ثم ذكر - سبحانه - ما راود قلوب بعض المؤمنين من ضعف وفضل ، عندما رأوا زعيم المنافقين عبد الله بن أبى ينخذل بثلث الجيش فقال - تعالى - : { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } .
الهم : هو حديث النفس واتجاهها إلى شىء معين دون أن تأخذ فى تنفيذه فإذا أخذت فى تنفيه صار إرادة وعزماً وتصميماً .
وتفشلا : من الفشل والجبن والخور والضعف . يقال : فشل يفشل فشلا فهو فشل أى جبان ضعيف القلب .
أى : واذكر لهم وقت أن همت طائفتان منكم يا معشر المؤمنين أن تفشلا وتضعفا وتجبنا عن القتال فى وقت الشديدة والكريهة .
وقوله : { والله وَلِيُّهُمَا } أى ناصرهما ويتولى أمرهما .
وهاتان الطائفتان هما بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وكانتا جناحى الجيش فى يوم أحد .
روى الشيخان عن جابر - رضى الله عنه - قال : فينا نزلت { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا } قال : نحن الطائفتان : بنو حارثة وبنو سلمة ، وما نحب أنها لم تنزل لقوله - تعالى - { والله وَلِيُّهُمَا } .
أى : لفوط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله - تعالى - عليهم ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية . وأن ما حدثوا به أنفسهم لم يخرجهم عن ولايته سبحانه لأنهم لم ينساقوا وراء هذا الهم الباطل ، بل سرعان ما عادوا إلى يقينهم وإيمانهم الصادق ، وطاعتهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم .
ولذا قال صاحب الكشاف : والطائفتان حيان من الأنصار : بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس هموا باتباع عبد الله بن أبى عندما انخذل بثلث الناس وقال : يا قوم علام نقتل أنفسنا وأولادنا ! فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن ابن عباس قال : أضمروا أن يرجعوا ، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا . والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس . كما لا تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع ، ثم يردها صاحبها إلى الثبات والصبر ، ويوطنها على احتمال المكروه . لو كانت عزيمة لما ثبتت معها الولاية " .
وقد ختم - سبحانه - الآية بدعوة المؤمنين إلى التوكل عليه وحده فقال : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } .
والتوكل : تفعل من وكل فلان أمره إلى فلان . إذا اعتمد فى كفايته عليه ولم يتوله بنفسه .
والتوكل الحقيقى إنما يكون بعد الأخذ بالأسباب التى شرعها الله - تعالى - ثم بعد ذلك يترك الإنسان النتائج للخالق - عز وجل - يسيرها كيف يشاء . والجملة الكريمة أفادت قصر التوكل على الله وحده ، كما يؤذن به تقديم الجار والمجرور .
أى وعلى الله وحده لا على غيره فليكل المؤمنون أمورهم ، بعد اتخذا الأسباب التى أمرهم - سبحانه - باتخاذها ، فإنهم متى فعلوا ذلك تولاهم - سبحانه - بتأييده ورعايته .
{ إِذْ هَمّتْ طّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : والله سميع عليم حين همّت طائفتان منكم أن تفشلا . والطائفتان اللتان همتا بالفشل ذكر لنا أنهم بنو سَلِمة وبنو حارثة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشَلا } قال : بَنو حارثة كانوا نحو أحد ، وبنو سلمة نحو سلع ، وذلك يوم الخندق .
قال أبو جعفر : وقد دللنا على أن ذلك كان يوم أحد فيما مضى بما فيه الكفاية عن إعادته .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا } . . . الاَية ، وذلك يوم أحد ، والطائفتان : بنو سلمة ، وبنو حارثة ، حيان من الأنصار ، همّوا بأمر ، فعصمهم الله من ذلك . قال قتادة : وقد ذكر لنا أنه لما أنزلت هذه الاَية قالوا : ما يسرّنا أنا لم نهم بالذي هممنا به ، وقد أخبرنا الله أنه ولينا .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ } . . . الاَية ، وذلك يوم أحد ، فالطائفتان : بنو سلمة ، وبنو حارثة ، حيان من الأنصار ، فذكر مثل قول قتادة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل ، وقد وعدهم الفتح إن صبروا¹ فلما رجع عبد الله بن أبيّ ابن سلول في ثلثمائة ، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم ، فلما غلبوه وقالوا له : ما نعمل قتالاً ، ولئن أطعتنا لترجعنّ معنا ، وقال : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشَلا } وهم بنو سلمة ، وبنو حارثة ، هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبيّ ، فعصمهم الله ، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عكرة : نزلت في بني سلمة من الخزرج ، وبنى حارثة من الأوس ، ورأسهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشَلا } فهو بنو حارثة وبنو سلمة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشلا } والطائفتان : بنو سلمة من جشم بن الخزرج ، وبنو حارثة بن النبيت من الأوس ، وهما الجناحان .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشَلا } . . . الاَية ، قال : هما طائفتان من الأنصار همّا أن يفشلا ، فعصمهم الله ، وهزم عدوّهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ منكم أنْ تَفْشلاَ } قال : هم بنو سلمة ، وبنو حارثة وما نحبّ أن لو لم تكن همتا لقول الله عزّ وجلّ : { وَاللّهُ وَلِيّهُما } .
حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول ، فذكر نحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشلا } قال : هذا يوم أحد .
وأما قوله { أنْ تَفْشَلا } فإنه يعني : همّا أن يضعفا ويجبنا عن لقاء عدوّهما ، يقال منه : فشل فلان عن لقاء عدوّه يفشل فشلاً . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الفشل : الجبن .
وكان همهما الذي همّا به من الفشل : الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حين انصرف عنهم عبد الله بن أبيّ بن سلول ابن معه ، جبنا منهم ، من غير شكّ منهم في الإسلام ولا نفاق¹ فعصمهم الله مما هموا به من ذلك ، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجهه الذي مضى له ، وتركوا عبد الله بن أبيّ ابن سلول والمنافقين معه ، فأثنى الله عزّ وجلّ عليهما بثبوتهما على الحقّ ، وأخبر أنه وليهما وناصرهما على أعدائهما من الكفار . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَاللّهُ وَلِيّهُما } : أي الدافع عنهما ما هما به من فشلهما ، وذلك أنه إنما كان ذلك منهما عن ضعف ووهن أصابهما من غير شكّ أصابهما في دينهما ، فتولى دفع ذلك عنهما برحمته وعائدته ، حتى سلمتا من وهنهما وضعفهما ، ولحقتا بنبيهما صلى الله عليه وسلم¹ يقول : { وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ المُؤْمِنُونَ } أي من كان به ضعف من المؤمنين أو وهن فليتوكل عليّ ، وليستعن بي ، أعنه على أمره ، وأدفع عنه ، حتى أبلغ به وأقوّيه على نيته .
وذكر أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقرأ : «وَاللّهُ وَلِيّهُمْ » . وإنما جاز أن يقرأ ذلك كذلك ، لأن الطائفتين وإن كانتا في لفظ اثنين ، فإنهما في معنى جماع بمنزلة الخصمين والحزبين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.