فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

{ كنتم } وجدتم وخلقتم{ أخرجت } أظهرت .

{ بالمعروف } بالخير والبر والطاعات . { المنكر } السوء والشر . والمحرمات .

لما أجرى الكلام في مخاطبة المؤمنين إلى بيان أن كل ما في الوجود ملكه وملكه إبداعا . . وأن منتهى الكل إليه أتبع ذلك مزية هذه الأمة ليعلم أنها بسابقة العناية الأزلية إذ جعلهم مظهر الألطاف وذكر بعدها رذيلة أهل الكتاب ليعرف أنها لوقوعهم في طريق القهر ولا اعتراض لأحد على ما يفعله المالك في ملكه . . قال بعض المفسرين كان ههنا تامة ، وانتصاب { خير أمة } على الحال أي حدثتم ووجدتم خير أمة ، والأكثرون على أنها – كان- ناقصة فجاء إيهام أنهم موصوفون بالخيرية في الزمان الماضي دونما يستقبل ، فأجيب بأن كان لا تدل على عدم سابق ولا انقطاع طارئ بدليل قوله { . . وكان الله غفورا رحيما }{[1097]} . وقيل المراد كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ . . أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة كقوله{ . . ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل . . }{[1098]} . . وقيل إنها بمعنى صار أي صرتم خير أمة وأصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الطائفة الموصوفة بالإيمان به والإقرار بنبوته وإذا أطلقت الأمة في نحو قول العلماء اجتمعت الأمة ، وقعت عليهم ، يقال لكل من جمعتهم دعوته إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم لفظ الأمة إلا بهذا القيد . قال الزجاج : ظاهر الخطاب في { كنتم } مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه عام في حق كل الأمة ونظيره { . . كتب عليكم القصاص . . }{[1099]} { . . كتب عليكم الصيام . . }{[1100]} - {[1101]} .

وقد وردت أحاديث كثيرة صحيحة تشهد بفضل هذه الأمة وشرفها وكرامتها على الله عز وجل وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة ، ففي الصحيحين عن عبد الله ابن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ) ؟ فكبرنا ثم قال ( إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ) وفيهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( نحن الآخرون الأولون يوم القيامة نحن أول الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وآتيناه من بعدهم فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه الناس لنا فيه تبع غدا لليهود وللنصارى بعد غد ) .

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ) ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئا وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله فقال ( ما الذي تخوضون فيه ؟ ) فأخبروه فقال : ( هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) فقام عكاشة بن محصن فقال ادع الله أن يجعلني منهم قال ( أنت منهم ) ثم قام رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم قال ( سبقك بها عكاشة ) .

ونقل المفسرون بالمأثور عن قتادة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : يا أيها الناس من سره أن يكون من تلكم الأمة فليؤد شرط الله تعالى منها كأنه يشير بذلك إلى قول المولى سبحانه { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } وجملة تأمرون وما بعدها في موقع الحال أي كنتم خير أمة حال كونكم آمرين بالبر والطاعات ناهين عن السوء والخطيئات مؤمنين بالله تعالى وبما يجب عليكم الإيمان به من الملائكة والآخرة والرسل والرسالات .

- وأما الإيمان بالله فلا شك أنه في هذه الأمة أكمل لأنهم آمنوا بكل ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو ثواب أو عقاب إلى غير ذلك ولا يقولون : نؤمن ببعض ونكفر ببعض . . . وإنما قدم الأمر بالمعروف على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات لأن الآية سيقت لبيان فضل الأمر بالمعروف وتأكد القيام به ولهذا كرر بعد قوله { ولتكن منكم أمة يدعون {[1102]} إلى الخير ويأمرون بالمعروف . . } . . على أن الواو لا تفيد الترتيب -{[1103]} .

{ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم } لو أقر واستيقن أهل التوراة والإنجيل بما يجب الإيمان به كما استيقن المسلمون وأقروا وصدقوا بالله تعالى وكافة رسله وكتبه لكان أولى{[1104]} لهم من أن يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض ويصدقوا بنبوة رسول الله ويجحدوا نبوة غيره ؛ { منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } من اليهود والنصارى قلة آمنت بالرسالة الخاتمة والرسول الخاتم كعبد الله بن سلام وغيره وأكثر اليهود والنصارى فسقوا عن هدى الله وخرجوا عن ميثاقه الذي أخذ عليهم أن يؤمنوا بكل الرسل وأن يتبعوا النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .

ثم قال تعالى مخبرا عباده المؤمنين ومبشرا لهم أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين فقال تعالى { لن يضروكم {[1105]} إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون }{[1106]} .


[1097]:سورة النساء الآية 96.
[1098]:سورة الفتح من الآية 29.
[1099]:سورة البقرة من الآية 178
[1100]:سورة البقرة من الآية 183.
[1101]:من تفسير غرائب القرآن.
[1102]:وقد يتمسك بهذا في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأنه ليس من أهل الفلاح وأجيب بأن هذا ورد على سبيل الغالب فإن الظاهر أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا يشرع فيه إلا بعد صلاح أحوال نفسه لأن العاقل يقدم مهم نفسه على مهم الغير وقلما يتفق ممن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت وجهها ؟ قال بعض العلماء: إن ترك ارتكاب المنهي عنه والنهي عن ارتكاب المنهي عنه واجبان على الفاسق فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر وعن بعض السلف: مروا بالخير وإن لم تفعلوا، وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول: لا أقول ما لا أفعل فقال وأينا يفعل ما يقول ؟ ود الشيطان لو ظفر بهذه منكم فلا يأمر أحد بالمعروف ولا ينهى عن المنكر والحق في هذه القضية ما قيل: وغير تقي يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي الناس وهو مريض النهي ما أورده الحسن النيسابوري وأقول: الأفضل أن يطابق القول العمل لكن على المنصوح أن يقبل التذكير بالحق وأن يتلقى الحكمة فهو أحق الناس بها ولعل الناصح ينفعه نصحه يوما.
[1103]:مما جاء في تفسير غرائب القرآن.
[1104]:نبه صاحب تفسير غرائب القرآن إلى أن {خيرا} لست لبيان أن ما يدعون إليه يشارك ما هم عليه الخيرية لكنه يزيد عليه فيها: فأورد: لحصلت لهم صفة الخيرية أيضا لانضمامهم في زمرة هذه الآي أو لحصل لهم في اليأس وحظوظ الدنيا ما هو خير مما تركوا هذا الدين لأجله لأن الحاصل على هذا التقدير عزة الإسلام مع الفوز بما وعدوا من إتيان الأجر في الآخرة مرتين وعليه ما هم فيه ليس إلا استتباع بعض الجهلة من العوام وشيء نزر من الرشا وبعد ذلك خلود في النار.1هـ.
[1105]:لن يضركم الضرر الحقيقي الذي يتمثل في الحرب والنهب ونحوها لكن يصيبكم منهم أذى من بهتانهم وافترائهم الكذب فالاستثناء على هذا منقطع.
[1106]:مما أورد المفسرون: وإنما لم يجزم بالعطف على {يولوكم} لئلا يصير نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم بل يرفع ليكون وعد النصر وعدا مطلقا وتكون هذه الجملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء كأنه قيل أخبرهم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ثم أخبركم وأبشركم أن النصر والقوة منتف عنهم رأسا فلن يستقيم لهم أمر البتة ومعنى {ثم} إفادة التراخي في الرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بانهزامهم عند القتال فإن قيل هب أن اليهود كذلك لكن النصارى قد يوجد لهم قوة وشوكة في ديارهم قلنا هذه الآيات مخصوصة باليهود وأسباب النزول تدل على ذلك فكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع وأهل خيبر أو لعل المراد نفي النصرة عنهم بعد القتال ولم يوجد نصراني بهذه الحالة وفي الآية تشجيع للمؤمنين وتثبيت لمن آمن من أهل الكتاب كيلا يلتفتوا إلى تضليلاتهم وتحريفاتهم.