التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

المجلد الحادي عشر

تفسير سورة العنكبوت

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة وتمهيد

1- سورة العنكبوت هي السورة التاسعة والعشرون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة الروم ، أي : أنها من أواخر السور المكية في النزول ، إذ أن ترتيبها في النزول الثالثة والثمانون من بين السور المكية ، ولم ينزل بعدها قبل الهجرة سوى سورة المطففين( {[1]} ) وعدد آياتها تسع وستون آية .

2- وجمهور العلماء على أنها مكية ، ومنهم من يرى أن فيها آيات مدنية .

قال الآلوسي : عن ابن عباس أنها مكية وذهب إلى ذلك –أيضا- الحسن وجابر وعكرمة . وعن بعضهم أنها آخر ما نزل بمكة . . . وقال يحيى بن سلام : هي مكية ، إلا من أولها إلى قوله –تعالى- : [ وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين . . . ]( {[2]} ) .

والذين تطمئن إليه النفس أن سورة العنكبوت كلها مكية ، وليس هناك روايات يعتمد عليها في كون بعض آياتها مدنية .

3- وقد افتتحت سورة العنكبوت ببعض الحروف المقطعة [ الم ] ، ثم تحدثت عن تكاليف الإيمان ، وأنه يستلزم الامتحان والاختبار ، ليميز الله الخبيث من الطيب ، وعن الحسنة التي أعدها –سبحانه- لعباده المؤمنين الصادقين . قال –تعالى- : [ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ] .

4- ثم حكت جانبا من أقوال المشركين ، ومن دعاواهم الكاذبة ، وردت عليهم بما يبطل أقوالهم ، وبما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم . . .

قال –تعالى- : [ وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ، وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ، وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ] .

5- ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، إلى الحديث عن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم ، فأشارت إلى قصة نوح مع قومه ، ثم ذكرت بشيء من التفصيل جانبا من قصة إبراهيم مع قومه ، ومن قصة لوط مع قومه ، وأتبعت ذلك بإشارات مركزة تتعلق بقصة شعيب وهو وصالح وموسى مع أقوامهم . . .

ثم اختتمت هذه القصص ببيان العاقبة السيئة التي صار إليها المكذبون لرسلهم ، فقال –تعالى- : [ فكلا أخذنا بذنبه ، فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من خسفنا به الأرض ، ومنهم من أغرقنا ، وما كان الله ليظلمهم ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ] .

6- ثم ضربت السورة الكريمة مثلا لحال الذين أشركوا مع الله –تعالى- آلهة أخرى في العبادة ، فشبهت ما هم عليه من كفر وشرك –في ضعفه وهوائه وهلهلته –ببيت العنكبوت ، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، أن يزدادوا ثباتا على ثباتهم ، وأن يستعينوا على ذلك ، بتلاوة القرآن الكريم ، وبإقامة الصلاة ، وبالإكثار من ذكر الله –تعالى- .

قال –سبحانه- : [ اتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلاة ، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولذكر الله أكبر ، والله يعلم ما تصنعون ] .

7- ثم أمرت السورة الكريمة المؤمنين بأن يجادلوا أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، إلا الذين ظلموا منهم ، وأرشدتهم إلى ما يقولونه لهم ، ومدحت من يستحق المدح منهم ، وذمت من يستحق الذم ، وأقامت الأدلة الساطعة على أن هذا القرآن من عند الله –تعالى- .

قال –سبحانه- : [ وكذلك أنزلنا إليك الكتاب ، فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ، ومن هؤلاء من يؤمن به ، وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون* وما كنت تتلو من قبله من كتاب ، ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون* بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ، وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ] .

8- ثم وجه –سبحانه- نداء إلى المؤمنين ، حضهم فيه على الهجرة من أرض الكفر إلى دار الإيمان ، ورغبهم في ذلك بوسائل ، منها : إخبارهم بأن الآجال بيد الله –تعالى- وحده ، وكذلك الأرزاق بيده وحده ، وأن من استجاب لما أمره الله –تعالى- به ، أعطاه –سبحانه- الكثير من خيره وفضله .

قال –تعالى- [ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون* كل نفس ذائقة الموت ، ثم إلينا ترجعون ] .

9- ثم ساق –سبحانه- في أواخر السورة ، ألوانا من تناقضات المشركين ، حيث إنهم سألهم سائل عمن خلق السموات والأرض . . . قالوا : الله –تعالى- هو الذي خلقهما ، ومع ذلك فهم يشركون معه في العبادة آلهة أخرى ، وإذا أحاط بهم الموج وهم في السفن . . . [ دعوا الله مخلصين له الدين ، فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ] ، وهم يعيشون في حرم آمن ، والناس يتخطفون من حولهم . . ومع ذلك فهم بالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون .

هذا شأنهم ، أما المؤمنون الصادقون فقد وعدهم الله –تعالى- بما يقر أعينهم فقال في ختام السورة : [ والذين جاهدوا فينا لنهديَنَّهم سبلنا ، وإن الله لمع المحسنين ] .

10- وهكذا نرى هذه السورة الكريمة ، وقد حدثتنا –من بين ما حدثتنا- عن الإيمان وتكاليفه ، وعن سنن الله في خلقه ، وعن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم ، وعن هوان الشرك والشركاء ، وعما يعين المؤمن على طاعة الله ، وعن علاقة المؤمنين بغيرهم ، وعن البراهين الساطعة الناطقة بأن هذا القرآن من عند الله ، وعن أن المؤمن لا يليق به أن يقيم في مكان لا يستطيع فيه أن يؤدي شعائر دينه ، وعن سوء عاقبة الأشرار ، وحسن عاقبة الأخيار . . . نسأل الله –تعالى- أن يجعلنا جميعا من عباده الأخيار .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .

المؤلف

د . محمد سيد طنطاوي

سورة العنكبوت من السور التى افتتحت ببعض حروف التهجى { الم } ، ويبلغ عدد السور التى افتتحت بحروف التهجى ، تسعاً وعشرين سورة .

وقد سبق أن قلنا : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة قد وردت فى افتتاح بعض السور ، على سبيل الإِيقاظ والتنبيه ، للذين تحداهم القرآن الكريم ، فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك العارضين فى أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامهم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله ، فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك . .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
[2]:- سورة الإسراء. الآية 9.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{الٓمٓ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { الَمَ * أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوَاْ أَن يَقُولُوَاْ آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } .

قال أبو جعفر : وقد بيّنا معنى قول الله تعالى ذكره الم وذكرنا أقوال أهل التأويل في تأويله ، والذي هو أولى بالصواب من أقوالهم عندنا ، بشواهده فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وأما قوله : أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ فإن معناه : أظَنّ الذين خرجوا يا محمد من أصحابك من أذى المشركين إياهم ، أن نتركَهم بغير اختبار ، ولا ابتلاء امتحان ، بأن قالوا : آمنا بك يا محمد ، فصدّقناك فيما جئتنا به من عند الله ، كَلاّ لنختبرهم ، ليتبين الصادق منهم من الكاذب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله آمّنا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ قال : يُبْتلَون في أنفسهم وأموالهم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ : أي لا يُبْتَلَون .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد ، في قوله وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ قال : لا يُبْتَلَون .

فَأَنِ الأولى منصوبة بحسب ، والثانية منصوبة في قول بعض أهل العربية ، بتعلق يتركوا بها ، وأن معنى الكلام على قوله أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا لأن يقولوا آمنا فلما حذفت اللام الخافضة من لأَنْ ، نصبت على ما ذكرت . وأما على قول غيره فهي في موضع خفض بإضمار الخافض ، ولا تكاد العرب تقول : تركت فلانا أن يذهب ، فتدخل أنْ في الكلام ، وإنما تقول : تركته يذهب ، وإنما أدخلت أن هاهنا لاكتفاء الكلام بقوله أنْ يُتْرَكُوا إذ كان معناه : أحسب الناس أن يُتركوا وهم لا يفتنون ، من أجل أن يقولوا آمنا ، فكان قوله : أنْ يُتْرَكُوا مكتفية بوقوعها على الناس ، دون أخبارهم . وإن جعلت «أن » في قوله أنْ يَقُولُوا منصوبة بنية تكرير أحسب ، كان جائزا ، فيكون معنى الكلام : أحسب الناس أن يُتركوا : أحسبوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون .