التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{كَيۡفَ وَإِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ لَا يَرۡقُبُواْ فِيكُمۡ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ يُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَٰسِقُونَ} (8)

وقوله - سبحانه - { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً . . . } لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، ولاستنكار ان يكون لهم عهد حقيق بالمرعاة ، وبيان لما يكون عليه أمرهم عند ظهورهم على المؤمنين .

وفائدة هذا التكرار للفظ { كَيْفَ } : التأكيد والتمهيد لتعداد الأسباب التي تدعو المؤمنين إلى مجاهدتهم والإِغلاظ عليهم ، والحذر منهم .

قال الآلوسى : وحذف الفعل كيف هنا لكونه معلوماً من الآية السابقة ، وللإِيذان بأن النفس مستضحرة له ، مترقبة لورود ما يوجب استنكاره .

وقد كثر الحذف للفعل المستفهم عنه مع كيف ويدل عليه بجملة حالية بعده . ومن ذلك قول كعب الغنوى يرثى أخاه أبا المغوار :

وخبرتمانى أنما الموت بالقرى . . . فيكف وماتا هضبة وقليب

يريد فكيف مات والحال ما ذكر .

والمراد هنا : كيف يكون لهم عهد معتد به عند الله وعند رسوله وحالهم أنهم { وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } .

وقوله : { يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } يظفروا بكم ويغلبوكم . يقال : ظهرت على فلان أى : غلبته ومنه قوله - تعالى - { فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } أى : غالبين .

وقوله : { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ } أى : لا يراعوا في شأنكم . يقال : رقب فلان الشئ يرقبه إذا رعاه وحفظه . . ورقيب القوم حارسهم .

والإِل : يطلق على العهد ، وعلى القرابة ، وعلى الحلق .

قال ابن جرير - بعد أن ساق أوالا في معنى الإِل - وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : والإِل : اسم يشتمل على معان ثلاثة : وهى العهد والعقد ، والحلف ، والقرابة . . ومن ادلالة على أنه يكون بمعنى القرابة قول ابن مقبل :

أفسد الناس خلوف خلفوا . . . قطعوا الإِل وأعراق الرحم

أى قطعوا القرابة .

ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى العهد قول القائل :

وجدناهم كاذبا إلهم . . . وذو الإِل والعهد لا يكذب

وإذا كان الكلمة تشمل هذه المعانى الثلاثة ، ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى ، فالصواب أن يعم ذلك كما عم بها - جل ثناؤه - معانيها الثلاثة . .

والذمة : كل أمر لزمك بحيث إذا ضيعته لزمك مذمة أو هي ما يتذمم به أى يجتنب فيه الذم .

والمعنى : بأية صفة أو بأية كيفية يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ، والحال المعهود منهم أن إن يظفروا بكم ويغلبوكم ، لا يراعوا في أمركم لا عهدا ولا حلفا ولا قرابة ولا حقا من الحقوق .

وقوله - تعالى - { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } زيادة بيان للأحال القبيحة الملازمة لهؤلاء المشركين .

أى : أن هؤلاء المشركين إن غلبوكم - أيها المؤمنون - فلعوا بكم الأفاعيل ، وتفتنوا في إيذاكم من غير أن يقيموا وزنا لما بينكم وبينهم من عهود وموايثق ، وقرابات وصلات . . أما إذا كانت الغلبة لكم فإنهم في هذه الحالة { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ } أى : يعطونكم من ألسنتهم كلاما معسولا إرضاء لكم ، وهم في الوقت نفسه { وتأبى قُلُوبُهُمْ } المملوءة حقدا عليكم وبغضا لكم تصديق ألسنتهم ، فهم كما وصفهم - سبحانه - في آية أخرى : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } وقوله : { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } أى : خارجون عن حدود الحق ، منفصلون عن كل فضيلة ومكرمة ، إذ الفسق هو الخروج والانفصال . يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها وفسق فلان إذا خرج عن حدود الشرع .

وإنما وصف أكرهم بالفسوق ، لأن هؤلاء الاكثرين منهم ، هم الناقضون لعهودهم ، الخارجون على حدود ربهم ، أما الأقلون منهم فهم الذين وفوا بعهودهم ، ولم ينقصوا المؤمنين شيئا ، ولم يظاهروا عليهم أحدا .

وبذلك نرى أن الاية الكريمة قد وصفت هؤلاء المشركين وصفا في نهاية الذم والقبح ، لأنهم إن كانوا أقوياء فجروا واسرفوا في الإِيذاء ، نابذين كل عهد وقراءة وعرف . . أما إذا شعروا بالضعف فإنهم يقدمون للمؤمنين الكلام اللين الذي تنطق به ألسنتهم ، وتأباه قلوبهم الحاقدة الغادرة .

أى أن الغدر ملازم لهم في حالتى قوتهم وضعفهم ، لأنهم في حالة قوتهم { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } . وفى حالة ضعفهم يخادعون ويداهون حتى تحين لهم الفرصة للانقضاض على المؤمنين .