التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

ثم عادت السورة بعد ذلك إلى تكملة الحديث عن أحوال المشركين السيئة ، وعن وجوب مقاتلتهم ، فقال تعالى . { إِنَّ عِدَّةَ الشهور . . . . القوم الكافرين } .

قال صحاب المنار ، هاتان الآيتان عود إلى الكلام في أحوال المشركين ، وما يشرع من معاملاتهم بعد الفتح ، وسقوط عصبية الشرك ، وكان الكلام قبل هاتين الآيتين - في قتال أهل الكتاب وما يجب أن ينتهى به من إعطاء الجزية من قبيل الاستطراد ، اقتضاه ما ذكر قبله من أحكام قتال المشركين ومعاملتهم ، وقد ختم الكلام في أهل الكتاب ببيان حال كثير من رجال الدين الذين أفسدت عليهم دينهم المطامع المالية ، التي هي وسيلة العظمة الدنيوية والشهوات الحيوانية ، وإنذار من كانت هذه حالهم بالعذاب الشديد يوم القيامة وجعل هذا الإِنذار موجهاً إلينا وإليهم جميعاً . .

والعدة - في قوله . إن عدة الشهور - : على وزن فعله من العدد وهى بمعنى المعدود . قال الراغب : العدة : هي الشئ المعدود ، قال - تعالى { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } أى : وما جعلنا عددهم إلا قتنة للذين كفروا . .

والشهور : جمع شهر . والمراد بها هنا : الشهور التي تتألف منها السنة القمرية وهى شهور . المحرم . وصفر . وربيع الأول . . الخ .

وهذه الشهور عليها مدار الأحكام الشرعية ، وبها يعتد المسلمون في عبادتهم وأعيادهم وسائر أمورهم .

والمراد بقوله : { يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض } : الوقت الذي خلقهما فيه ، وهو ستة أيام كما جاء في كثير من الآيات ، ومن ذلك قوله - تعالى - { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } والمعنى : إن عدد الشهور { عِندَ الله } أى : في حكمه وقضائه { اثنا عَشَرَ شَهْراً } هي الشهور القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية .

وقوله { فِي كِتَابِ الله } ، أى : في اللوح المحفوظ .

قال القرطبى : وأعاده بعد أن قال { عِندَ الله } لأن كثيراً من الأشياء يوصف بأنه عند الله ، ولا يقال إنه مكتوب في كتاب الله ، كقوله { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } وقيل معنى { فِي كِتَابِ الله } أى فيما كتبه - سبحانه - وأثبته وأوجب على عباده العمل به منذ خلق السماوات والأرض .

قال الجمل : وقوله . { فِي كِتَابِ الله } صفة لاثنى عشر ، وقوله : { يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض } متعلق بما تعلق به الظرف قبله من معنى الثبوت والاستقرار ، أو بالكتاب ، إن جعل مصدرا .

والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة أى : أن المقصود من هذه الآية الكريمة ، بيان أن كون الشهور كذلك حكم أثبته - سبحانه في اللوح المحفوظ منذ أوجد هذا العالم ، وبينه لأنبيائه على هذا الوضع . . فمن الواجب اتباع ترتيب الله لهذه الشهور ، والتزام أحكامها ونبذ ما كان يفعله أهل الجاهلية من تقديم بعض الشهور أو تأخيرها أو الزيادة عليها ، أو انتهاك حرمة المحرم منها .

وقوله : { حُرُمٌ } جمع حرام - كسحب جمع سحاب - مأخوذ من الحرمة وذلك لأن الله تعالى - أوجب على الناس احترام هذه الشهور ، ونهى عن القتال فيها :

وقد أجمع العلماء على أن المراد بها ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ، وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

فقد أخرج البخارى عن أبى بكر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبة حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم . ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " .

وسماه - صلى الله عليه وسلم - رجب مبضر ، لأن بنى ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً وكانت قبيلة مضر تحرم رجباً نفسه ، لذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيه " ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " .

قال ابن كثير . وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة : ثلاث سرد . وواحد فرد لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحرم قبل الحج شهراً وهو ذو القعدة يقعدون فيه عن القتال وحرم شهر ذى الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ، ويشتغلون بأداء المناسك ، وحرم بعده شهرا آخر هو المحرم ، ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمنا .

واسم الإِشارة في قوله : { ذلك الدين القيم } يعود إلى ما شعره الله - تعالى - من أن عدة الشهور أئنا عشر شهراً ، ومن أن منها أربعة حرم .

والقيم : القائم الثابت المستقيم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج أى : ذلك الذي شرعناه لكم من كون عدة الشهور كذلك ، ومن كون منها أربعة حرم : هو الدين القويم ، والشرع الثابت الحكيم ، الذي لا يقبل التغيير أو التبديل . . لا ما شرعه أهل الجاهلية لأنفسهم من تقديم بعض الشهور وتأخير بعضها استجابة لأهوائهم وشهواتهم ، وإرضاء لزعمائهم وسادتهم .

والضمير المؤنث في قوله { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } يرى ابن عباس أنه يعود على جميع الشهور أى : فلا تظلموا في الشهور الاثنى عشر أنفسهم ، بأن تفعلوا فيها شيئاً مما نهى الله عن فعله ، ويدخل في هذا النهى هتك حرمة الأشهر الأربعة الحرم دخولا أوليا .

ويرى جمهور العلماء أن الضمير يعود إلى الأشهر الأربعة الحرم ، لأنه إليها أقرب ؛ لأن الله تعالى قد خص هذه الأربعة بمزيد من الاحترام تشريفا لها .

وقد رجح ابن جرير ما ذهب إليه الجمهور فقال ما ملخصه : وأولى الأقوال في ذلك عندى بالصواب قول من قال : فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها ، فإن الله عظمها وعظم حرمتها .

وعن قتادة : إن الله اصطفى صفيا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلا ، ومن الناس رسلا ، واصطفى من الكلام ذكره ، واطفى من الأرض المساجد واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالى ليلة القدر ، فعظموا ما عظم الله ، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم . . فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فقد يكون مباحا لنا ظلم أنفسنا في غيرهن من سائر شهور السنة .

قيل : ليس ذلك كذلك ، بلذلك حرام علينا في كل وقت ولكن الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهم على سائر شهور لاسنة : فخص الذنب فيهن ، بالتعظيم كما خصهن بالتشريف ، وذلك نظير قوله - تعالى - { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } ولا شك أن الله قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات } ولم يبح ترك المحافظة عليهن بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى ، ولكنه تعالى - زادها تعظيما ، وعلى المحافظة عليها توكيداً ، وفى تضييعها تشديداً ، فكذلك في قوله { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } .

وقد كانت الجاهلية تعظم هذه الأشهر الحرم وتحرم القتال فيهن ، حتى لو لقى الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يهجه .

وقال القرطبى : لا يقال كيف جعلت بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض فإنا نقول : للبارى - تعالى - أن يفعل ما شاء ، ويخص بالفضيلة ما يشاء ليس لعمله علة ، ولا عليه حجر ، بل يفعل ما ريد بحكمته ، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى .

وقوله : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } تحريض للمؤمنين على قتال المشركين بقلوب مجتمعه ، وعزيمة صادقة .

وكلمة { كَآفَّةً } مصدر في موضع الحال من ضمير الفاعل في { قَاتِلُواْ } أو من المفعول وهو لفظ المشركين . ومعناها : جميعا .

وقالوا : وهذه الكلمة من الكلمات التي لا تثنى ولا تجمع ولا تدخلها أل ولا تعرب إلا حالا فهى ملزمة للإفراد والتأنيث مثل : عامة وخاصة .

أى : قاتلوا - أيها المؤمنون - المشركين جميعا ، كما يقاتلونكم هم جيمعا ، بأن تكونوا في قتالكم لهم مجتمعين متعاونين متناصرين . لا مختلفين ولا متخاذيلن .

وقوله : { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } تذييل قصد به إرشادهم إلى ما ينفعهم في قتالهم لأعدائهم بعد أمرهم به .

أى : واعلموا - أيها المؤمنون أن الله تعالى - مع عباده المتقين بالعون ولانصر والتأييد ، ومن كان الله معه فلن يغلبه شئ فكونوا - أيها المؤمنين من عباد الله المتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل ما نهى عنه ؛ لتنالوا عونه وتأدييده .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَات وَالأرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفّةً وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ } .

يقول تعالى ذكره : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ الذي كتب فيه كلّ ما هو كائن في قضائه الذي قضى ، يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ يقول : هذه الشهور الاثنا عشر ، منها أربعة أشهر حرم كانت الجاهلية تعظمهن وتحرّمهن وتحرّم القتال فيهنّ ، حتى لو لقي الرجل منهم فيهنّ قاتل أبيه لم يهجه . وهن : رجب مضر وثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم . وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال : ثني صدقة بن يسار ، عن ابن عمر ، قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق ، فقال : «يا أيّها النّاسُ ، إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا ، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، أوّلَهُنّ رَجَبُ مُضْرَ بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ وَذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجّةِ وَالمُحَرّمُ » .

حدثنا محمد بن معمر ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا أشعث ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا في كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَق السّمَوَاتِ والأرْضَ ، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِياتٌ وَرَجَبُ مُضْرَ بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ » .

حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي بكرة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع ، فقال : «ألاَ إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ ، السّنَةُ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا ، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِياثٌ : ذُو القَعْدَةِ ، وَذُو الحِجّةِ ، وَالمُحَرّمُ ، وَرَجَبُ مُضْرَ الّذِي بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ » .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سليمان التيمي ، قال : ثني رجل بالبحرين ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع : «ألاَ إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا ، مِنْهَا ثَلاثَةٌ مُتَوَالِياتٌ : ذُو القَعْدَةِ ، وَذُو الحِجّةِ ، وَالمُحَرّمُ ، وَرَجَبُ الّذِي بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، قوله : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ إن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو القَعْدَةِ ، وَذُو الحِجّةِ ، والمُحَرّمُ ، وَرَجَبُ الّذِي بينَ جُمادى وَشَعْبَانَ » .

حدثنا قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم منى : «ألاَ إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا ، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو القَعْدَةِ ، وَذُو الحِجّةِ ، وَالمُحَرّمُ ، وَرَجَبُ مُضْرَ الّذِي بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ » .

وهو قول عامة أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ أما أربعة حرم : فذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، ورجب . وأما كتاب الله : فالذي عنده .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا قال : يعرف بها شأن النسيء ما نقص من السنة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قول الله : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ قال : يذكر بها شأن النسيء .

وأما قوله : ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ . فإن معناه : هذا الذي أخبرتكم به ، من أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله ، وأن منها أربعة حرما : هو الدين المستقيم ، كما :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ يقول : المستقيم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قوله : ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ قال : الأمر القيم يقول : قال تعالى : واعلموا أيها الناس أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله الذي كتب فيه كل ما هو كائن ، وأن من هذه الاثني عشر شهرا أربعة أشهر حرما ذلك دين الله المستقيم ، لا ما يفعله النسيء من تحليله ما يحلل من شهور السنة وتحريمه ما يحرمه منها .

وأما قوله : فَلا تَظْلِمُوا فِيهنّ أنفُسَكُمْ فإن معناه : فلا تعصوا الله فيها ، ولا تحلوا فيهنّ ما حرّم الله عليكم ، فتكسبوا أنفسكم ما لا قبل لها به من سخط الله وعقابه . كما :

حدثني يونس ، قال : قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ قال : الظلم : العمل بمعاصي الله والترك لطاعته .

ثم اختلف أهل التأويل في الذي عادت عليه الهاء والنون في قوله : فيهنّ ، فقال بعضهم : عاد ذلك على الاثني عشر شهرا ، وقال : معناه : فلا تظلموا في الأشهر كلها أنفسكم . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلكَ الدّينُ القَيّمُ فلاَ تَظْلِمُوا فِيهنّ أنْفُسَكُمْ في كلهن . ثم خص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرما وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سويد بن عمرو ، عن حماد بن سلمة ، عن عليّ بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهنّ أنْفُسَكُمْ قال : في الشهور كلها .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : فلا تظلموا في الأربعة الأشهر الحرم أنفسكم ، والهاء والنون عائدة على الأشهر الأربعة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أما قوله : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ فإن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما ولكن الله يعظم من أمره ما شاء وقال : إن الله اصطفى صفايا من خلقه اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً ، واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر ، فعظموا ما عظم الله ، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : فلا تظلموا في تصييركم حرام الأشهر الأربعة حلالاً وحلاها حراما أنفسكم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا . . . إلى قوله : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ : أي لا تجعلوا حرامها حلالاً ، ولا حلالها حراما ، كما فعل أهل الشرك فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا . . . الآية .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ قال : ظلم أنفسكم : أن لا تحرّموهن كحرمتهن .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز . قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد بن عليّ : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ قال : ظلم أنفسكم أن لا تحرّموهن كحرمتهن .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد ، بنحوه .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها ، فإن الله عظمها وعظّم حرمتها .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويله لقوله : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ فأخرج الكناية عنه مخرج الكناية عن جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وذلك أن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة إذا كَنَتْ عنه : فعلنا ذلك لثلاث ليال خلون ، ولأربعة أيام بقين ، وإذا أخبرت عما فوق العشرة إلى العشرين ، قالت : فعلنا ذلك لثلاث عشرة خلت ، ولأربع عشرة مضت . فكان في قوله حلّ ثناؤه : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ وإخراجه كناية عدد الشهور التي نهى المؤمنين عن ظلم أنفسهم فِيهن مخرج عدد الجمع القليل من الثلاثة إلى العشرة الدليل الواضح على أن الهاء والنون من ذكر الأشهر الأربعة دون الاثني العشر لأن ذلك لو كان كناية عن الاثني عشر شهرا لكان : فلا تظلموا فيها أنفسكم .

فإن قال قائل : فما أنكرت أن يكون ذلك كناية عن الاثني عشر ، وإن كان الذي ذكرت هو المعروف في كلام العرب ، فقد علمت أن المعروف من كلامها إخراج كناية ما بين الثلاث إلى العشر بالهاء دون النون ، وقد قال الشاعر :

أصْبَحْنَ فِي قُرْحَ وفي دَارَاتِها *** سَبْعَ لَيالٍ غَيْرَ مَعْلُوفاتِها

ولم يقل : معلوفاتهن ، وذلك كناية عن السبع ؟ قيل : إن ذلك وإن كان جائزا فليس الأصح الأعرف في كلامها ، وتوجيه كلام الله إلى الأفصح الأعرف أولى من توجيهه إلى الأنكر .

فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فقد يجب أن يكون مباحا لنا ظلم أنفسنا في غيرهنّ من سائر شهور السنة ؟ قيل : ليس ذلك كذلك ، بل ذلك حرام علينا في كل وقت وزمان ، ولكن الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهن على سائر شهور السنة ، فخصّ الذنب فيهنّ بالتعظيم كما خصهنّ بالتشريف ، وذلك نظير قوله : حافِظُوا على الصّلَوَاتِ والصّلاةِ الوُسْطَى ولا شكّ أن الله قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله : حافِظُوا على الصّلَوَاتِ ولم يبح ترك المحافظة عليهن بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى ، ولكنه تعالى ذكره زادها تعظيما وعلى المحافظة عليها توكيدا وفي تضييعها تشديدا ، فكذلك ذلك في قوله : مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلكَ الدّينُ القَيّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ .

وأما قوله : وَقاتِلُوا المُشْرِكينَ كافّةً كمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافّةً فإنه يقول جلّ ثناؤه : وقاتلوا المشركين بالله أيها المؤمنون جميعا غير مختلفين ، مؤتلفين غير مفترقين ، كما يقاتلكم المشركون جميعا مجتمعين غير متفرقين . كما :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافّةً أما كافة فجميع وأمركم مجتمع .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وقَاتِلُوا المُشْرِكينَ كافّةً يقول : جميعا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً : أي جميعا .

والكافّة في كلّ حال على صورة واحدة لا تذكر ولا تجمع ، لأنها وإن كانت بلفظ فاعلة فإنها في معنى المصدر كالعافية والعاقبة ، ولا تدخل العرب فيها الألف واللام لكونها آخر الكلام مع الذي فيها من معنى المصدر ، كما لم يدخلوها إذا قالوا : قاموا معا وقاموا جميعا .

وأما قوله : واعْلَمُوا أنّ اللّهَ مَعَ المُتّقِينَ فإن معناه : واعلموا أيها المؤمنون بالله أنكم إن قاتلتم المشركين كافّة ، واتقيتم الله فأطعتموه فيما أمركم ونهاكم ولم تخالفوا أمره فتعصوه ، كان الله معكم على عدوّكم وعدُوه من المشركين ومن كان الله معه لم يغلبه شيء ، لأن الله مع من اتقاه فخافه وأطاعه فيما كلفه من أمره ونهيه .