب ، أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له " خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله فى الدنيا ، وما ذخره لك فى الآخرة أفضل " ، ثم تلا هذه الآية .

وجوز بعضهم أن يكون الضمير يعود للمتخلفين عن الهجرة أى : لو علم هؤلاء المتخلفون عن الهجرة ، ما أعده - سبحانه - من أجر للمهاجرين ، لما تخلفوا عن ذلك .

وعلى أية حال فلا مانع من أن يكون الضمير يعود على كل من يتأتى له العلم ، بهذا الثواب الجزيل لهؤلاء المهاجرين فى سبيل الله - تعالى - .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗۖ وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (41)

وقوله : وَالّذِينَ هاجَرُوا في اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيا حَسَنَةً يقول تعالى ذكره : والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم عداوة لهم في الله على كفرهم إلى آخرين غيرهم . مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا يقول : من بعد ما نيل منهم في أنفسهم بالمكاره في ذات الله . لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيا حَسَنَةً يقول : لنسكننهم في الدنيا مسكنا يرضونه صالحا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَالّذِينَ هاجَرُوا فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوّئَنّهُمْ قال : هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة ، فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بالحبشة ، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين .

حُدثت عن القاسم بن سلام ، قال : حدثنا هشيم ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي : لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيا حَسَنَةً قال : المدينة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَالّذِينَ هاجَرُوا فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيا حَسَنَةً قال : هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة بعد ظلمهم ، وظَلَمَهُم المشركون .

وقال آخرون : عنى بقوله : لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيا حَسَنَةً لنرزقنهم في الدنيا رزقا حسنا . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد لَنُبَوّئَنّهُمْ لنرزقنهم في الدنيا رزقا حسنا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن العوامّ ، عمن حدثه أن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ذخره لك في الاَخرة أفضل . ثم تلا هذه الاَية : لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيا حَسَنَةً ولأَجْرُ الاَخرَةِ أكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ .

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معنى لَنُبَوّئَنّهُمْ : لنحلنهم ولنسكننهم ، لأن التبوأ في كلام العرب الحلول بالمكان والنزول به . ومنه قول الله تعالى : وَلَقَدْ بَوّأْنا بَني إسْرَائيلَ مُبَوّأَ صدْق . وقيل : إن هذه الاَية نزلت في أبي جندل بن سهيل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن داود بن أبي هند ، قال : نزلت والّذِينَ هاجَرُوا فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا . . . إلى قوله : وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ في أبي جندل بن سهيل .

وقوله : وَلأَجْرُ الاَخِرَةِ أكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يقول : ولثواب الله إياهم على هجرتهم فيه في الاَخرة أكبر ، لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي يدوم نعيمها ولا يبيد .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الله : وَلأَجْرُ الاَخرَةِ أكْبَرُ أي والله لما يثيبهم الله عليه من جنته أكبر لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ .