وقوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } مؤكد لما قبله من أن ظن الناس أن يتركوا بدون ابتلاء ، لقولهم آمنا ، هذا الظن فى غير محله ، لأن سنة الله قد اقتضت أن يدفع الناس بعضهم ببعض ، وأن يجعل الكافرين يتصارعون مع المؤمنين ، إلا أن العاقبة فى النهاية للمؤمنين .
والمقصود بقوله - تعالى - : { فَلَيَعْلَمَنَّ . . } إظهار علمه - سبحانه - ، أو المجازاة على الأعمال .
أى : ولقد فتنا الذين من قبل هؤلاء المؤمنين من أصحابك - أيها الرسول الكريم - ، { فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ . . . } أى فليظهرن الله - تعالى - فى عالم الواقع حال الذين صدقوا فى إيمانهم ، من حال الكاذبين منهم ، حتى ينكشف للناس ما هو غائب عن علمهم .
أو المعنى : ولقد فتنا الذين من قبلهم من المؤمنين السابقين ، كأتباع نوح وهود وصالح وغيرهم ، فليجزين الذين صدقوا في إيمانهم بما يستحقون من ثواب ، وليجزين الكاذبين بما يستحقون من عقاب ، ولترتب المجازاة على العلم ، أقيم السبب مقام المسبب .
قال الإِمام ابن جرير : قوله : { فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ . . . } أى : فليعلمن الله الذين صدقوا منهم فى قولهم آمنا ، وليعلمن الكاذبين منهم فى قولهم ذلك ، والله عالم بذلك منهم ، قبل الاختبار ، وفى حال الاختبار ، وبعد الاختبار ، ولكن معنى ذلك : وليظهرن الله صدق الصادق منهم فى قوله آمنا بالله ، من كذب الكاذب منهم . .
وذكر أن هذه الآية نزلت فى قوم من المسلمين ، عذبهم المشركون ، ففتن بعضهم ، وصبر بعضهم على أذاهم ، حتى أتاهم الله بفرج من عنده .
وفى معنى هاتين الايتين وردت آيات كثيرة منها قوله - تعالى - : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } وقوله - تعالى - : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً . . } وقوله - سبحانه - : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } وقد ساق الإِمام القرطبى عند تفسيره لهاتين الآيتين من سورة العنكبوت عددا من الأحاديث النبوية ، منها قوله : " روى البخارى عن خباب بن الأرت قالوا : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متوسد بردة له فى ظل الكعبة ، فقلنا له : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال : " قد كان من قبلكم يؤخذ فيحفر له فى الأرض ، فيجعل فيها ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه ، فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه ، فما يصرفه ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت ، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون " " .
والخلاصة ، أن المقصود من الآتيين تنبيه الناس فى كل زمان ومكان ، إلى أن ظن بعض الناس أن الإِيمان يتعارض مع الابتلاء بالبأساء والضراء ، ظن خاطئ ، وإلى أن هذا الابتلاء سُنة ماضية فى السابقين وفى اللاحقين إلى يوم القيامة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد اختبرنا الذين من قبلهم من الأمم ، ممن أرسلنا إليهم رسلنا ، فقالوا مثل ما قالته أمتك يا محمد بأعدائهم ، وتمكيننا إياهم من أذاهم ، كموسى إذا أرسلناه إلى بني إسرائيل ، فابتليناهم بفرعون وملئهم ، وكعيسى إذ أرسلناه إلى بني إسرائيل ، فابتلَينا من اتبعه بمن توَلى عنه ، فكذلك ابتلينا أتباعك بمخالفيك من أعدائك فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا منهم في قيلهم آمنا وَلَيَعْلَمَنّ الكاذِبِين منهم في قيلهم ذلك ، والله عالم بذلك منهم قبل الاختبار ، وفي حال الاختبار ، وبعد الاختبار ، ولكن معنى ذلك : ولَيُظْهِرَنّ الله صدق الصادق منهم في قيله آمنا بالله من كذب الكاذب منهم بابتلائه إياه بعدوّه ، ليعلم صدقه من كذبه أولياؤه ، على نحو ما قد بيّناه فيما مضى قبلُ .
وذكر أن هذه الاَية نزلت في قوم من المسلمين عذّبهم المشركون ، ففتن بعضهم ، وصبر بعضهم على أذاهم حتى أتاهم الله بفرج من عنده . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول : نزلت ، يعني هذه الاَية الم . أحَسِبَ الناسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا . . . إلى قوله وَلَيَعْلَمَنّ الكاذِبِينَ في عمّار بن ياسر ، إذ كان يعذّب في الله .
وقال آخرون : بل نزل ذلك من أجل قوم كانوا قد أظهروا الإسلام بمكة ، وتخلفوا عن الهجرة ، والفتنة التي فتن بها هؤلاء القوم على مقالة هؤلاء ، هي الهجرة التي امتحنوا بها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن مطر ، عن الشعبيّ ، قال : إنها نزلت ، يعني الم . أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُترَكُوا الاَيتين في أناس كانوا بمكة أقرّوا بالإسلام ، فكتب إليهم أصحاب محمد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة : إنه لا يقبل منكم إقرارا بالإسلام حتى تهاجروا ، فخرجوا عامدين إلى المدينة ، فاتبعهم المشركون ، فردّوهم ، فنزلت فيهم هذه الاَية ، فكتبوا إليهم : إنه قد نزلت فيكم آية كذا وكذا ، فقالوا : نخرج ، فإن اتبعنا أحد قاتلناه قال : فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ثم ، فمنهم من قتل ، ومنهم من نجا ، فأنزل الله فيهم : ثُمّ إنّ رَبّكَ لِلّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ، ثُمّ جاهَدُوا وَصَبرُوا إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رحِيمٌ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله وَلَقَدْ فَتَنّا قال : ابتلينا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثْله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال : ابتلينا الذين من قبلهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي ابتلينا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.